فالمخلوق وإن كان يوصف بأنه سميع بصير؛ فليس سمعه وبصره كسمع الرب وبصره، ولا يلزم من إثبات الصفة تشبيه؛ إذ صفات المخلوق كما يليق به، وصفات الخالق كما يليق به، ولا تنف عن الله ما وصف به نفسه، وما وصفه به أعرف الخلق بربه وما يجب له وما يمتنع عليه، وأنصحهم لأمته، وأفصحهم وأقدرهم على البيان؛ فإنك إن نفيت شيئاً من ذلك كنت كافراً بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا وصفته بما وصف به نفسه فلا تشبهه بخلقه، فليس كمثله شيء، فإذا شبهته بخلقه كنت كافراً به.
قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري : من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا ما وصفه به رسوله تشبيهاً. وسيأتي في كلام الشيخ الطحاوي رحمه الله: ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه].
واختلفت عبارات المفسرين في المثل الأعلى ووفق بين أقوالهم بعض من وفقه الله وهداه، فقال: المثل الأعلى يتضمن الصفة العليا، وعلم العالمين بها، ووجودها العلمي، والخبر عنها وذكرها، وعبادة الرب تعالى بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه.
فهاهنا أمور أربعة: ثبوت الصفات العليا لله سبحانه وتعالى، سواء علمها العباد أو لا، وهذا معنى قول من فسرها بالصفة، الثاني: وجودها في العلم والشعور، وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف: إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته وذكره، ومحبته وجلاله، وتعظيمه، وخوفه ورجائه، والتوكل عليه والإنابة إليه، وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشركه فيه غيره أصلاً، بل يختص به في قلوبهم، كما اختص به في ذاته.
وهذا معنى قول من قال من المفسرين: إن معناه: أهل السماوات يعظمونه ويحبونه ويعبدونه وأهل الأرض كذلك، وإن أشرك به من أشرك، وعصاه من عصاه، وجحد صفاته من جحدها، فأهل الأرض معظمون له، مجلون، خاضعون لعظمته، مستكينون لعزته وجبروته، قال تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [الروم:26].
الثالث: ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها من العيوب والنقائص والتمثيل.
الرابع: محبة الموصوف بها وتوحيده، والإخلاص له، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان هذا الحب والإخلاص أقوى.
فعبارات السلف كلها تدور على هذه المعاني الأربعة، فمن أضل ممن يعارض بين قوله تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى [الروم:27]، وبين قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، ويستدل بقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] على نفي الصفات، ويعمى عن تمام الآية، وهو قوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، حتى أفضى هذا الضلال ببعضهم -وهو أحمد بن أبي داؤد القاضي - إلى أن أشار على الخليفة المأمون أن يكتب على ستر الكعبة: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم! حرف كلام الله لينفي وصفه تعالى بأنه السميع البصير، كما قال الضال الآخر جهم بن صفوان : وددت أني أحك من المصحف قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، فنسأل الله العظيم السميع البصير أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة بمنه وكرمه].
أحدها: أن الكاف صلة زيدت للتأكيد، قال أوس بن حجر :
ليس كمثل الفتى زهير خلق يوازيه في الفضائل
وقال الآخر:
ما إن كمثلهم في الناس من بشر.
وقال آخر:
وقتلى كمثل جذوع النخيل..
فيكون (مثله) خبر (ليس)، واسمها (شيء)، وهذا وجه قوي حسن، تعرف العرب معناه في لغتها، ولا يخفى عنها إذا خوطبت به، وقد جاء عن العرب أيضاً زيادة الكاف للتأكيد في قول بعضهم:
وصاليات ككما يؤثفين.
وقول الآخر:
فأصبحت مثل كعصف مأكول.
الوجه الثاني: أن الزائد (مثل)، أي: ليس كهو شيء، وهذا القول بعيد؛ لأن (مثل) اسم، والقول بزيادة الحرف للتأكيد أولى من القول بزيادة الاسم.
الوجه الثالث: أنَّه ليس ثم زيادة أصلاً، بل هو من باب قولهم: مثلك لا يفعل كذا. أي: أنت لا تفعله. وأتى بـ(مثل) للمبالغة، وقالوا في معنى المبالغة هنا: أي: ليس لمثله مثل لو فرض المثل، فكيف ولا مثل له، وقيل غير ذلك، والأول أظهر].
(خلق) أي: أوجد وأنشأ وأبدع، ويأتي (خلق) أيضاً بمعنى: قدر. والخلق: مصدر، وهو هنا بمعنى المخلوق. وقوله: (بعلمه) في محل نصب على الحال، أي: خلقهم عالماً بهم، قال تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، وقال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [الأنعام:60]، وفي ذلك رد على المعتزلة.
قال الإمام عبد العزيز المكي صاحب الإمام الشافعي رحمه الله وجليسه في كتاب (الحيدة) الذي حكى فيه مناظرته بشراً المريسي عند المأمون حين سأله عن علمه تعالى: فقال بشر : أقول: لا يجهل، فجعل يكرر السؤال عن صفة العلم تقريراً له، وبشر يقول: لا يجهل، ولا يعترف له أنه عالم بعلم، فقال الإمام عبد العزيز : نفي الجهل لا يكون صفة مدح؛ فإن قولي: هذه الأسطوانة لا تجهل ليس هو إثبات العلم لها، وقد مدح الله تعالى الأنبياء والملائكة والمؤمنين بالعلم لا بنفي الجهل، فمن أثبت العلم فقد نفى الجهل، ومن نفى الجهل لم يثبت العلم، وعلى الخلق أن يثبتوا ما أثبته الله تعالى لنفسه وينفوا ما نفاه، ويمسكوا عما أمسك عنه].
هذه الفلسفة عند المعتزلة ناتجة عن قولهم بأن الله تعالى عليم بلا علم، فلذلك يهربون من إثبات صفة العلم بكل وسيلة، حتى ولو بتكلف وتمحل، كما في مثل هذه المناظرة التي جرت بين الكناني وبشر المريسي ، وكتاب الحيدة قد أورد بعض المتأخرين حوله إشكالاً في ثبوته بنصه عن الكناني ، فالكتاب الموجود المطبوع الآن قد لا يكون بنصه هو كتاب الكناني ، لكن المناظرة جرت وفحواها موجودة في الكتاب، وإنما صياغة الكتاب قد تكون دخلتها الصناعة؛ لأنه في بعض القضايا التي وردت في الكتاب ما لم يكن معهوداً في ذلك الزمن، أي: في زمن الكناني ، وهذه هي الشبهة التي أوردت على الحيدة، ومع ذلك فإن المناظرة واردة فعلاً والحيدة صحيحة، أي: حيدة المريسي ، بمعنى: نكوصه عن الجواب ووقوفه وانقطاعه.
ثم إن أكثر قضايا المناظرة نقلت عن الأئمة العلماء، سواء عن طريق كتاب الحيدة أو عن غيره، وإنما يبقى الإشكال في الصياغة، بمعنى أنه قد يكون دخل في صياغة الكتاب بعض الاجتهادات من النساخ أو غيرهم.
وهذا له طريقان: أحدهما: أن يقال: نحن نعلم بالضرورة أن الخالق أكمل من المخلوق، وأن الواجب أكمل من الممكن، ونعلم ضرورة أنا لو فرضنا شيئين أحدهما عالم والآخر غير عالم؛ كان العالم أكمل، فلو لم يكن الخالق عالماً لزم أن يكون الممكن أكمل منه، وهو ممتنع.
الثاني: أن يقال: كل علم في الممكنات التي هي المخلوقات فهو منه، ومن الممتنع أن يكون فاعل الكمال ومبدعه عارياً منه، بل هو أحق به، والله تعالى له المثل الأعلى، لا يستوي هو والمخلوقات، لا في قياس تمثيل ولا في قياس شمول، بل كل ما ثبت للمخلوق من كمال فالخالق به أحق، وكل نقص تنزه عنه مخلوق ما فتنزيه الخالق عنه أولى ].
هذا الأمر فطري بالطبع، لا يكاد يغالط فيه أي عاقل، وهو أن الله سبحانه وتعالى الذي علم الإنسان ما لم يعلم لابد من أن يكون هو العالم، ولا يمكن أن يكتب المخلوق -وهو الإنسان أو غير الإنسان- علماً من دون الله، فالله سبحانه وتعالى إذا كان هو الذي وهب العباد العلم؛ فمن باب الضرورة العقلية والفطرية أنه سبحانه هو العالم، وأن ما عند المخلوقين إنما هو من علم الله، ولا يساوي مع علم الله شيئاً.
قال رحمه الله تعالى: [ قوله: (وقدر لهم أقداراً):
قال تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، وقال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وقال تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب:38]، وقال تعالى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:2-3].
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء) ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر