هذه الأمور من أركان الإيمان، قال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285] ... الآيات، وقال تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177].
فجعل الله سبحانه وتعالى الإيمان هو الإيمان بهذه الجملة، وسمى من آمن بهذه الجملة مؤمنين، كما جعل الكافرين من كفر بهذه الجملة بقوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:136].
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته، حديث جبريل وسؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره).
فهذه الأصول التي اتفقت عليها الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه، ولم يؤمن بها حقيقة الإيمان إلا أتباع الرسل ].
ولذلك فإن الفلسفة تتعلق بالغيبيات، أما ما يتعلق بعالم الشهادة فليس فلسفة، إنما يدخل في العلوم التطبيقية، أو العلوم الطبيعية، أو عالم الشهادة، فلذلك تميز الفلاسفة كلهم ومن سلك طريقهم بأنهم يميلون إلى الأفكار الخيالية وإلى الأوهام.
وليس عند الفلاسفة إلا أوهام، مع أنه قد يوجد من يتعلق عقدياً بالفلسفة والفلاسفة، ويظن أن عندهم شيئاً من الحق أو الحقيقة، وهذا لا يمكن؛ لأن ما عند الفلاسفة نوعان:
نوع يتعلق ببعض الأصول والقواعد المنطقية التي تستقرأ من عالم الشهادة، أو التي تعرف بالبداهة في الفطرة، مثل بعض الأمور الرياضية والحسابية وغيرها، فهذه أمور ليس للفلاسفة فيها ميزة، ولم يسموا من أجلها فلاسفة، وإن تعلقت بفلستهم واهتماماتهم.
والأمر الثاني من اهتمامات الفلاسفة هو ما يتعلق بالخوض في الغيبيات، سواء الغيبيات التي جاء ذكر أصنافها في الكتب المنزلة، كاليوم الآخر، والملائكة، والجن، وما يتعلق بالإلهيات، أو غيرها من الغيبيات الأخرى التي افترضها الفلاسفة مجرد افتراض وتوهم، وسموا بعضها بالعقل الفعال، والعلة الأولى، والعلة الثانية، والمدبرات السبعة، وغير ذلك مما يختلفون في الكلام فيه وفي الاصطلاحات.
وقد يعلقون بعض أوهامهم بأمور موجودة، أو بأمور ورد ذكرها في الكتاب والسنة.
فالأمور الموجودة: كالنجوم، فقد يربطون ما يعتقدون من أوهام وفلسفات بالنجوم، أو بنحوها مما في الكون، وقد يربطونها أيضاً بأمور لها وجود في الكتاب والسنة، لكنها غيبية، وقد يتكلم الفلاسفة في الملائكة، لكن على نحو يخالف الإقرار بالملائكة في الكتاب والسنة، وقد يتكلمون أيضاً عن بعض أحوال الروح، أو عن المعاد أحياناً، لكن على خلاف ما ثبت في الكتاب والسنة.
إذاً: فالفلاسفة ليس عندهم علم، ومن ادعى ذلك فعليه البرهان.
وقد يتكلمون عن بعض العلوم الطبيعية، لكن لا علاقة لها بالفلسفة، وربطها بالفلسفة إنما هو من باب التجوز.
كما أن الفلاسفة قد يهتمون ببعض العلوم المتعلقة بالإنسان كالطب، أو علوم النفس أو غيرها، فهذه علوم إنسانية أو طبيعية لا صلة لها بالفلسفة.
وقد سلك سبيل الفلاسفة من يسمون بالعقلانيين، وهم الذين زعموا أن لعقولهم حكماً في الغيبيات، وهذا المنحى ظهر في الإسلام على أيدي فئات، أولها: أهل الكلام، فهم يحكمون عقولهم في أمور الغيب، وتلبيسهم أشد من تلبيس الفلاسفة؛ لأن الفلاسفة الخلص إلحادهم واضح، لكن أهل الكلام -وأعني بهم الجهمية والمعتزلة ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية ومن سلك سبيلهم، كالكرامية والسالمية والرافضة ومتأخرة الخوارج- كلهم ينزعون نزعة الكلام، وقد أخذوا كثيراً من أصولهم الكلامية عن الفلاسفة، لكن تلبيسهم أشد من تلبيس الفلاسفة؛ لأنهم صاغوا أوهام الفلاسفة باصطلاحات إسلامية، وأخضعوا أصول العقيدة -خاصة في الأسماء والصفات، وفيما يتعلق باليوم الآخر- لصياغة فلسفية ملبسة، فلذلك دخلوا على المسلمين باستعمالهم المصطلحات الإسلامية، وعرض مذاهب الفلاسفة بقوالب ومصطلحات شرعية.
وهؤلاء على رأسهم أصحاب الاتجاهات العقلانية الذين يفسرون كثيراً من أمور العقيدة -بل كثيراً من أحكام الإسلام وشرائعه- بتفسيرات عقلانية، ويخضعون بزعمهم الإسلام لمقررات ومقدرات العقل.
ومنهم من تسمى بغير هذه الأسماء، أي: بغير العقلانية، كالحداثيين، وإن كان منهم فئات ملحدة خالصة، لكن هناك فئة منهم عقلانية، ومنهم من سموا أنفسهم بأصحاب الاتجاهات العصرانية، ومنهم من لم يسم نفسه لا بهذا ولا بذاك، وإنما قد يدعي السنة، وقد يدعي أنه يسلك مسالك أهل الحق، لكنه أقرب إلى العقلانيين، وقد يكون منهم من يحمل لواءات في الاتجاهات الإسلامية الحديثة.
وربما يكون من المشاهير الذين تتبعهم حركات كبرى، فهؤلاء على مختلف نزعاتهم كلهم يريدون تجريد المعاني الغيبية، والأصول الإسلامية عن حقائقها، وإعطاءها تصورات وتفسيرات عقلية أغلبها وهمية.
ولذلك فهم ذهبوا إلى تفسير وجود الله عز وجل بأنه وجود مجرد، وفسروه بتفسيرات تؤدي إلى إنكار أسماء الله وصفاته وذاته وأفعاله، بل إلى إنكار الوجود الحقيقي الذي يتصوره العقلاء.
إذاً: فتصورهم لوجود الله تصور تجريدي يجردونه من الوجود الحقيقي، فمنهم من فسره بالوجود العقلي، والعقل ليس له وجود حقيقي عندهم، إنما هو قوة فعالة، وبعضهم فسره بالروح، أي: فسروا وجود الله عز وجل بأنه روح، وبعضهم فسر وجود الله عز وجل بأنه قوة، وبعضهم فسر وجود الله عز وجل بالحلول في الخلق، وبعضهم فسره بالاتحاد بالخلق، وبعضهم فسره بوحدة الوجود، وقال: إن هذا الوجود كله هو الله، تعالى الله عما يزعمون.
وكل هذه المذاهب هي مذاهب الفلاسفة، لكنها ظهرت في المسلمين تحت شعارات وتحت ألوية الفرق بمسميات إسلامية، إما على أيدي الفلاسفة أو الباطنية، أو الصوفية، أو على أيدي من جمعوا هذه المذاهب كلها، كمتأخرة الزنادقة أمثال: ابن عربي والسهروردي ، وابن سبعين ، وابن الفارض وأمثالهم.
ولذلك لما فسروا النبوات وفسروا الوحي فسروه بما يتفق مع هذه المعاني.
فمنهم من قال: إن الوحي والنبوة إنما هي إشراق من نور الوجود بالمثال إلى عالم المادة، ومنهم من قال: إنها فيض، ومنهم من قال: إنها تأتي عن طريق العقل الفعال كما ستأتي الإشارة إليه.
ومن هنا جردوا الله عز وجل من الأسماء والصفات والأفعال، وإن أقروا له بالصفات، أو أقر بعضهم بالأسماء والصفات، فإنما أقروا بمعانٍ لا تنطبق على موصوف ولا مسمى، إنما هي مجرد معاني دل عليها ظواهر المخلوقات، ولا ترجع إلى موصوف موجود.
قال رحمه الله تعالى: [ فإن مذهبهم: أن الله سبحانه وجود مجرد لا ماهية له ولا حقيقة، فلا يعلم الجزئيات بأعيانها، وكل موجود في الخارج فهو جزئي، ولا يفعل عندهم بقدرته ومشيئته، وإنما العالم عندهم لازم له أزلاً وأبداً، وإن سموه مفعولا له فمصانعة ومصالحة للمسلمين في اللفظ، وليس عندهم بمفعول ولا مخلوق ولا مقدور عليه، وينفون عنه سمعه وبصره وسائر صفاته! فهذا إيمانهم بالله ].
المؤلف هنا اختصر الكلام، وكأنه اعتمد على ما هو أصل عند جميع المسلمين، وهو: أن الكتب المنزلة من عند الله عز وجل هي كلامه.
فبنى على ذلك أن كلامهم في كلام الله عز وجل ينطبق على الكلام في الكتب، فإنهم إذا أنكروا الكلام الذي هو صفة الله عز وجل فإنهم سينكرون أن تكون الكتب من عنده، أو يفسرونها بتفسير لا يطابق الواقع، ولا يدل عليه الوحي، بل يفسرونها بأمور سيأتي ذكرها.
قال رحمه الله تعالى: [ فإنهم لا يصفونه بالكلام، فلا تكلم ولا يتكلم، ولا قال ولا يقول، والقرآن عندهم فيض فاض من العقل الفعال على قلب بشر زاكي النفس طاهر ].
العقل الفعال عندهم مجرد افتراض، فلو أردنا أن نعرف معنى العقل عندهم لوجدناه مجرد وهم وتصور ليس له حقيقة في الواقع.
وهم لا يعتقدون أن لمثل هذه المعاني حقيقة في الواقع، وإن كان بعضهم قد يقول بأن مثل هذه الأمور -كالعقل الفعال- تتلبس بمخلوقات أخرى، وقد ينسبونها إلى النجوم والكواكب، فبعضهم قد ينسب مثل هذا الاختلاف إلى أكبر الكواكب، أو إلى أصل الكواكب أو أصل النجوم كالقطبين، وكل هذه تفسيرات وهمية، والمهم: أنهم يجردون ذات الله عز وجل عن الوجود الفعلي، وينسبون ما يحدث من أمور خارقة لا يقدر عليها البشر إلى أمور غيبية، أو وهمية كالعقل الفعال، والعقل الفعال يقصدون به: القوة الخفية المدبرة للكون، وقد يقول بعضهم بأن العقل أيضاً يصدر أوامره وتوجيهاته إلى عقول أخرى تحت أمرة هذا العقل، وهذه العقول أيضاً تتجزأ مسئولياتها ثم تتفرع إلى عقول أخرى وهكذا، وقد يجعلون هذا عن طريق النجوم، أو عن طريق الملائكة بأسمائها، أو نحوها.
فالمهم: أن العقل الفعال يقصدون به وجوداً ذهنياً ليس له واقع، إنما هو قوة متوهمة -عندهم- تدبر الكون، وقد يعتقدون أن هذا العقل الفعال له وجود، وليس لهم على ذلك أدلة ولا براهين.
ومن هنا يبقى هذا الأمر مجرد وهم؛ لأن الشيء الغيبي الذي ليس عليه برهان من الله عز وجل من ادعاه بدون دليل فلابد أن يكون قد توهم.
فالأمر الغيبي لابد له من أحد أمرين:
إما أن يكون هذا الغيب جاء عن طريق صحيح، وهو: الوحي المنزل من الله عز وجل، وهذا نؤمن به ونسلم.
وإما أن يكون مجرد توهم، والتوهم لا حقيقة له؛ لأنا نجزم قطعاً بأن الذين قالوا بوجود العقل الفعال لا يمكن أن يأتوا لنا بدليل على وجوده، إنما اضطرهم إليه إنكار وجود الله عز وجل الوجود الذاتي، فاضطروا إلى أن يؤمنوا بمدبر لهذا الكون، سواء أكان عقلاً أم قوة، أم روحاً أو نحو ذلك مما عبروا به، فقالوا بمدبر للكون وهم لا يؤمنون بالله، وإنما يؤمنون به تعالى إيماناً تجريدياً كما ذكرت، فلجئوا بعد ذلك إلى افتراض قوة تدبر الكون سموها العقل الفعال.
قال رحمه الله تعالى: [ والقرآن عندهم فيض فاض من العقل الفعال على قلب زاكي النفس طاهر، متميز عن النوع الإنساني بثلاث خصائص: قوة الإدراك وسرعته؛ لينال من العلم أعظم مما يناله غيره! وقوة النفس؛ ليؤثر بها في هيولى العالم بقلب صورة إلى صورة! وقوة التخييل؛ ليخيل بها القوى العقلية في أشكال محسوسة، وهي الملائكة عندهم! ].
الهيولى عادة يقصدون بها أموراً، منها: أصل الشيء، أصل الخلقة، أو -بتعبير المحدثين- مادة الخلق، أي: المادة الأساسية قبل أن يتجزأ الخلق إلى عناصر، فالأساس للخلق -سواء كان مادياً، أو قوة أخرى لها تأثير في حركة الكون- قد يعبرون عنه بالهيولى.
قال رحمه الله تعالى: [ وليس في الخارج ذات منفصلة تصعد وتنزل، وتذهب وتجيء، وترى وتخاطب الرسول، وإنما ذلك عندهم أمور ذهنية لا وجود لها في الأعيان، فهم أشد الناس تكذيباً به وإنكاراً له ].
وهذا يعني أنهم ينكرون أن يكون هناك ملك اسمه: جبريل ينزل بالوحي، وأن تكون هناك ملائكة تنزل وتصعد بأمر الله عز وجل، ينكرون ذلك كله، ويفسرونه بتفسيرات تجريدية وهمية ذهنية تخييلية، ويقولون: هذه تخييلات يعبر بها عن القوى المعنوية المدبرة للكون.
الأصول الخمسة وغيرها مما تكلم به أهل الأهواء قديماً، ومما بدأت تظهر بعض مظاهره عند الفرق الحديثة، وأعني بذلك وضع أصول أو أركان للدين غير ما ورد في الشرع؛ فإن هذا من البدع، ولذلك يجب أن يحذر طالب العلم ويحذر غيره من تسمية ما يعتقده الناس أو يجتهدون فيه من مناهج أصولاً في الدين، بمعنى: أنه لا يصح أن نسمي في الإسلام أركاناً غير الأركان الخمسة، ولا أن نسمي للإيمان أركاناً غير الأركان الستة، ولا أن نضع أصولاً للدين غير ما تقرر في الكتاب والسنة، وإذا أقررنا بمجمل الأصول فلا نعدها عداً على سبيل الحصر، فلا يجوز -مثلاً- لقائل أن يقول: أصول الدين تنحصر في عشرين مسألة أو في عشرين أصلاً؛ لأن الحصر في أصول الدين لا يجوز، وهذا بخلاف الأمور الاجتهادية، فإذا كان العالم أو طالب العلم يتكلم عن أمور اجتهادية تتعلق بالتفريعات على العقيدة، أو بالأحكام؛ فلا مانع من أن يضع ضوابط للتقسيم، فيقول مثلاً: هذا فيه عشر مسائل، هذا فيه عشرة أصول، هذا فيه عشر قواعد ... إلى آخر ذلك من الأمور الاجتهادية.
أما فيما يتعلق بأصول الدين -كأركان الإسلام وأركان الإيمان والإحسان، ونحو ذلك من المصطلحات الشرعية التي حددت أصولها- فلا يجوز لأحد أن يحدث شيئاً فيها.
ولذلك ينبغي أن نتنبه لما أحدثه الناس من مناهج يضعونها أصولاً لهم، فهذا يضع أصولاً عشرين، وهذا يضع خمسة، وهذا يضع ستة، وغير ذلك مما تفعله الجماعات الآن.
وهذا -وإن كان لا يقصد به مضاهاة أصول الدين، ولا يقصد به وضع أصول غير ما جاء في الشرع- لكنه مع مرور الزمن إذا بقي بدون تنبيه عليه -وهذا في الغالب مما لا يضبط- وإذا أصر أصحابه على التحديد فإنه ستأتي أجيال تجعل هذه الأصول من أصول الدين، كما فعلت المعتزلة في أصولها الخمسة، وكما فعلت الرافضة في أصولها، والخوارج في أصولها، والقدرية في أصولها، وأهل الكلام في أصولهم، حيث وضعوا قواعد جعلوها هي الأصل في تكميل الدين واعتقاده.
فينبغي أن نتنبه لهذه المسألة، فلا يجوز أن نضع مناهج ونسميها أصولاً، أو أن ننسبها إلى الدين، ما عدا الأمور الاجتهادية التي تتعلق بالأحكام أو بالفرعيات، بشرط أن تكون أصولاً أو تفريعات علمية لا أموراً يجتمع عليها وينتمي إليها الناس، وتكون بمثابة الشعارات، بمعنى أنه لو اجتهد أحد في أمور من المسائل الاجتهادية ووضع لها أصولاً حددها أو لم يحددها؛ فإنه لا ينبغي أن يدعو الناس لاعتناقها أو للاجتماع عليها، أو أن تكون شعاراً لجماعة أو منهجاً لطريقة من الطرق أو حركة من الحركات أو نحو ذلك؛ فإن هذا في الغالب -ولابد- يؤدي مع مرور الزمن إلى التعصب لهذه الأصول وجعلها بديلاً عن أصول الدين.
والجماعات التي وضعت هذه الأصول قديماً وحديثاً نجد بوضوح أنها بدأت تحتكم إليها وتوالي وتعادي عليها على تفاوت بينهم، وبدأت تقرر أصول الدين ومناهج الدين على هذه الأسس التي وضعتها، وقد تنسى في غمرة الحماس لهذه الأصول أركان الإسلام وأركان الإيمان، بل إن كثيراً من الجماعات نسيت الحديث عن أركان الإيمان وأركان الإسلام إلا عرضاً، وجعلت الحديث مع الناس وفي الدعوة إلى مبادئها على هذه الأصول التي وضعتها أو قررتها، فينبغي التنبه لذلك والتنبيه عليه.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينا جبرائيل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه، فرفع رأسه، فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض، لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أوتيته) .
وقال أبو طالب المكي : أركان الإيمان سبعة. يعني هذه الخمسة، والإيمان بالقدر، والإيمان بالجنة والنار، وهذا حق ].
بناءً على ما قرره السلف من أنه لا يجوز إحداث أركان أو أصول في الدين غير ما ذكره الله في القرآن، وشرعه وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، بناءً على هذا يجب أن نتوقف في كلام أبي طالب وأمثاله في جعل أركان الإيمان سبعة؛ لأن أركانه الستة التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل مشتملة على لوازمها الأخرى التي هي بمثابة أصول الدين، والإيمان بالله عز وجل يشمل جميع ما يتعلق بالإيمان بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، والإيمان بالملائكة كذلك، والإيمان بالكتب كذلك، والإيمان بالرسل كذلك، وهكذا بقية أركان الإيمان، فلا داعي لأن نحدث ركناً نسميه سابعاً.
وعلى هذا فإن موافقة المؤلف هنا لـأبي طالب المكي فيها نظر، إلا إن كان يقصد أنه ما قال إلا حقاً من حيث تفصيل الأركان، أما إذا قصد أننا نسمي الأركان على هذا النحو سبعة ونعد هذه السبعة فلا يجوز؛ لأن الإيمان بالجنة والنار داخل في الإيمان باليوم والآخر، والإيمان بالقدر منصوص عليه في الحديث.
فينبغي اجتناب مثل هذه الألفاظ والتنبيه عليها.
قال رحمه الله تعالى: [ وقال أبو طالب المكي : أركان الإيمان سبعة. يعني هذه الخمسة والإيمان بالقدر والإيمان بالجنة والنار، وهذا حق، والأدلة عليه ثابتة محكمة قطعية، وقد تقدمت الإشارة إلى دليل التوحيد والرسالة ].
هذه الكلمة مجملة، أعني قوله: [ فكل حركة في العالم فهي ناشئة عن الملائكة ] ففيها نوع تجوز، ولاشك أن الله عز وجل جعل للملائكة وظائف في الكون، وكل ذلك بإذن الله ومشيئته، ولا يخرج عن تدبيره وعن أمره وربوبيته سبحانه، لكن القول بأن كل حركة في العالم ناشئة عن ملائكته قد يكون فيه نظر؛ لأنه قد ورد في بعض النصوص أن هناك أموراً تحدث بهذه الأسباب، أي: بما جعله الله عز وجل من أعمال الملائكة الموكلين بالسماوات والأرض، وأموراً تكون بقدرة الله المحضة، كما ورد من أن الله عز وجل خلق آدم بيده، وخلق عيسى بن مريم بيده، وتولى كثيراً من أمر خلقه بيده سبحانه.
كما أن هناك من الأمور ما يحدث بأسباب مباشرة، أي: يكون وجوده وخلقه بأسباب جعلها الله عز وجل، وهناك ما يكون بمجرد قول الله عز وجل: (كن).
فتدبير الله للعالم يكون بفعله وبقوله، ويكون بيده سبحانه، ويكون أيضاً بتسخيره للملائكة، وبأمره لهم.
قال رحمه الله تعالى: [وأما الملائكة فهم الموكلون بالسماوات والأرض، فكل حركة في العالم فهي ناشئة عن الملائكة، كما قال تعالى: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا [النازعات:5]، فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا [الذاريات:4].
وهم الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل، وأما المكذبون بالرسل المنكرون للصانع فيقولون: هي النجوم].
هناك من فسر بعض هذه الآيات -المقسمات، والمدبرات، وكذلك المرسلات والناشرات والفارقات والنازعات والناشطات والسابحات- فسرها بالملائكة، ومنهم من فسرها بأمور أخرى لكنها ترجع أيضاً إلى أن الملائكة هي أسباب في هذه التفسيرات، ومنهم من فسر بعض هذه الأمور بالسحاب، وبعضها بالرياح المرسلة من الله عز وجل، وبعضها بأمور أخرى هي من خلق الله عز وجل، ومن الأسباب التي جعلها الله عز وجل أسباباً في هذا الكون، لكن هذا لا يمنع من تفسيرها بالملائكة؛ لأنه معلوم أنا إذا فسرنا بعض هذه الألفاظ بالرياح فالرياح أيضاً وكل الله بها الملائكة، وإذا فسرنا بعضها بالسحاب والمطر فإن الله عز وجل وكل بالسحاب والمطر طائفة من الملائكة، فتفسيرها ببعض المخلوقات راجع إلى أمر الله للملائكة.
ومنهم: النازعات غرقاً، والناشطات نشطاً، والسابحات سبحاً، فالسابقات سبقاً، ومنهم: الصافات صفاً، فالزاجرات زجراً، فالتاليات ذكراً.
ومعنى جمع التأنيث في ذلك كله: الفرق والطوائف والجماعات، التي مفردها: فرقة وطائفة وجماعة ].
أراد بهذا الاحتراز من وصف الملائكة بالأنوثية، وهذا من سمات المشركين والفلاسفة والعقلانيين وغيرهم من أهل الضلالة والبدع؛ فإنهم قد يصفون الملائكة بأنهم إناث.
فنظراً لأن مثل هذه الألفاظ قد تشير إلى معنى التأنيث في الإشارة إلى الملائكة، أراد أن يبين أن التأنيث هنا راجع إلى الجنس لا إلى الملائكة بأفرادهم.
فالملائكة فرق، والفرقة من حيث المعنى اللغوي توصف بالتأنيث، وكذلك الطوائف، فالطائفة لفظها اللغوي مؤنث، والجماعات لفظها اللغوي مؤنث، فلا يعني ذلك تأنيث الملائكة؛ لأن الملائكة لا يوصفون بذلك، إنما هذه الألفاظ تنصرف إلى جنس جماعة الملائكة وفرقها وطوائفها ونحو ذلك.
قال رحمه الله تعالى: [ ومنهم ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، وملائكة قد وكلوا بحمل العرش، وملائكة قد وكلوا بعمارة السماوات بالصلاة والتسبيح والتقديس، إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله.
ولفظ (الملك) يشعر بأنه رسول منفذ لأمر مرسله، فليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله لله الواحد القهار، وهم ينفذون أمره: لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:27-28]، يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:50].
فهم عباد مكرمون، منهم الصافون، ومنهم المسبحون، ليس منهم إلا له مقام معلوم لا يتخطاه، وهو على عمل قد أمر به لا يقصر عنه ولا يتعداه، وأعلاهم الذين عنده: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:19-20] ورؤساؤهم الأملاك الثلاثة: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل الموكلون بالحياة، فجبريل موكل بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل موكل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي به حياة الخلق بعد مماتهم.
فهم رسل الله في خلقه وأمره، وسفراؤه بينه وبين عباده ].
الملائكة منهم السفراء الخاصة، كجبريل عليه السلام الذي جاء بالوحي إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإلى سائر الأنبياء.
ومنهم سفراء سفارة عامة، وهم الملائكة الذين يحيطون بعباد الله عز وجل بالرعاية والتدبير العام، وبالرعاية الخاصة بالمؤمنين، فالله عز وجل أوكل هذا الأمر إلى طوائف من الملائكة، وهذا من معنى السفارة العامة، أما السفارة الخاصة فهي الوحي الذي هو عن طريق جبريل.
قال رحمه الله تعالى: [فهم رسل الله في خلقه وأمره وسفراؤه بينه وبين عباده، ينزلون بالأمر من عنده في أقطار العالم، ويصعدون إليه بالأمر].
من السفراء الكرام الكاتبون، والملائكة الموكلون بالعباد الذين يتناوبون صباح مساء.
قال رحمه الله تعالى: [قد أطت السماوات بهم وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو راكع أو ساجد لله، ويدخل البيت المعمور منهم كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه آخر ما عليهم].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر