يقصد هنا المرجئة الغلاة الجهمية الذين يقولون: الإيمان هو المعرفة، ومن هنا لا يضعون للشرع في النهي والأمر أي اعتبار.
قال رحمه الله تعالى: [ وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئة، ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة تبين لك فساد القولين، ولا فائدة في كلام هؤلاء سوى أنك تستفيد من كلام كل طائفة فساد مذهب الطائفة الأخرى ].
قال رحمه الله تعالى: [ ثم بعد هذا الاتفاق بين أن أهل السنة اختلفوا اختلافاً لفظياً لا يترتب عليه فساد، وهو: أنه هل يكون الكفر على مراتب كفراً دون كفر؟ كما اختلفوا: هل يكون الإيمان على مراتب، إيماناً دون إيمان؟ وهذا الاختلاف نشأ من اختلافهم في مسمى الإيمان: هل هو قول وعمل يزيد وينقص أم لا؟ بعد اتفاقهم على أن من سماه الله تعالى ورسوله كافراً نسميه كافراً، إذ من الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً، ويسمي رسوله من تقدم ذكره كافراً ولا نطلق عليهما اسم الكفر، ولكن من قال: إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص قال: هو كفر عملي لا اعتقادي ].
والكفر العملي سبق أن المقصود به كفر المعصية، وكفر الكبائر، فهو كفر لا يخرج من الملة، فيبقى صاحبه مسلماً له أحكام المسلمين، لكنه يكفر كفراً جزئياً بالمعصية الكبيرة، وهي الذنب المغلظ الذي لا يخرج من الملة.
قال رحمه الله تعالى: [ والكفر عنده على مراتب، كفر دون كفر، كالإيمان عنده ].
يقصد بهذا أهل السنة والجماعة أهل الحديث، فإنهم يقولون بأن الكفر على نوعين: كفر أصغر لا يخرج من الملة، وهو الكفر العملي، وهو من أكبر الكبائر، وهو كفر دون كفر.
والثاني: الكفر المخرج من الملة، وأغلبه من الكفر الاعتقادي، وقد يدخل فيه بعض أنواع الكفر العملي، مثل الإعراض عن الدين بالكلية، فإنه قد يدخل في الكفر المغلظ، وهو الكفر الأعظم المخرج من الملة، وقد يسمى ردة، وأيضاً يسمى كفراً بإطلاق، ويدخل فيه النفاق الكلي والنفاق الكامل، وغير ذلك من الألفاظ التي تعني الخروج من الملة.
وأغلب أنواع الكفر التي يقع فيها كثير من أفراد أهل القبلة وجماعاتهم من الكفر الذي لا يخرج من الملة، وهذا أمر ينبغي أن يفهم؛ لأن الناس بدءوا يخوضون في هذه المسألة بغير علم، فإن أغلب ما يقع فيه المسلمون قديماً وحديثاً من أنواع الكفر هو كفر لا يخرج من الملة، ولا يخرج الإنسان من الإسلام، ومن ذلك ما وصفت به بعض الفرق من الكفر، كالفرق الثنتين والسبعين الخارجة عن الجماعة التي توعدها النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه لا تخرج من الملة، ولذلك فإن الفرق التي خرجت من الملة لا تسمى من فرق المسلمين، ولا تدخل في الثنتين والسبعين التي ورد فيها الوعيد.
وما أطلقه بعض السلف من ألفاظ الكفر على الفرق كالمعتزلة وأوائل الشيعة والمرجئة وأكثر أهل الكلام وكذلك بعض الأشاعرة الماتريدية إنما هو كفر لا يخرج من الملة.
وهذا أمر معلوم عند أئمة المحققين، وإنما جهله الناس في الآونة الأخيرة حينما ابتعدوا عن تلقي مناهج السلف وتأصيلها ومعرفتها.
وذلك بخلاف القول بخلق القرآن، فقد اتفق السلف على أنه كفر؛ لأن الأمر فيه تبين، وبحثت هذه المسألة بحثاً مستفيضاً قامت به الحجة واستبان به الدليل وظهر فيه البرهان وأزيلت فيه الشبهات.
فالقول بخلق القرآن كفر عند جميع السلف، لم يخرج عن هذا الإجماع أحد بعد اشتهار المسألة في آخر القرن الثاني والقرن الثالث، لكن: هل كل من قال بخلق القرآن يكفر بعينه؟ هذه مسألة لا بد فيها من تفصيل:
ففي بعض العصور -مثل عصر الإمام أحمد - كانت الحجة قائمة؛ لأن القضية استفاضت عند عموم الناس العوام وغير العوام، المتعلم وغير المتعلم، فجميع الناس اشتهرت عندهم قضية القول بخلق القرآن، فعرفوا أنها كفر، فمن هنا قد يجوز لبعض أهل العلم أن يطلق الكفر على كل من قال بخلق القرآن، ومع ذلك لا نعرف أن السلف كانوا يجرءون على تكفير الأعيان في هذه المسألة، إلا في حالات قليلة جداً يجزمون بأنها قامت فيها الحجة وانتفت فيها الشبهة.
وفي بعض العصور وبعض الأوقات تكون المسألة غامضة ليست واضحة عند عموم الناس وإن اتضحت عند أهل العلم، فمن هنا لا نستطيع أن نجزم بأن كل من قال شيئاً من ذلك يكفر، بل لا بد من بيان الحجة واجتماع الشروط وانتفاء الموانع في هذه المسألة.
والدليل على ذلك: أنا لو أتينا إلى عامي لا يعرف هذه المسألة أبداً وسألناه ربما يجيب بغير الحق، فمن الخطأ أننا نقول بأنه يكفر لأول وهلة قبل أن نبين له الحق.
إذاً: فالقاعدة سليمة، لكن التطبيق يختلف من عصر إلى عصر ومن حال إلى حال ومن شخص إلى شخص، فليس كل من قال بالكلام الكفري يكفر، وأنا أرى أنه في عصرنا هذا من الصعب أن نمتحن الناس في هذه المسائل ونكفر كل من قال بهذا القول الكفري إلا بعد البيان وإقامة الحجة.
قال رحمه الله تعالى: [ ومن قال: إن الإيمان هو التصديق، ولا يدخل العمل في مسمى الإيمان، والكفر هو الجحود، ولا يزيدان ولا ينقصان؛ قال: هو كفر مجازي غير حقيقي ].
هذا قول مرجئة الفقهاء أو طائفة منهم، وهؤلاء غير المرجئة الأوائل الذين قالوا: إن الإيمان هو المعرفة، ولا ينفع مع الإيمان طاعة ولا يضر مع الإيمان معصية، فهؤلاء الغلاة الجهمية سبق ذكرهم آنفاً، والكلام هنا عن مرجئة الفقهاء.
قال رحمه الله تعالى: [ ومن قال: إن الإيمان هو التصديق، ولا يدخل العمل في مسمى الإيمان، والكفر هو الجحود، ولا يزيدان ولا ينقصان؛ قال: هو كفر مجازي غير حقيقي؛ إذ الكفر الحقيقي هو الذي ينقل عن الملة ].
يتلخص عندنا الآن قولان نسبهما المؤلف لأهل السنة، وهذا فيه شيء من النظر، فهو من باب التجوز؛ إذ إن
قول المرجئة قد يقول به بعض من ينتسبون للسنة وينسبون إليها، ولكنه يبقى قول المرجئة لا قول أهل السنة، فقوله: [ ثم بعد هذا الاتفاق بين أهل السنة اختلفوا اختلافاً لفظياً ] فيه نظر، لكن لعل هذا من باب التأثر بمذهب الأحناف مذهب الشارح والماتن.
ولا شك أن كثيراً ممن قالوا بالإرجاء، وقالوا بأن الإيمان هو التصديق والكفر هو الجحود، وقالوا بأن الكفر كفران: كفر مجازي وكفر حقيقي، لا شك أنهم لا يخرجون من عموم أهل السنة عند الإطلاق، كـأبي حنيفة وشيخه وبعض تلاميذه وكبار الأحناف أهل الحديث منهم، لا نستطيع أن نخرجهم من أهل السنة بإطلاق، لكن هذه المسألة التي ذكرها الشيخ ليست قول أهل السنة، بل هي قول المرجئة.
فالمسألة تحتاج إلى تنبيه، فأهل العلم لا يوافقون الشارح على أن قول المرجئة قول لأهل السنة، سواء في مسألة تعريف الإيمان، أو في مسألة تقسيم الكفر.
أهل السنة يقولون: إن الكفر نوعان: كفر دون كفر، وكفر أكبر، والمرجئة يقولون: كفر حقيقي، وكفر مجازي. صحيح أن الخلاف لا ثمرة له، بمعنى أن مؤدى الكلام واحد، فالكفر العملي هو الكفر المجازي، ونتائجه عند الفريقين سواء، بمعنى: أنه لا يخرج من الملة، وصاحبه يبقى من أهل القبلة وإن بدع وإن فسق.
والكفر الأعظم والكفر الحقيقي هو واحد عند الفريقين، في معنى ما يترتب عليه من أحكام، لكن مع ذلك فإن هذه التسمية ناشئة عن الاختلاف بينهما، فليس القول الثاني هو قول أهل السنة وإن وافقه في النهاية والثمرة، لكنه لم يقل به أحد من أهل السنة والحديث، اللهم إلا بعض أهل العلم الذين قد لا يوافقون المرجئة في أصل تعريف الإيمان.
إذاً: فملخص القول أن أهل العلم لهم في هذا قولان: قول بأن الكفر على نوعين: كفر أكبر اعتقادي، وهو يخرج من الملة، وكفر أصغر عملي لا يخرج من الملة، وهذا قول أهل السنة.
والقول الثاني: أن الكفر ينقسم إلى كفر حقيقي وهو المخرج من الملة، وهو الاعتقادي، وكفر مجازي، وهو الكفر العملي الذي لا يخرج من الملة.
فالقولان في النهاية ثمرتهما واحدة، ومؤداهما واحد، لكن منشأ التعبير يختلف، ولا يترتب عليهما فساد في النهاية في ثمرة الاعتقاد، أو انحراف في المفهوم، فالثمرة عند الفريقين واحدة، فهم لا يختلفون في الأحكام التفصيلية لنوعي الكفر، وإنما يختلفون في التسمية، والتسمية أيضاً مأخوذة من أصل الاعتقاد في الإيمان.
وهذا كمسألة القول في الذنوب، وفي مسألة العمل بالإسلام، فقد يقال: إن أهل السنة ومرجئة الفقهاء كلهم في النهاية يقرون بأنه لا بد من عمل الخيرات وترك الآثام، وإن الخلاف لفظي.
ونقول: الخلاف ليس لفظياً، نعم من الناحية العملية لا يختلفون، خاصة مرجئة الفقهاء الأوائل، فـأبو حنيفة رحمه الله يقول: إن الإيمان هو التصديق، وقد يخرج الأعمال من مسمى الإيمان على قول من أقواله التي نسبت إليه، لكنه يعظم جوانب الأوامر وينكر المنكرات ويعظم ارتكابها، بل إنه من أشد أئمة الدين في ذلك، ففي النهاية ليس للخلاف ثمرة عملية في اعتقاد أولئك الأئمة.
لكن هناك اختلاف علمي تنبني عليه أحكام، والاختلاف العلمي له اعتباره في العقيدة، حتى وإن كانت الثمرة العملية لا تختلف، فمن الناحية الاعتقادية، ومن ناحية التقرير العلمي نجد أن المرجئة خالفوا أهل السنة والجماعة.
قال رحمه الله تعالى: [ وكذلك يقول في تسمية بعض الأعمال بالإيمان، كقوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس: إنها سميت إيماناً مجازاً؛ لتوقف صحتها على الإيمان، أو لدلالتها على الإيمان؛ إذ هي دالة على كون مؤديها مؤمناً، ولهذا يحكم بإسلام الكافر إذا صلى كصلاتنا.
فليس بين فقهاء الملة نزاع في أصحاب الذنوب، إذا كانوا مقرين باطناً وظاهراً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وما تواتر عنهم أنهم من أهل الوعيد، ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار، كالخوارج والمعتزلة، ولكن أردأ ما في ذلك التعصب من بعضهم وإلزامه لمن يخالف قوله بما لا يلزمه والتشنيع عليه، وإذا كنا مأمورين بالعدل في مجادلة الكافرين وأن يجادلوا بالتي هي أحسن؛ فكيف لا يعدل بعضنا على بعض في مثل هذا الخلاف؟! قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8] .
وهنا أمر يجب أن يتفطن له، وهو: أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً ينقل عن الملة، وقد يكون معصية كبيرة أو صغيرة، ويكون كفراً إما مجازياً وإما كفراً أصغر على القولين المذكورين، وذلك بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله فهذا كفر أكبر، وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله وعلمه في هذه الواقعة، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهو عاص، ويسمى كافراً كفراً مجازياً أو كفراً أصغر، وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأ؛ فهذا مخطئ له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور ].
هذه المسألة من المسائل التي يخوض فيها الناس الآن كثيراً، والذي يظهر لي أن أغلب ما يتكلم فيه الناس من ذلك يتكلمون فيه بالمجازفة التي ليس فيها تثبت ولا تقرير علمي، ثم إن الناس يخلطون بين الأحكام العامة وبين إنزال الأحكام على الأشخاص والهيئات والجماعات، وهذا أمر عمت به البلوى ويحتاج إلى شيء من التفصيل والتقرير من قبل العلماء الراسخين، وإن كان علماؤنا كثيراً ما يبينون هذه المسائل، لكن كثرة من يتعالم ويسبق إلى الناس ويحول بينهم وبين العلماء ربما تحجب الكثير من أبناء المسلمين ومن عوام المسلمين عن معرفة أقوال أهل العلم المعاصرين، إلى حد ادعاء طائفة من الناس أن العلماء ليس لهم رأي، وأنهم لم يحسموا هذه المسألة.
وهذا جهل، فالعلماء قالوا ولا يزالوا يقولون، وقد يتورعون أحياناً عن بعض التفصيلات أو يتأنون ولا يستعجلون في بعض الأحكام التفصيلية، خاصة على المعين؛ نظراً لأنهم يعلمون أصول الاجتهاد الشرعية الصحيحة التي تنبني على التثبت أولاً، ومعرفة الواقعة تفصيلاً ثانياً، ومعرفة الشخص وما عنده وما يقوله، وتطبيق الشروط الشرعية والتأكد من انتفاء الموانع في حقه، ونحو ذلك مما يتكلم به الناس.
أقول: إن الأحكام العامة سهلة، وهذا التقعيد الذي ذكره تقعيد جيد لا يختلف عليه، لكن المشكلة في تطبيق هذه القواعد، فلذا أرى أن طلاب العلم ينبغي عليهم أن يفهموا عوام المسلمين والشباب خاصة أنه لا يجوز لكل من طلب العلم أو كان من العلماء أن يحكم في المسائل الكبرى التي تتعلق بالأشخاص والهيئات بالطريقة الفردية؛ لأن هذه المسائل خطيرة تنبني عليها أحكام خطيرة ومواقف خطيرة، فلا بد من اجتماع أهل العلم على كثير منها، هذا أمر.
الأمر الآخر: أن التكفير بالحكم بغير ما أنزل الله أكثره يتم بمجرد أخذ القرائن ووصف الأحوال، وكثير من الذين يكفرون الهيئات ونحوها يكفرون دون أن يأخذوا بالأصول الشرعية في التكفير من التثبت، ومعرفة عدم وجود الجهل، ومعرفة عدم وجود الاشتباه، ومعرفة العدول عن الاعتقاد الذي في القلب؛ لأنه قد يحكم إنسان بغير ما أنزل الله وقلبه كاره لذلك لعوارض أخرى لا نعلمها، فهو بذلك ارتكب كبيرة، لكن لا يخرج من الملة.
فأكثر ما يحدث من الحكم بغير ما أنزل الله مما لا يخرج عن الملة، فمن هنا يجب أن يتأنى طلاب العلم في إطلاق الأحكام، وألا يجاروا بعض المتعجلين أو المتعالمين أو بعض الذين يتكلمون بغير علم في مسألة إطلاق الأحكام جزافاً.
وأضرب مثلاً لمسألة جزئية ينطبق عليها الحكم العام والأحكام الخاصة: فلو أن إنساناً مسلماً بنى عقاراً من العقارات ثم أجره لأناس يعملون الفساد -كالخمارين، أو أصحاب العهر- وهو يعرف أن هذا حرام، لكنه طماع يحب الدنيا مع أنه يصلي ويصوم، بل ما أجر هذه العمارة لأصحاب الكبائر فقط، وإنما حماها لهم وضمن لهم ألا يعتدي عليهم أحد، أيكفر بذلك كفراً مخرجاً عن الملة؟
إنه يوصف بالفسق، وبالظلم، وبالفجور، وبأكل الحرام، وبكل الأوصاف الشنيعة؛ لأنه ارتكب أشنع الأعمال، لكنه ما خرج من الملة، فلا تبين منه زوجته، ولا تترتب عليه أحكام الكفر.
إذاً: فالمسألة خطيرة، خاصة مسألة الحكم بغير ما أنزل الله، والكلام فيها أكثره من الخوض بغير علم والقول على الله بغير علم، والتقاط الفتاوى القديمة والحديثة وتطبيقها على الوقائع المعاصرة خلل في الاجتهاد وخلل في تطبيق النصوص وخلل في تشخيص القضايا وتحقيق المناط فيها.
فليتق الله طلاب العلم، وليعرفوا أن الأمور لا بد من أن تؤخذ على بينة، ولا تؤخذ بالعواطف.
قال رحمه الله تعالى: [ وأراد الشيخ رحمه الله بقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) مخالفة المرجئة، وشبهتهم كانت قد وقعت لبعض الأولين، فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك، فإن قدامة بن مظعون شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة، وتأولوا قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [المائدة:93] الآية، فلما ذكر ذلك لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا، وقال عمر لـقدامة : أخطأت استك الحفرة، أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر.
وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب أن الله سبحانه لما حرم الخمر -وكان تحريمها بعد وقعة أحد- قال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟! فأنزل الله تعالى هذه الآية، بين فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم يحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين، كما كان من أمر استقبال بيت المقدس.
ثم إن أولئك الذين فعلوا ذلك ندموا وعلموا أنهم أخطئوا، وأيسوا من التوبة، فكتب عمر إلى قدامة يقول له: حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر:1-3]، ما أدري أي ذنبيك أعظم: استحلالك المحرم أولاً؟ أم يأسك من رحمة الله ثانياً؟! وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام ].
في هذا الكلام إشارة إلى أن الكفر لا يكون إلا بالاستحلال القلبي الاعتقادي، والاستحلال القلبي الاعتقادي من الصعب أن يعرف بالقرائن، بل لا يمكن أن يعرف بالقرائن، وسبق أن ضربت مثلاً، فلو أن إنساناً عمل فجوراً كثيراً وعمل أشياء كثيرة من الموبقات والمحرمات، وربما يكون بالغ في هذا العمل إلى حد أن نشر هذه الأمور، ولم ينكر تحريمها في الكتاب والسنة، فإنه مع ذلك يبقى مسلماً لا يخرج من الملة.
ومسألة الاستحلال القلبي أو الفساد الاعتقادي لا يمكن أن تعرف - كما قلت - إلا بالإقرار اليقيني الذي نعرف به أن هذا الإنسان الذي يدعي الإسلام أنكر شيئاً صريحاً في القرآن، وما تأول كما تأول هؤلاء الذين استحلوا الخمر في عهد عمر ، فإنهم ما أنكروا الآية، إنما ظنوا أن شربها له وجه من وجوه الإباحة، وهو أن الإنسان إذا شرب الخمر مع أنه يحب الله ورسوله ويعتقد اعتقاداً سليماً ويعمل الصالحات ويصلي ويصوم لا يضره ذلك، فهذا تأول؛ إذ ما أنكروا الآية ولا أنكروا أصل التحريم فيها، إنما تأولوا فاستحلوا بالتأول شربها، وهذا هو أكثر ما يحدث من المسلمين حتى في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله.
إذاً: الحكم بكفر فلان لمجرد أنه ارتكب ذنباً لا يمكن إلا بأن يقر إقراراً يبين به عما في قلبه، وإلا فلا سبيل إلى معرفة القلوب.
وأما الأمور الشركية البحتة فليس فيها مجال للتأول ولا مجال للتردد، إنما نتكلم عن المعاصي.
وبعض الناس يخلط بين مفهوم المعاصي وبين مفهوم الشركيات، وهذا الخلط ربما كان سبب وقوع كثير من الناس الآن في عدم التثبيت.
أقول: كثير من الأمور التي ورد فيها أنها كفر تدخل في الكبائر، أما الشركيات فهي الشركيات الواضحة، كالسجود لغير الله عز وجل تعظيماً له، وكالطواف بغير الكعبة، وكدعاء غير الله صراحة، فهذه أمور شركية صريحة ظاهرة لا تحتاج إلى أن نعرف ما في القلوب، لكن الأعمال الأخرى التي ليست شركية صريحة تبقى من الذنوب أو الكبائر، ولا يمكن أن نحكم بكفر صاحبها إلا أن يعبر عما في قلبه، اللهم إلا إذا كثر الإعراض عن دين الله كثرة يجزم معها أهل العلم الراسخون الذين يعرفون أصول الاجتهاد بأن هذا تنصل من الدين بالكلية، وهذا لا يتم إلا بشروط لا تتوافر لكل الذين يتكلمون ما عدا العلماء الكبار الراسخين.
إذاً: فالأصل في الكفريات العملية -ومنها الحكم بغير ما أنزل الله- أن الكفر فيها كفر غير مخرج من الملة، وقد يكون ظلماً وقد يكون فسقاً، ولذلك جعل أهل العلم المسألة موزعة على ما ورد من ألفاظ النصوص، فجعلوا الحكم بغير ما أنزل الله على ثلاثة أصناف: الأول: كفر، ومنه ما يخرج من الملة ومنه ما لا يخرج من الملة، والثاني والثالث: فسق وظلم.
فالكفر المخرج من الملة في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله واحد من أربعة، كما أنه من الأمور التي لا يمكن أن يعلمها الناس؛ لأنها أمور قلبية لا بد فيها من اجتهاد أهل العلم بمجموعهم، فيحكمون بأن هذا كفر صراح من هذا الشخص، وقد يكون العمل كفراً، ومع ذلك قد لا يكفر فاعله، فقد يكون من أنواع الحكم بغير ما أنزل الله ما هو كفر جزماً، لكن لا يلزم أن يكون صاحبه وفاعله كافراً، هذا أمر.
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الخروج كلاماً إذا رجعنا فيه إلى كلام المحققين من أهل العلم لعرفنا أن المسألة فعلاً لا يحكم فيها على الشخص إلا بعد استنفاذ أمور كثيرة جداً لا يملكها الفرد ولا العالم لوحده، خاصة إذا انبنى عليها عمل، أما مجرد التفلسف فأمر سهل، لكن إذا انبنى عليها عمل يكون الأمر خطيراً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا كفراً بواحاً) أي: جلياً كالشمس، ثم قال بعد ذلك: (عندكم) وما قال: عندك (عليه) أي: على هذا الكفر، لا على قرائنه وشواهده (من الله برهان)، فالمسألة خطيرة، فمن يجرؤ في تطبيق هذا الحديث على أن يدعي أنه عمل بهذه الضوابط الشرعية في الحكم.
السؤال: بعض العلماء يقول: إن الذي يكفر هو من حكم بغير ما أنزل الله مع الاعتقاد، فما هو الدليل على وجوب الاعتقاد؟ ولو قلنا بذلك لما كفرنا معيناً أبداً، ولم نستطع أن نكفر أحداً حتى ولو نفى وجود الله؟
الجواب: الذي يقر بالإلحاد لا شك أنه يكفر، ومن أقر باستحلال الحرام فهو كافر، ومن أقر بأنه يستحل الحكم بغير ما أنزل الله ولا يقر بحكم الله، ويعلم ذلك فهو كافر، فما وجه اللبس؟!
أما كوننا لا نكفر أحداً فمن الخير ألا نكفر أحداً ما دمنا لا نجد دليلاً على كفره، فمن الخير لنا في ديننا ودنيانا وللإسلام والمسلمين ألا نكفر أحداً ما دام أنه ليس عندنا دليل على كفره في قلبه، ومن قال: لابد من أن نكفر؟!
السؤال: هل التأول سائغ لكل أحد من الناس؟
الجواب: التأول ليس سائغاً لكل الناس، بل له شروطه، لكن قد يتأول الجاهل فنعذره وإن كان من غير أهل التأويل، بمعنى أنه قد يستبيح محرماً ظناً منه أنه حلال لشبهة في ذهنه أو لفهم خاطئ في الدليل، كما فعل أولئك الذين شربوا الخمر في عهد عمر ، فهؤلاء الصحابة فهموا الآية على غير معناها، فتأولهم غير سائغ ولا صحيح.
السؤال: هل للمرء أن يتأول النص حسب رغبته وهواه مع وجود العلم؟
الجواب: ليس له ذلك، لكن إذا فعله عن جهل نعذره بجهله.
السؤال: قلت: إن قول الماتن: إن الكفر لا يكون إلا بعد استحلال فيه نظر، فكيف ذلك؟
الجواب: الكفر المخرج من الملة أغلبه لا يكون إلا الكفر الاعتقادي، فإذا كان من باب عمل الكبائر فإنه غالباً لا يكون كفراً إلا باستحلال؛ لأن الاستحلال هو استحلال الحرام، فإذا استحل الحرام اعتقاداً مع معرفة أنه حرام، وأنكر الآية، أو أنكر الحديث الصحيح فهو بهذا يكفر، وقد يظهر لنا أنه استحلال وهو ليس باستحلال، فالمسألة فيها غموض.
السؤال: كيف يحكم الصحابة بقتل قدامة مع أنه متأول؟
الجواب: ما حكموا عليه بالقتل، بل قالوا: إن استحل بعد قيام الدليل عليه قتل، فلما قامت عليه الحجة وبينوا له الدليل واستتابوه رجع.
فالصحابة قالوا: يعرض عليه الأمر ويبين له الدليل وتكشف عنه الشبهة، فإن أصر على الاستحلال بعد قيام الدليل كفر، لكنه ما أصر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر