هذا الموضوع داخل في باب الأسماء والأحكام، أي: أنه تفصيل في أحكام المسلمين، سواء منهم المتقون والمقصرون الذين وقعوا في بعض التقصير أو وقعوا في بعض العظائم؛ فهؤلاء وأولئك يدخل موضوعهم في العقيدة في باب الأسماء والأحكام، أي: تسميتهم مسلمين ومؤمنين، وأحكامهم في الدنيا والآخرة.
قال رحمه الله تعالى: [ وعلى المؤمن أن يعتقد هذا الذي قاله الشيخ رحمه الله في حق نفسه وفي حق غيره، قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57]، وقال تعالى: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، وقال تعالى: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41]، وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40]، فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [المائدة:44].
ومدح أهل الخوف، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:58-61] .
وفي المسند والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: (يا رسول الله! الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: لا، يا
قال الحسن رضي الله عنه: عملوا - والله - بالطاعات واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمناً. انتهى ].
في المقطع التالي سيذكر أن الخوف والرجاء يستلزمان العمل، وليس الخوف والرجاء مجرد أمانٍ، وإنما لا بد أن يكون الخوف وراءه عمل، والرجاء وراءه عمل.
قال رحمه الله تعالى: [ وقد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218]، فتأمل كيف جعل رجاءهم مع إتيانهم بهذه الطاعات؟! فالرجاء إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله تعالى، شرعه وقدره وثوابه وكرامته.
ولو أن رجلاً له أرض يؤمل أن يعود عليه من مغلها ما ينفعه فأهملها ولم يحرثها ولم يبذرها، ورجا أنه يأتي من مغلها مثل ما يأتي من حرث وزرع وتعاهد الأرض؛ لعده الناس من أسفه السفهاء، وكذا لو رجا وحسن ظنه أن يجيئه ولد من غير جماع، أو يصير أعلم أهل زمانه من غير طلب العلم وحرص تام، وأمثال ذلك، فكذلك من حسن ظنه وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات العلا والنعيم المقيم من غير طاعة ولا تقرب إلى الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
ومما ينبغي أن يعلم أن من رجا شيئاً استلزم رجاؤه أموراً:
أحدها: محبة ما يرجوه.
الثاني: خوفه من فواته.
الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان ].
الشيخ: لذلك قرر أهل العلم أهل السنة والجماعة أن العبادة لا بد أن تقوم على ثلاثة أركان، وإذا اختل ركن اختلت العبادة:
الركن الأول: المحبة لله عز وجل.
والركن الثاني: رجاء رحمة الله عز وجل ورجاء ثوابه.
والركن الثالث: هو الخوف، أي: الخشية من الله عز وجل والخشية من عقابه وعذابه. وهذه الأمور كلها لا بد أن تترجم إلى عمل.
قال رحمه الله تعالى: [ وأما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني، والرجاء شيء والأماني شيء آخر، فكل راج خائف، والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات.
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فالمشرك لا ترجى له المغفرة؛ لأن الله نفى عنه المغفرة، وما سواه من الذنوب في مشيئة الله، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه.
وفي معجم الطبراني : (عند الله يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وهو الشرك بالله، ثم قرأ: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48] وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وهو مظالم العباد بعضهم بعضاً، وديوان لا يعبأ الله به، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه) ].
ولكن ثم أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر، وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره ].
ومن الأشياء التي تلحق الصغيرة بالكبيرة إدمان الصغيرة والإصرار عليها، فالصغائر إذا أدمن عليها صاحبها وأصر عليها دخلت عند كثير من أهل العلم في الكبائر.
أما التفريق بين الصغائر والكبائر فسيأتي في مقام آخر فيما بقي إن شاء الله من الكتاب.
السبب الأول: التوبة، قال تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ [مريم:60]، وقال: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [النور:5] .
والتوبة النصوح -وهي الخالصة- لا يختص بها ذنب دون ذنب، لكن هل تتوقف صحتها على أن تكون عامة، حتى لو تاب من ذنب وأصر على آخر لا تقبل؟ والصحيح أنها تقبل، وهل يجب الإسلام ما قبله من الشرك وغيره من الذنوب وإن لم يتب منها؟ أم لا بد مع الإسلام من التوبة من غير الشرك؟ حتى لو أسلم وهو مصر على الزنا وشرب الخمر -مثلاً- هل لا يؤاخذ بما كان منه في كفره من الزنا وشرب الخمر؟ أم لا بد أن يتوب من ذلك الذنب مع إسلامه؟ أو يتوب توبة عامة من كل ذنب؟ وهذا هو الأصح: أنه لا بد من التوبة مع الإسلام، وكون التوبة سبباً لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها مما لا خلاف فيه بين الأمة ].
الذي ورد في النصوص أن الإسلام يجب ما قبله، وإذا كان يجب ما قبله -كما هو ظاهر الحديث- فإن ذلك يتضمن التوبة من الذنوب ويستلزمها أيضاً، أي: الإسلام بعد الكفر، فالدخول في الإسلام بعد كفر وشرك يعد توبة مطلقة يدخل فيها -والله أعلم- الذنوب التي يرتكبها الإنسان حال كفره، اللهم إلا إذا أصر على ذنب، فإذا أصر على ذنب واستمر عليه -بمعنى أنه صار عليه حال كفره وحال إسلامه- فإنه يبقى عليه ذنبه، لكنه يدخل في الإسلام.
إذاً: فالكافر إذا أسلم فالظاهر أن إسلامه يجب كل ما سبق من ذنوبه، ولا ذنب أعظم من الشرك والكفر، ولا شك أن من أسلم فقد استسلم وسلم لله عز وجل، ومن سلم فإنه بدأ أعماله من جديد، والإسلام يمحو كل ما سبق، هذا الظاهر والله أعلم، اللهم إلا إن بقي ذنب من الكبائر أصر عليه حال إسلامه؛ فإنه يستمر عليه الإثم، وهو ظاهر كلام المؤلف هنا.
قال رحمه الله تعالى: [ وكون التوبة سبباً لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها مما لا خلاف فيه بين الأمة، وليس شيء يكون سبباً لغفران جميع الذنوب إلا التوبة، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] وهذا لمن تاب، ولهذا قال: لا تَقْنَطُوا [الزمر:53] وقال بعدها: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ [الزمر:54] ].
وهناك أيضاً من الفروق الرئيسة بين الاستغفار والتوبة أن التوبة أعم، بمعنى أن التوبة تكون من الشرك والكفر وما دون ذلك، والاستغفار لا يقع إلا من مسلم، بمعنى أنه لا ينفع الكافر استغفاره إذا كان باقياً على كفره، لكنه لو تاب من جميع ما هو عليه قبلت توبته.
إذاً: الاستغفار أخص من هذا الوجه، فالاستغفار لا ينفع الكافر، لكنه من خصائص المسلمين.
قال رحمه الله تعالى: [ ونظير هذا: الفقير والمسكين، إذا ذكر أحد اللفظين شمل الآخر، وإذا ذكرا معاً كان لكل منهما معنى، قال تعالى: فإِطْعَامُ عَشَرَة مَسَاكِينَ [المائدة:89]، وقال: فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً [المجادلة:4]، وقال: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271].
لا خلاف أن كل واحد من الاسمين في هذه الآيات لما أفرد شمل المقل والمعدم، ولما قرن أحدهما بالآخر في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60] كان المراد بأحدهما المقل، والآخر المعدم، على خلاف فيه.
وكذلك: الإثم والعدوان، والبر والتقوى، والفسوق والعصيان، ويقرب من هذا المعنى: الكفر والنفاق، فإن الكفر أعم، فإذا ذكر الكفر شمل النفاق، وإن ذكرا معاً كان لكل منهما معنى.
وكذلك الإيمان والإسلام، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى ].
وفي المسند: (أنه لما نزل قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123] قال أبو بكر : يا رسول الله! نزلت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءاً؟ فقال: يا أبا بكر ! ألست تنصب؟! ألست تحزن؟! ألست يصيبك اللأواء؟! فذلك ما تجزون به).
فالمصائب نفسها مكفرة، وبالصبر عليها يثاب العبد، وبالسخط يأثم، فالصبر والسخط أمر آخر غير المصيبة، فالمصيبة من فعل الله لا من فعل العبد، وهي جزاء من الله للعبد على ذنبه، ويكفر ذنبه بها، وإنما يثاب المرء ويأثم على فعله، والصبر والسخط من فعله، وإن كان الثواب والأجر قد يحصل بغير عمل من العبد، بل هدية من الغير، أو فضل من الله من غير سبب، قال تعالى: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء:40]، فنفس المرض جزاء وكفارة لما تقدم.
وكثيراً ما يفهم من الأجر غفران الذنوب، وليس ذلك مدلوله، وإنما يكون من لازمه ].
هناك فرق بين الثواب وبين التكفير، بمعنى أن الثواب أو الإثم على شيء أمر زائد عن مجرد تكفير الذنوب، فمثلاً: المصائب الدنيوية التي تصيب المسلم تكون تكفيراً عن ذنوبه، لكنه قد لا يؤجر إذا لم يصبر، فإذا جزع فليس له في ذلك أجر، لكن لا يعني ذلك أنه لا تكفر ذنوبه، وهذا هو وجه الجمع بين النصوص؛ لأنه ورد في النصوص أن الذي يجزع ولا يصبر ليس له في ذلك أجر، كما أنه ورد النصوص المطلقة كحديث البخاري السابق وحديث مسلم أن المصائب تكفر الذنوب.
إذاً: فتكفير الذنوب أمر، والأجر الحاصل أمر زائد، فالمسلم إذا أصابته اللأواء وأصابته المصائب في دنياه، فإن صبر أجر على ذلك أجراً عظيماً، وإن لم يصبر فإنه -إن شاء الله- قد يكفر عنه من الذنوب ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، وذلك من فضل الله ورحمته بعباده.
يقصد بعذاب القبر أن طوائف من المؤمنين الذين يعذبون في قبورهم بعد الموت يكون هذا العذاب تطهيراً لهم من بعض ما ارتكبوه من ذنوب، وعلى هذا فإن هذا العذاب الذي يلقاه بعض من يستحقه في القبر من المؤمنين لا يعذب به يوم القيامة بعد البعث، هذا ظاهر كلام المؤلف.
السبب السابع: ما يهدى إليه بعد الموت من ثواب صدقة أو قراءة أو حج، ونحو ذلك، ويأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى.
السبب الثامن: أهوال يوم القيامة وشدائده.
السبب التاسع: ما ثبت في الصحيحين: (أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة).
السبب العاشر: شفاعة الشافعين، كما تقدم عند ذكر الشفاعة وأقسامها.
السبب الحادي عشر: عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة، كما قال تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فإن كان ممن لم يشأ الله أن يغفر له لعظم جرمه؛ فلابد من دخوله إلى الكير؛ ليخلص طيب إيمانه من خبث معاصيه، فلا يبقى في النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، بل من قال: لا إله إلا الله، كما تقدم من حديث أنس رضي الله عنه.
وإذا كان الأمر كذلك امتنع القطع لأحد معين من الأمة غير من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، ولكن نرجو للمحسنين، ونخاف عليهم ].
ما يتعلق بعذاب القبر سيأتي الكلام عنه تفصيلاً كما ذكر الشارح، لكن أحب أن أشير إلى أن كلام كثير من أهل العلم أن عذاب القبر ثلاثة أقسام: منه ما يكون على ذنوب يستمر معها العذاب في القبر وبعد البعث، كذنوب المنافقين والمشركين.
ونوع آخر يكون فيه تكفير كامل، وهو عذاب المسلمين الذين يعذبون ببعض الذنوب في قبورهم، فإن هناك صنفاً من المؤمنين يكون تعذيبهم في القبر من التكفير الكامل لذنوبهم.
ونوع ثالث يكون تعذيب أهله في القبر تخفيفاً للجزاء وليس تكفيراً بالكلية.
فالمعذبون ثلاثة أصناف: صنف يستمر عذابهم في القبر وبعد البعث، وهم العتاة من المشركين والكفار والمنافقين، نسأل الله السلامة.
وصنف يكفر الله عنهم بعذاب القبر وهم طوائف من المؤمنين.
وصنف يخفف الله عنهم بعذاب القبر، وهم أيضاً طوائف من المؤمنين.
يقصد الأمن من عذاب الله ومكره، واليأس من رحمة الله وعفوه، فالأمن الكامل من عذاب الله ومكره كفر، نسأل الله السلامة، واليأس الكامل من رحمة الله وعفوه أيضاً كفر، وأغلب ما يقع فيه العباد الأمن الكامل، واليأس يوجد عند أهل التنطع والتشدد، كغلاة الخوارج وبعض غلاة العباد، لكن الأمن كثير جداً في الأمم وفي بعض الطوائف كغلاة المرجئة ومن سلك سبيلهم.
قال رحمه الله تعالى: [ يجب أن يكون العبد خائفاً راجياً؛ فإن الخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه وبين محارم الله، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط.
والرجاء المحمود: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله، فهو راج لثوابه، أو رجل أذنب ذنباً ثم تاب منه إلى الله، فهو راج لمغفرته، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218].
أما إذا كان الرجل متمادياً في التفريط والخطايا، يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب.
قال أبو علي الروذباري رحمه الله: الخوف والرجاء كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير، وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت.
وقد مدح الله أهل الخوف والرجاء بقوله: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ [الزمر:9]، وقال تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16]، فالرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمناً، والخوف يستلزم الرجاء، ولولا ذلك لكان قنوطاً ويأساً، وكل أحد إذا خفته هربت منه، إلا الله تعالى، فإنك إذا خفته هربت إليه، فالخائف هارب من ربه إلى ربه.
وقال صاحب منازل السائرين رحمه الله: الرجاء أضعف منازل المريد. وفي كلامه نظر، بل الرجاء والخوف على الوجه المذكور من أشرف منازل المريد.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء).
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)، ولهذا قيل: إن العبد ينبغي أن يكون رجاؤه في مرضه أرجح من خوفه، بخلاف زمن الصحة، فإنه يكون خوفه أرجح من رجائه ].
هذه الكلمة سارت واشتهرت عند الأئمة، لكنهم ما أسندوها إلى أحد بعينه، وهي قاعدة عظيمة:
فقولهم: (من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق) يعني أنه يقع في الإعراض عن دين الله عز وجل، فمن غالى في الإرجاء وقع في الزندقة التي هي ترك الدين والإعراض عنه.
وقولهم: (ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري) الحروري هو الخارجي؛ لأن الخوارج يميلون إلى التشدد، والخوارج سموا حرورية نسبة إلى حروراء ذلك الموضع الذي انحازوا إليه لما افترقوا عن جماعة المسلمين في عهد علي رضي الله عنه، فسمي كل من نزع هذه النزعة حرورياً، يعني أنه غلب جانب الخوف وغلب نصوص الوعيد وترك نصوص الوعد فشدد على نفسه وعلى غيره.
وقولهم: (ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ) هذا يدخل في الأول لكنه أخف من الأول؛ لأن من عبد الله بالحب هو الذي لا يبالي بالشرع أبداً، يعرض عن الشرع بالكلية، وأغلب الذين يسلكون هذا المسلك نجدهم من زنادقة الفلاسفة وغلاة الصوفية، وأما الإرجاء -ما عدا إرجاء الجهمية- فهو في الغالب نوع من الإخلال بالشرع فقط، فلا يعد الإرجاء كله زندقة أو إعراضاً عن دين الله، فإرجاء الفقهاء المشهور هذا قد يقصر صاحبه في بعض الأعمال وليس في كلها.
قال رحمه الله تعالى: [ ولقد أحسن محمود الوراق في قوله:
لو قد رأيت الصغير مَنْ عمل الخير ثواباً عجبت من كبره
أو قد رأيت الحقير من عمل الشر جزاءً أشفقت من حذره ].
الجواب: ليس لهم حجة؛ لأن الله عز وجل أمرهم بالتوبة وأمرهم بالاستغفار، وجعل تكفير الذنوب مرتبطاً بالسعي إلى ذلك بترك المنهيات، وبفعل المأمورات، وكثرة الاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل، والشارح رحمه الله أشار إلى أنه لا توبة ولا رجاء إلا بأسباب، وإلا فتعليق الأمل على الله عز وجل مجرد أمان، والأماني لا تنفع أصحابها.
الجواب: الأمن واليأس في الجملة لا ينقلان من الإسلام إلا إذا كان الأمن أمناً كاملاً أدى إلى ترك الدين بالكلية، أما من هو مسلم لله وقائم بالحد الأدنى من الدين، فلا شك أن أمنه -بمعنى: تفريطه في حق الله- لا يخرجه من الملة، وكذلك المسلم إذا يئس من الرحمة، بمعنى أنه غلب جانب اليأس، ومع ذلك يعمل ويرجو الله عز وجل، فإن هذا أيضاً لا يخرج من الملة وإن غلب عليه اليأس، لكن قصد الشارح وقصد بعض الأئمة بأن الأمن واليأس كفر الأمن الكامل، فإذا أمن الإنسان من عقوبة الله عز وجل وأدى ذلك إلى أن ترك الدين بالكلية، وأعرض عن الإسلام وعن جميع الأعمال، هذا معرض عن دين الله عز وجل، فأمنه يوقعه في الكفر، وهكذا من يئس من رحمة الله يأساً كاملاً بأن اعتقد أن الله لا يرحم عباده، فهذا أيضاً يكون كفراً.
الجواب: لم يرد أن من أسماء الله الفرد، فالفرد وصف للأحد، والأحد من أسماء الله، كما قال تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، فالفرد بمعنى الأحد.
الجواب: الخصوص والعموم في الألفاظ التي مرت أمر نسبي، لا يعد من وجه واحد، مثل التوبة والاستغفار، فالاستغفار قد يكون أعم من وجه، والتوبة أعم من وجه آخر، وهذا راجع للسياق، فلا نستطيع أن نحدد ما تختص به التوبة عن الاستغفار من وجه واحد، وكذلك لا نستطيع أن نعرف خصائص الاستغفار دون التوبة من وجه واحد، لكن مع ذلك فالظاهر أن التوبة أعم من الاستغفار، لأن الاستغفار من وسائل التوبة، والتوبة أعم من ذلك، فهذا على وجه العموم، وهكذا بقية الألفاظ.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر