وسيتكلم هنا عن مسألة الإقسام بغير الله والرغبة إليه ونحو ذلك، وما يترتب على هذا من الابتداع، أو ما ابتدع الناس في هذا الجانب، خاصة في الإقسام بالنبي صلى الله عليه وسلم، ودعوى أن ذلك من تعظيمه.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: [ وإذا كان الإقسام بغير الله والرغبة إليه وخشيته وتقواه ونحو ذلك هي من الأحكام التي اشتركت المخلوقات فيها؛ فليس لمخلوق أن يقسم به، ولا يتقي ولا يتوكل عليه وإن كان أفضل المخلوقات، ولا يستحق ذلك أحد من الملائكة والنبيين، فضلاً عن غيرهم من المشايخ والصالحين.
فسؤال الله تعالى بالمخلوقات إن كان بما أقسم به وعظمه من المخلوقات؛ فيسوغ السؤال بذلك كله.. ].
قصد المؤلف بقوله: (وعظمه): مما يعظمه الناس، وخاصة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن له من المحبة والتوقير ما ليس لغيره من الخلق، لكن هذا لا يبرر أن يقسم به على الله؛ لأن حق الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو حق له، والمسلم إنما يحقق الشرف والقرب إلى الله عز وجل باتباعه الرسول صلى الله عليه وسلم، لا بالإقسام بحقه، ولا الإقسام بذاته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز جعله وسيطاً بذاته أو بحقوقه بين العبد والخالق.
وسبق الكلام على مسألة التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم، وفهمت أن بعض الإخوان أشكل عليه جانب من حديثي في درس سابق، وهو أني -فيما أظن- قلت له: يجوز في عهد النبي صلى الله عليه وسلم التوسل بذاته الذي هو بمعنى التبرك، على اعتبار أن بعض الناس يسمي التبرك توسلاً.
أقول: نعم، النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي يجوز التبرك بذاته، لا التوسل بمعنى اتخاذ ذاته وسيلة بين الله والعبد، هذا لا يجوز، لكن التبرك بمعنى التماس البركة بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأشيائه وذاته في حياته؛ لأن الصحابة كانوا يفعلون ذلك.
وأما التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت فعلى نوعين:
النوع الأول: التبرك الذي نتحدث عنه، بمعنى: التماس البركة، لا اتخاذه واسطة بين الله وبين خلقه، ولكن التبرك فيما يتعلق بمصالح الناس الدنيوية ونحوها؛ هذا نوع.
النوع الثاني: التوسل به بمعنى أن يطلب منه الإنسان الدعاء، كما حدث للأعمى، وكلتا الصورتين لا تكونان إلا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي حياته، وأيضاً بما بقي من أشيائه بعد مماته -وقد انقرضت فلم يبق من أشياء النبي صلى الله عليه وسلم التي استعملها شيء- فمن هنا نقول جزماً: انقطع التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بأي شكل من الأشكال وبأي صورة من الصور، سواء كان التبرك بأشيائه أو بذاته في حياته، فقد انتهى ذلك، أو كان التوسل بمعنى: طلب دعائه؛ وهذا انقطع بوفاته صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يملك أن يجيب، ولا يملك أن يدعو بعد وفاته فقد لقي ربه.
ولو فرَّق مفرِّق بين ما يؤمن به وبين ما لا يؤمن به؛ قيل له: فيجب الإيمان بالملائكة والنبيين، ويؤمن بكل ما أخبر به الرسول، مثل منكر ونكير، والحور العين، والوِلْدَان وغير ذلك، أفيجوز أن يقسم بهذه المخلوقات لكونه يجب الإيمان بها، أم يجوز السؤال بها كذلك؟
فتبين أن السؤال بالأسباب إذا لم يكن المسئول به سبباً لإجابة الدعاء، فلا فرق بين السؤال بمخلوق ومخلوق، كما لا فرق بين القسم بمخلوق ومخلوق، وكل ذلك غير جائز؛ فتبين أنه لا يجوز ذلك كما قاله من قاله من العلماء، والله أعلم.. ].
يعني: فبينوا أن السؤال بالأسباب إذا لم يكن المسئول به سبباً شرعياً لإجابة الدعاء كالعمل الصالح، فلا فرق بين السؤال بالمخلوق والمخلوق.
فلا يزال الشيخ يقرر ما سبق الكلام عنه، ولا يزال يرد على أولئك الذين يتوسلون بالأشياء والمخلوقات ويجعلونها سبباً لإجابة الدعاء، وليس ذلك عندهم في جميع الأوقات، بل يخصون أفراداً أو أنواعاً من المخلوقات، ومشاهد وآثاراً وأشخاصاً بعينها، فالشيخ يقول: هناك أشياء معظمة كتعظيم ما تعبدونه وتتخذونه مشاهد وآثار وسائط عند الله أنتم لا تجيزون أن تكون واسطة عند الله، هذا فرق.
إذاً: فيغلق مبدأ اتخاذ الواسطة إلا إذا كان لسبب شرعي، والسبب الشرعي هو عمل الإنسان نفسه، أو ما شرعه الله مثل طلب الدعاء من الرجل الصالح ونحو ذلك.
هذا هو النقل الثابت عند أهل التفسير، وعليه يدل القرآن؛ فإنه قال تعالى: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ [البقرة:89]، والاستفتاح: الاستنصار، وهو طلب الفتح والنصر، فطلب الفتح والنصر به هو أن يبعث فيقاتلونهم معه؛ فبهذا ينصرون، ليس هو بإقسامهم به وسؤالهم به، إذ لو كان كذلك لكانوا إذا سألوا أو أقسموا به نصروا، ولم يكن الأمر كذلك، بل لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم نصر الله من آمن به وجاهد معه على من خالفه.
وما ذكره بعض المفسرين من أنهم كانوا يقسمون به أو يسألون به؛ فهو نقل شاذ مخالف به للنقول الكثيرة المستفيضة المخالفة له.. ].
يقصد الشيخ شيئاً سيذكره بعد قليل، فأحب أن أنبه على أن الشيخ رد على دعوى يدعيها أهل البدع من أصحاب التوسلات البدعية، ويعتمدون فيها على أحاديث ضعيفة، يدعون أن الاستفتاح الذي كان يستفتح به أهل الكتاب هو السؤال بالنبي الذي سيبعث أن ينصرهم، فيقول الشيخ: إن هذا لم يحدث، وهو مبني على أحاديث مكذوبة.
والأمر الآخر: أنه ما كان هذا من الاستفتاح الذي كانوا يستفتحون به، وإنما كان بنو إسرائيل يتوعدون العرب بأنه سيبعث نبي يقاتلونهم معه، ويقولون للعرب: اصبروا قليلاً! سيأتينا نبي ينصرنا ونقاتلكم معه، فننصر عليكم.
هذا هو نوع الاستفتاح الذي كانوا يستفتحون به ويتوعدون به.
أما أنهم يسألون بحق النبي فهذا لم يثبت، وما ورد في ذلك من الأحاديث إنما هو ضعيف أو موضوع لا أصل له.
قال رحمه الله تعالى: [ وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في (دلائل النبوة)، وفي كتاب (الاستغاثة الكبير)، وكتب السيرة ودلائل النبوة والتفسير مشحونة بذلك.
قال أبو العالية وغيره: كان اليهود إذا استنصروا بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوباً عندنا حتى نغلب المشركين ونقتلهم، فلما بعث الله محمداً ورأوا أنه من غيرهم؛ كفروا به حسداً للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآيات: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89].
وروى محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن رجال من قومه قالوا: مما دعانا إلى الإسلام -مع رحمة الله وهداه- ما كنا نسمع من رجال يهود، وكنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس عندنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمان نبي يبعث الآن؛ فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، كثيراً ما كنا نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله محمداً رسولاً من عنده أجبناه حين دعانا إلى الله، وعرفنا ما كانوا يتوعدونا به، فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به؛ ففينا وفيهم نزل هؤلاء الآيات التي في البقرة: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89].
ولم يذكر ابن أبي حاتم وغيره ممن جمع كلام مفسري السلف إلا هذا، وهذا لم يذكر فيه السؤال به عن أحد من السلف، بل ذكروا الإخبار به، أو سؤال الله أن يبعثه:
فروى ابن أبي حاتم عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:89]، قال: يستظهرون، يقولون: نحن نعين محمداً عليهم، وليسوا كذلك، يكذبون.
وروى عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ، قال: كانوا يقولون: إنه سيأتي نبي، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة:89].
وروى بإسناده عن ابن إسحاق : حدثنا محمد بن أبي محمد قال: أخبرني عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يهوداً كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة : يا معشر يهود! اتقوا الله وأسلموا؛ فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك، وتخبرونا بأنه مبعوث، وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم؛ فأنزل الله تعالى في ذلك: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89].
وروى بإسناده عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوباً عندنا؛ حتى نعذب المشركين ونقتلهم، فلما بعث الله محمداً ورأوا أنه من غيرهم؛ كفروا به حسداً للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89] ].
وفي نسخة: (إلى إخراجه)، وكلتاهما صحيحتان.
وقصد الشيخ: أن هذا الحديث اضطر بحكم سنده فيما يظهر لي أن يخرجه، هذا الذي يظهر أنه التزم إخراج الأحاديث على شرط الصحيحين، فتوهم أن هذا على شرط الصحيحين.
وقول المؤلف رحمه الله تعالى: (وهذا مما أنكره عليه العلماء..).
يعني: أنكروا وما وافقوه أن هذا على شرط الصحيحين، كما هو معروف أنه استدرك على الحاكم مستدركات كثيرة، من ضمنها هذا الحديث.
قال رحمه الله تعالى: [ فإن عبد الملك بن هارون من أضعف الناس، وهو عند أهل العلم بالرجال متروك، بل كذاب، وقد تقدم ما ذكره يحيى بن معين وغيره من الأئمة في حقه.
قلت: وهذا الحديث من جملتها، وكذلك الحديث الآخر الذي يرويه عن أبي بكر كما تقدم.
ومما يبين ذلك أن قوله تعالى: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:89]، إنما نزلت باتفاق أهل التفسير والسير في اليهود المجاورين للمدينة أولاً؛ كبني قينقاع، وقريظة، والنضير، وهم الذين كانوا يحالفون الأوس والخزرج.. ].
يعني: لم تنزل هذه الآيات في أهل خيبر باتفاق المفسرين؛ لأنها وردت في حال اليهود الذين هم جيران أهل المدينة، أو ساكنو المدينة.
قال رحمه الله تعالى: [ وهم الذين عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، ثم لما نقضوا العهد حاربهم، فحارب أولاً بني قينقاع، ثم النضير -وفيهم نزلت سورة الحشر- ثم قريظة عام الخندق.
فكيف يقال: نزلت في يهود خيبر وغطفان؟ فإن هذا من كذاب جاهل لم يحسن كيف يكذب.
ومما يبين ذلك: أنه ذكر فيه انتصار اليهود على غطفان لما دعوا بهذا الدعاء، وهذا مما لم ينقله أحد غير هذا الكذاب، ولو كان هذا مما وقع؛ لكان مما تتوفر دواعي الصادقين على نقله.
ومما ينبغي أن يعلم: أن مثل هذا اللفظ لو كان مما يقتضي السؤال به، والإقسام به على الله تعالى؛ لم يكن مثل هذا مما يجوز أن يعتمد عليه في الأحكام؛ لأنه -أولاً- لم يثبت، وليس في الآية ما يدل عليه.. ].
يقصد باللفظ: ما سبق في الحديث الضعيف أو الموضوع السابق: (اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي)، يقول: هذا لم يثبت، ولو ثبت فهو ليس على هذا الوجه الذي فسروه به.
أي: لو ثبت -جدلاً- الحديث، أو أن اليهود كانوا يقولون: اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي، فإنه من قولهم، وهم ليسوا قدوة لنا، وليس شرعهم من شرعنا، وهذا الذي فعلوه كان قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فلو افترضنا أنهم فعلوه فليس من شرع محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجب أن نتبعه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا كقوله تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ [الأنفال:19]، والاستفتاح طلب الفتح وهو النصر.
ومنه الحديث المأثور أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين، أي: يستنصر بهم، أي: بدعائهم، كما قال: (وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم، بصلاتهم ودعائهم وإخلاصهم؟!).
وهذا قد يكون بأن يطلبوا من الله تعالى أن ينصرهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان، بأن يعجل بعث ذلك النبي إليهم لينتصروا به عليهم، لا لأنهم أقسموا على الله وسألوا به؛ ولهذا قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89]، فلو لم ترد الآثار التي تدل على أن هذا معنى الآية؛ لم يجز لأحد أن يحمل الآية على ذلك المعنى المتنازع فيه بلا دليل؛ لأنه لا دلالة فيها عليه، فكيف وقد جاءت الآثار بذلك؟
وأما ما تقدم ذكره عن اليهود من أنهم كانوا ينصرون، فقد بيَّنا أنه شاذ، وليس هو من الآثار المعروفة في هذا الباب، فإن اليهود لم يعرف أنها غلبت العرب، بل كانوا مغلوبين معهم، وكانوا يحالفون العرب، فيحالف كل فريق فريقاً، كما كانت قريظة حلفاء الأوس، وكانت النضير حلفاء الخزرج.. ].
المقصود بذلك: أن أهل البدع الذين يستدلون بهذا الموضوع فيدعون أن اليهود كانوا إذا قالوا هذا الدعاء الذي هو التوسل -بزعمهم- بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بحقه، أنهم كانوا ينصرون، فيقول الشيخ: هذا خلاف الواقع، فإن اليهود ما كانوا ينصرون، بل كانوا دائماً يغلبون، ولم يكونوا ينصرون إلا بالتحالف مع آخرين، فيكون الناصر لهم من غيرهم ممن ينتصرون به.
فيقول: أصل الملابسات التي وضع لها هذا الحديث أيضاً غير صحيحة، مما يدل على أن في هذا الاستدلال شك من أصله في سنده وفي لفظه.
قال رحمه الله تعالى: [ وأما كون اليهود كانوا ينتصرون على العرب فهذا لا يعرف، بل المعروف خلافه، والله تعالى قد أخبر بما يدل على ذلك، فقال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [آل عمران:112].
فاليهود -من حين ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس- لم يكونوا بمجردهم ينتصرون لا على العرب ولا غيرهم، وإنما كانوا يقاتلون مع حلفائهم قبل الإسلام، والذلة ضربت عليهم من حين بعث المسيح عليه السلام فكذبوه، قال تعالى: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55].
وكانوا قد قتلوا يحيى بن زكريا وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [البقرة:61].. ].
واقع اليهود كما ذكر الشيخ أنه كتب الله عليهم الذلة، فإنهم لا ينصرون إلا بحبل من الله وحبل من الناس، أما الحبل من الله فمنها أن الله عز وجل جعلهم عقوبة على المسلمين، أو على غيرهم من الأمم، وحبل من الناس فإنه لا يعرف أن اليهود انتصروا بمفردهم أبداً، ولا أن لهم عزة وكياناً بمفردهم، إلا إذا قامت معهم قوة، كما في عصرنا الحاضر، فاليهود الآن اجتمعوا في فلسطين، لكن لم يجتمعوا إلا بدعم من الدول التي تحميهم، ولولا ذلك لم يكن لهم أي كيان، والواقع الآن يؤيد ذلك، فهم يرتبطون بقوة عالمية تحميهم وتنافح عنهم وتدعمهم في الاقتصاد والسلاح والسياسة بكل الوسائل، وهذا مصداق كلام الله عز وجل وحكمه فيهم.
وهذا دليل -أيضاً- على ضعف المسلمين واستكانتهم، وإخلالهم بحق هذا الدين.
قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالمسيح وعزير وغيرهما، فنهى الله عن ذلك، وأخبر تعالى أن هؤلاء يرجون رحمة الله ويخافون عذابه ويتقربون إليه، وأنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله عنهم.
وقد قال تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:79-80] ].
وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم؛ إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)، متفق عليه.
وقال: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، بل ما شاء الله ثم شاء محمد)، وقال له بعض الأعراب: (ما شاء الله وشئت؛ فقال: أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده).
وقد قال الله تعالى له: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ [الأعراف:188]، وقال تعالى: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً [يونس:49]، وقال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، وقال تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]، وهذا تحقيق التوحيد، مع أنه صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق على الله، وأعلاهم منزلة عند الله ].
وفي صحيح مسلم في آخره: (أنه قال قبل أن يموت بخمس: إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك).
وفي صحيح مسلم -أيضاً- وغيره أنه قال: (لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها).
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد وأبي هريرة -وله طرق متعددة عن غيرهما- أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى).
وسئل مالك عن رجل نذر أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال مالك: إن كان أراد القبر فلا يأته، وإن أراد المسجد فليأته، ثم ذكر الحديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، ذكره القاضي إسماعيل في مبسوطه.. ].
هذا استطراد في حق الرسول صلى الله عليه وسلم ليبين الشيخ ما يدخل في حقوق النبي صلى الله عليه وسلم، وما يتجاوز الحقوق المشروعة، وهو الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم والإطراء.
ومن ذلك اتخذ قبره مسجداً، أي: الصلاة إليه أو التمسح به أو التوسل به توسلاً بدعياً، أو نحو ذلك مما يفعله أهل الأهواء.
وكذلك أراد أن يبين أن كل ما يتعدى حدود الطاعة فلا يعتبر من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء الأمر بطاعته، وأن طاعته من طاعة الله، أما العبادة فلا تكون إلا لله، ولذلك إذا جاء ذكر الطاعة في القرآن وفي السنة فإنه يذكر طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد طاعة الله، كقوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة:92]، ففيما يتعلق بالطاعة والتشريع نجد أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تقرن بطاعة الله، لكن في مسألة العبادة لا يرد إلا قصر العبادة على الله عز وجل.
ومن ذلك ما يتعلق بذرائع العبادة ووسائل العبادة، مثل التبرك والتوسل والتعظيم، واتخاذ المساجد ونحو ذلك، فكل ذلك لا يجوز في حق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مما يتجاوز الحد المشروع، والمساجد لا تكون إلا لله عز وجل، والتقديس لا يكون إلا لله، والعبادة لا تكون إلا لله.
فالشيخ يطول استطراده إلى ذكر القبور والمساجد؛ لأن أهل البدع جعلوا من قبر النبي صلى الله عليه وسلم معبداً يدعونه من دون الله، ويستقبلونه من دون القبلة، ونحو ذلك مما يفعلونه، وكل ذلك مما تجاوزوا به الحد المشروع.
فحقه تبارك وتعالى: أن يعبد ولا يشرك به كما تقدم في حديث معاذ .
ومن عبادته تعالى: أن يخلصوا له الدين ويتوكلوا عليه ويرغبوا إليه، ولا يجعلوا لله نداً: لا في محبته ولا خشيته ولا دعائه ولا الاستعانة به، كما في الصحيحين أنه قال صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يدعو نداً من دون الله؛ دخل النار).
وسئل: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك)، وقيل له: (ما شاء الله وشئت؛ فقال: أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده).
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وقال تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22].. وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [النحل:51].. فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56].
وقال تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:7-8]، وقال تعالى في فاتحة الكتاب التي هي أم القرآن: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وقال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165]، وقال تعالى: فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي [المائدة:44]، وقال تعالى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ [الأحزاب:39].
ولهذا لما كان المشركون يخوفون إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه قال تعالى: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:80-82].
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: (لما نزلت هذه الآية: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إنما ذلك الشرك كما قال العبد الصالح: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]) ].
وهذه الآية لو أخذت على ظاهرها وفهمها الصحابة فهماً ظاهراً؛ لكان فيها مشقة وعنت على الأمة، ومثل هذه الآية كثير في كتاب الله وفي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله، هناك طائفة من النصوص لا يدرك فهمها إلا من قبل الراسخين على قواعد الشرع.
ومن هنا ينبغي أن نعرف جيداً ما تميز به أهل السنة والجماعة في الاستدلال عن غيرهم من أهل الأهواء، وهو أنهم:
أولاً: يستدلون للنصوص بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم لها، إذا ورد تفسير للنصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن نقف عنده، مثل تفسيره لهذه الآية، فإنه فسر الظلم على غير ما نفهمه، ففسره بالشرك.
ثانياً: أنه لا بد أيضاً من اعتبار فعل النبي صلى الله عليه وسلم في تطبيقه للنصوص، في هذا أيضاً تفسير عملي، حتى لو لم يقل أو لم ينطق.
ثالثاً: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للناس على ما يفعلونه عند امتثالهم للنصوص، فإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لأفعال الناس يعتبر تشريعاً وتفسيراً معصوماً.
ثم تفسير الصحابة وفهمهم؛ لأنهم عرب أقحاح، ولأنهم أيضاً فهموا القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، فكان يؤيدهم ويقرهم، فتفسيرهم للقرآن أيضاً حجة.
ثم تفسير السلف؛ لأنه سبيل المؤمنين.. أعني أن فهم السلف للنصوص يتمثل به سبيل المؤمنين الذي توعد الله من خالفه وجعله مشاقاً لله ولرسوله، فقال عز وجل: وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً [النساء:115]، فسبيل المؤمنين هو ما تمثل به منهجهم، وأول وأعظم أصول السلف: منهجهم العلمي والعملي في تفسير النصوص.
أقول: تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الآية على غير ما يظهر للناس دليل على أنه لا بد في تفسير النصوص من الرجوع إلى قواعد التفسير.. وإلى قواعد فهم النصوص وفقهها، وهذا أمر اختل عند جميع أهل الأهواء والافتراق فضلوا عن السنة.
وقال تعالى: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة:59].
فجعل سبحانه الإيتاء لله والرسول في أول الكلام وآخره، كقوله تعالى: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، مع جعله الفضل لله وحده، والرغبة إلى الله وحده.. ].
خلاصة هذه القاعدة التي أشار إليها الشيخ في مسألة الطاعة، والفرق بين الطاعة والعبادة، أو الفرق بين الطاعة والتقديس والخشية، أن نقول: إن الأنبياء يطاعون في التشريع ويتبعون فيه لأن هذا هو ما أمر الله تعالى به، ولا يمكن أن يستفيد الناس، ولا أن تنجو الأمم إلا بطاعة الرسل، لكن لا تتجاوز هذه الطاعة ما لا يجوز إلا لله عز وجل، فمسألة العبودية لا تكون إلا لله، والربوبية لا تكون إلا لله، القدر لا يكون إلا بيد الله.
هذه الأمور الثلاثة لا يشرك فيها معه أحد حتى الأنبياء والمرسلون.
فمن عرف هذا الحد؛ تصور جيداً معنى التوحيد، وأنه يعني: إخلاص العبادة لله عز وجل في إلهيته وربوبيته، وكذلك إخلاص القدر لله عز وجل، فلا يملك الأقدار خيرها وشرها إلا الله سبحانه.
والأنبياء كلهم أتوا بأن لا يطاع إلا الله، وأن لا يعبد إلا الله، فقضيتهم الكبرى التي بعثوا بها هي تحرير عقائد الناس في هذه الأمور: أن لا يشركوا في العبادة، ولا يشركوا في الربوبية، ولا يشركوا في القدر فينسبونه لغير الله، فإنه لا مقدر إلا الله عز وجل الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، وهو يجير ولا يجار عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهو تعالى وحده حسبهم لا شريك له في ذلك.
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: (حسبنا الله ونعم الوكيل، قال: قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين: قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]).
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64]، ومعنى ذلك عند جماهير السلف والخلف: أن الله وحده حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين، كما بسط ذلك بالأدلة، وذلك أن الرسل عليهم الصلاة والسلام هم الوسائط بيننا وبين الله في أمره ونهيه ووعده ووعيده، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله.
فعلينا أن نحب الله ورسوله، ونطيع الله ورسوله، ونرضي الله ورسوله:
قال تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ [التوبة:62]، وقال تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء:59]، وقال تعالى: مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، وقال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة:24] ].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الجواب: هذه المسألة مختلف فيها، فمنهم من قال: المقصود بالظل على ظاهره، وأن نسبة الظل إلى الله عز وجل على ما يليق بجلاله، وهذا من الألفاظ التي تكون من باب الخبر، وخبر الله صدق وحق.
ومنهم من قال: إن المقصود به ظل عرشه، وهذا نوع من التأويل ليس عليه دليل، وإن كان قال به بعض الأئمة، والصحيح أنه يمر كما جاء على ما يليق بالله عز وجل، هذه مسألة غيبية، ومع ذلك تمر كما جاءت، وينسب الظل إلى الله عز وجل على وجه لا نعلمه؛ لأنه هكذا جاء في الحديث عن المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، ولا يلزم من ذلك تشبيه ولا يلزم من ذلك حرج، بل العكس، ينبغي توقير مثل هذا الكلام وتعظيمه، والوقوف عنده دون تأويل، ودون تكلف ولا تعسف، مثل بقية النصوص التي وردت في نسبة أشياء إلى الله عز وجل، فإنها تثبت كما جاءت.
فإن كان المقصود ظل العرش فهذا ليس عندنا دليل على نفيه ولا على إثباته، لكن كما قلت: يترجح الإقرار بأنه من الأخبار عن الله عز وجل التي تمر كما جاءت دون تأويل، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر