يشير الشيخ إلى الرد على الخوارج والمعتزلة في قولهم بخروجه من الإيمان بارتكاب الكبيرة، وفيه تقرير لما قال أولاً: إنه لا يكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، وتقدم الكلام على هذا المعنى ].
كلامه هنا فيه نوع من الإجمال، وبعض الألفاظ فيها اشتباه، وفي الجملة إذا جعلنا هذا الأصل جارياً على أصول أهل السنة والجماعة -وهو -إن شاء الله- مقصود الإمام الطحاوي - فإنه يعني أنه لا يخرج العبد من مسمى الإيمان إلا إذا ترك شيئاً من أصول الدين، بمعنى أنه أنكر شيئاً من أصول الإيمان ولوازم أصول الإيمان التي لا بد منها والتي ثبتت في النصوص، مثل الشفاعة، والرؤية، وكلام الله عز وجل وأنه منزل غير مخلوق؛ فهذه من لوازم الإيمان، وتدخل في أصول الإيمان بالنصوص الشرعية، وليس باللزوم العقلي أو التفريع على القواعد فقط، بل بمقتضى النصوص الشرعية؛ لأن أركان الإيمان وأركان الإسلام لها لوازم.
وفي الأركان العملية خلاف، فهل من أعرض عن الصلاة والصيام والحج والزكاة إعراضاً كلياً يخرج من الإيمان أو لا يخرج؟ هذه مسألة خلافية، إلا أن الصلاة ورد فيها نصوص مستقلة على أنه يخرج تاركها من الإيمان ومن الإسلام، وما عدا ذلك فإن المسألة فيها خلاف، فبعض أهل العلم قال: إن من أعرض عن أركان الإسلام إعراضاً كلياً؛ فلا بد أن يلزم من إعراضه الجحود أو الشك الذي يؤدي إلى الجحود، أو عدم التسليم الذي يخرج به عن مسمى الإيمان.
إذاً: فقوله: (لا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه) يقصد به جحود أصول الدين التي أدخلته في مسمى الإيمان، وهي أركان الإيمان ولوازمها وأركان الإسلام بجملتها ولوازمها.
هذه العبارات في الحقيقة جارى فيها الشيخ الطحاوي رحمه الله مذهبه وشيوخه الأحناف، وإن كان حاول أن يقرب بعض الألفاظ إلى المعاني التي يقول بها أهل السنة والجماعة، إلا أنه بقي في بعض عباراته شيء من الإشكال.
فقوله: (والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان) ليس هو التعريف الكامل للإيمان، فقد بقي العمل بالجوارح، أي أنه مال إلى قول المرجئة.
وقوله: (وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق) هذا فيه تلميح إلى قول أبي حنيفة ومرجئة الفقهاء رحمهم الله، فإنهم يقولون: إن الأعمال تخرج من مسمى الإيمان، لكنها تلزم العبد؛ لأنها أوامر ونواه، ويترتب على فعلها الثواب وعلى تركها الوعيد والعقاب.
وقوله: (والإيمان واحد وأهله في أصله سواء) فيه تعبير عن مذهب المرجئة، وكأنه يشير إلى أن الإيمان هو التصديق والقول.
والسلف في الحقيقة يرون أن الإيمان متعدد؛ لأن الإيمان هو معانٍ وحقائق تتفاوت، كالتصديق والإذعان والخشية والتقوى والخوف والرجاء ونحو ذلك من المعاني القلبية، وكذلك يتعدد في الأمور العملية، فأعمال الجوارح كلها تدخل في مسمى الإيمان، وهي متعددة وتتفاوت زيادة ونقصاً، وتتفاضل بحسب النية وما يقر في القلب، وتتفاضل أيضاً بنوعها وكمها، وهذا التفاضل في أعمال القلب وفي أعمال الجوارح لا يتماشى مع التعبير بأن الإيمان واحد وأهله في أصله سواء.
كما أن قوله: (وأهله في أصله سواء) متابعة للمرجئة في أن المؤمنين على درجة واحدة من الإيمان، إنما يتفاوتون في الأعمال على اعتبار أن الأعمال عند هؤلاء لا تدخل في مسمى الإيمان، وكذلك قوله: (والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى) يقصد بذلك أن التفاضل معنوي ولا يكون حسياً، وهو بهذا أيضاً يميل إلى قول المرجئة بأن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان على الأقل في ظاهر اللفظ، وإن كان الشارح ابن أبي العز رحمه الله حاول أن يجر هذه العبارات إلى مذهب أهل السنة والجماعة بشيء من التكلف، والله أعلم، وسيتضح هذا من خلال ما سيذكره.
هنا زاد على كلام الشيخ الطحاوي الإشارة إلى العمل بالأركان، هذا أمر، الأمر الآخر أن العبارة فيها قصور في الحقيقة، وإن كان ابن أبي العز ربما لم يقصد ذلك، لكنه ما أراد أن يبين وجه الخطأ في كلام الطحاوي رحمه الله، وما أراد أن يشهر وجه الخطأ؛ لأنه حمله على أحسن المحامل.
وقوله: [اختلف الناس] ثم قوله: [ذهب مالك ]، كان الأولى منه أن يقول: فذهب السلف؛ فهذا مذهب السلف إطلاقاً: الصحابة والتابعين وأئمة الهدى، ولم يخالفهم من الأئمة المشاهير إلا أبو حنيفة وشيخه حماد وعدد قليل من أتباعهما ممن يعدون من أئمة السلف، أما البقية فهم من أهل الأهواء، فعلى أي حال ينبغي أن يقال: فهذا مذهب السلف، ثم يذكر أفراداً منهم، فيقال: فمذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي كذا، كما فصل، أو أن يقال: فمذهب السلف -كـمالك والشافعي - ... إلى آخره.
وقد تبع بعض المتكلمين السلف، أما أهل المدينة فهم أصل السلف، وأهل الظاهر أيضاً يوافقون السلف في كثير من الأصول في العقيدة، وقوله: [وجماعة من المتكلمين] يقصد جماعة من الأشاعرة والماتريدية.
والمعتزلة يوافقون أهل السنة بإجمال في هذا القول، فيدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، وكذلك أكثر الخوارج يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، لكنهم لا يجزئون الإيمان، حيث يرون أن الإيمان إذا اختل منه شيء اختل كله، فعند الإجمال يوافق المعتزلة والخوارج أهل السنة، لكن عند التطبيق والتفصيل يخالفون مخالفة كبيرة، فأهل السنة يرون أن الإيمان يتفاضل، ومع تفاضله إذا اختل منه عمل بقي الآخر، والخوارج والمعتزلة يرون أن الإيمان يشمل القول والعمل، لكن إذا اختل منه جزء اختل كله، ولا يزال مذهب أكثر الإباضية إلى اليوم.
قوله: (من أصحابنا) يعني: الأحناف، وهم المرجئة؛ ولا يلزم التلازم بين الأحناف والمرجئة، نعم هناك مرجئة غير الأحناف، لكنهم هم الأغلبية، فهناك من الأحناف من مال إلى مذهب أهل الحديث مذهب أهل السنة والجماعة قديماً وحديثاً، وهناك منهم من يخالفهم في بعض الجزئيات، لكن في الجملة الكلام أن غالب الأحناف هم المرجئة، كما أن أغلب المرجئة أحناف، والماتريدية كذلك مرجئة.
فقوله: (أصحابنا) يعني: الأحناف، أصحابه في المذهب الفقهي.
قال رحمه الله تعالى: [ ومنهم من يقول: إن الإقرار باللسان ركن زائد ليس بأصلي، وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي رحمه الله، ويروى عن أبي حنيفة رضي الله عنه ].
الراجح عن أبي حنيفة أنه قال: إن الإيمان تصديق وقول، وهو مذهب شيخه، وقد فرق الشارح الأقوال، فلذلك يحسن أن نجمعها الآن بإيجاز، وإن كانت ستأتي تفصيلاً، فمحصلة الأقوال في الإيمان أنها خمسة:
أولها: قول السلف بأنه قول وعمل، هذا على الإجمال، وأحياناً يفصلون فيقولون: اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان.
والقول الثاني: أنه تصديق القلب وقول اللسان، وهذا مذهب أبي حنيفة وشيخه وكثير من أوائل المرجئة.
والقول الثالث: أنه قول اللسان فقط، وهذا قول الكرامية.
والقول الرابع: أنه التصديق فقط، وهذا قول طائفة من الأحناف، وهو قول أبي منصور الماتريدي وكثير من أتباعه، ولا يزال هو قول كثير من المرجئة، سواء كانوا أشاعرة أو ماتريدية أو غيرهم، بمعنى أن المرجئة لهم قولان: منهم من قال: الإيمان هو التصديق فقط، وأثر هذا عن أبي حنيفة ، وهو أيضاً قول الماتريدي وقول كثير من المرجئة الأشاعرة والماتريدية، ومنهم من قال: إن الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو الأرجح عن أبي حنيفة ، وقال به بعض المرجئة أيضاً.
والقول الخامس: أن الإيمان هو مجرد المعرفة فقط، أي: أن من عرف الله فهو مؤمن، سواء صدق أو لم يصدق، فالذي يعرف ويجحد كفرعون مؤمن كامل الإيمان، وهذا قول الجهم وقول بعض الفلاسفة وغلاة الصوفية، ويقول به كثير من الباطنية.
وذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسن الصالحي -أحد رؤساء القدرية - إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب! وهذا القول أظهر فساداً مما قبله؛ فإن لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين، فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، ولم يؤمنوا بهما، ولهذا قال موسى لفرعون: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:102] ].
وجه الاستدلال هنا أنه قال: (لَقَدْ عَلِمْتَ) وهذا مما حكاه الله عز وجل عن موسى وفرعون ، وفرعون لم ينكر هذه الدعوى؛ لأنه ما أنكر قول موسى: (لَقَدْ عَلِمْتَ)، ثم إن الله عز وجل حكى بذلك وجه الحق في القصة، فلو كان فيها استدراك فيما لا يعلمه إلا الله عز وجل -وهو ما في قلب فرعون - لتبين هذا في القرآن، أو لبينه الله عز وجل، ثم إن موسى لا ينطق إلا بالحق في الدعوة إلى الله وإقامة الحجة على فرعون، والله عز وجل يسدده ويعصمه من أن يقول الباطل، لا سيما أنه يشير إلى ما في قلب فرعون.
وقوله: (لَقَدْ عَلِمْتَ) فيه نوع من إطلاع موسى على شيء من الغيب مما في قلب فرعون، فلو لو يكن هذا حقاً -أي: أن فرعون علم لكنه جحد- لما جاءت بهذا السياق في كتاب الله، فلو كان كلام موسى عليه السلام عن فرعون مجرد ظن؛ لما جاء بها هكذا دون أن يسدده الله عز وجل ويبين له وجه الحق في ذلك، لا سيما أنه يشير إلى معنى قلبي لا يعلمه إلا الله عز وجل، وقد أطلع الله عليه نبيه موسى، وهو أن فرعون علم في قرارة قلبه أنه ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر.
قال رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُفْسِدِينَ [النمل:14] ].
دلالة هذه الآية دلالة ظاهرة؛ لأن الله عز وجل يحكي حالهم، والله لا يقول إلا الحق، فالله يحكي حال فرعون وآله؛ لأنهم استيقنتها أنفسهم، بمعنى أنهم عندهم يقين قلبي، لكن الجحود جحود مكابرة وجحود تعالي وغطرسة وغرور، وهذه من صفات الإنسان إذا طغى واستحوذ عليه الشيطان، نسأل الله العافية.
قال رحمه الله تعالى: [ وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ولم يكونوا مؤمنين به، بل كافرين به، معادين له، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمناً، فإنه قال:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
بل إبليس يكون عند الجهم مؤمناً كامل الإيمان! فإنه لم يجهل ربه، بل هو عارف به، قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر:36].. قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39].. قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]، والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب تعالى، ولا أحد أجهل منه بربه، فإنه جعله الوجود المطلق، وسلب عنه جميع صفاته، ولا جهل أكبر من هذا، فيكون كافراً بشهادته على نفسه! ].
هذا من باب الإلزام، والشاهد أنه يلزم من قول الجهم -وهو قول خبيث غال في الخبث- أنه إذا كان الإيمان هو معرفة الله فقط، وأن من عرف الله استحق الثواب على الإيمان، يلزم منه أن يكون فرعون وقومه من المؤمنين والذين يستحقون الثواب، وأنهم لا يكونون كافرين على هذا المفهوم، وكذلك أبو طالب وقريش، والكفرة الذين أنكروا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى، كل هؤلاء على قاعدة الجهم يعدون من المؤمنين وليسوا من الكافرين، وكذلك إبليس، وهذه مغالطة وقلب للحقائق، وهذا أسلوب الباطنية في كل زمان.
وحاصل الكل يرجع إلى أن الإيمان: إما أن يكون ما يقوم بالقلب واللسان وسائر الجوارح، كما ذهب إليه جمهور السلف من الأئمة الثلاثة وغيرهم رحمهم الله، كما تقدم ].
هذا كلام ليته عبر به في السابق، فهذا تعبير سليم عن قول السلف بأسلوب واضح صريح ليس فيه مجاملة للأحناف ولا للمرجئة.
قال رحمه الله تعالى: [ أو بالقلب واللسان دون الجوارح، كما ذكره الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، أو باللسان وحده، كما تقدم ذكره عن الكرامية، أو بالقلب وحده، وهو إما المعرفة كما قاله الجهم ، أو التصديق كما قاله أبو منصور الماتريدي رحمه الله، وفساد قول الكرامية والجهم بن صفوان ظاهر ].
وهذا الكلام أيضاً مما تساهل فيه الشارح وأراد أن يتوسط حسب رأيه ووجهة نظره بين الطحاوي والأحناف من جهة وبين أهل السنة من جهة أخرى، فتصوير الخلاف بأنه صوري مطلقاً غير صحيح، وكذلك تصوير الخلاف بأنه لفظي مطلقاً غير صحيح، فهو صوري ولفظي من جهة، لكنه اعتقادي وعلمي من جهة أخرى، أما كونه صورياً ولفظياً فهذا من جهة الأعمال وثمرة الأعمال، أي: جزاء الأعمال، بمعنى أن أبا حنيفة وأتباعه -سواء الذين قالوا: إن الإيمان هو التصديق، والذين قالوا: هو التصديق والقول- عندهم للأعمال اعتبار كبير، فلا يتساهلون في الأعمال، ويرون أنها من لوازم الإيمان، وأن الإخلال بالأعمال يترتب عليه الوعيد، وأن الزيادة في الأعمال عليها الثواب العظيم، فمن ناحية العمل يكون الغالب أن النزاع لفظي، وهذا عند الكبار الأوائل منهم الذين في عصر السلف في القرن الأول والثاني تقريباً، أما المتأخرون منهم فصار عندهم نوع تساهل في فروع هذه المسألة، وانعكس هذا المفهوم عندهم في التساهل في الأحكام والأسماء والأعمال وثمرات الأعمال انعكاساً مباشراً وغير مباشر، وأقصد بذلك أن متأخري المرجئة تساهلوا في مسألة لوازم الأعمال من الولاء والبراء، ومن تحقيق الوعيد، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك، بخلاف الأولين، فـأبو حنيفة رحمه الله ومن كان في زمنه وقبله كانوا لا يتساهلون في مسألة الأعمال، وعندهم من الورع ومن التزام السنة ما يجعلهم لا يخلون بمنهج الولاء والبراء، ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بلوازم العمل من حيث الوعيد ونحو ذلك.
إذاً: الخلاف عند الأوائل في الجانب العملي صوري في نهايته وثمرته، لكن في الجانب الآخر -وهو الجانب الاعتقادي- لا شك أن هناك فرقاً كبيراً، ولذلك جعل أهل السنة بإجماع المسألة من مسائل الاعتقاد، وهي قولهم بأن الإيمان قول وعمل، وإدخالهم الأعمال في مسمى الإيمان، وصار ذلك من أصول العقيدة يقررونه في كتبهم، ويدرسونه ويحشدون له الأدلة، وكتبوا في ذلك مجلدات تقريراً للحق، فالسلف لا يتكلمون بالفضول، وهم أكثر الناس تورعاً عن الكلام والتأليف في فضول الأمور، فقد عنوا بمسألة الإيمان عناية باهرة وكبيرة وعظيمة جداً، أي: إدخال الأعمال في مسمى الإيمان، وأن الأعمال جزء من الإيمان.
وترتب عليها من الجانب الاعتقادي القول بأن الإيمان يزيد وينقص، ولذا فالمرجئة يرون أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فصارت هذه المسألة من الناحية الاعتقادية والعلمية من أكبر المسائل عند أهل السنة والجماعة، وربطوها بالتي قبلها، ثم جاءت مسألة الاستثناء في الإيمان، وصارت من أساسيات العقيدة؛ لأنها فرع عن القول بأن الإيمان تصديق أو أنه تصديق وعمل، فالذين قالوا: إن الإيمان هو التصديق والقول؛ قالوا: لا يجوز الاستثناء في الإيمان؛ لأنك إذا صدقت لا تستثني، والسلف حينما قالوا بأن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، أجازوا استثناء في الإيمان؛ لأن العمل مرتبط بالعبد، فإذا كان موقناً بالله عز وجل عاملاً بمقتضى الشرع؛ فليقل: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأنه ليس المقصود مجرد التصديق اللغوي، ومجرد الإقرار.
فعلى هذا فالخلاف من الناحية العملية عند الأوائل لفظي فعلاً، لكنه عند المتأخرين من الناحية العملية لم يعد لفظياً، أما من الناحية الاعتقادية والناحية العلمية فإن الخلاف ليس بلفظي، بل ترتب عليه أمور خالفت مقتضى النصوص الصريحة عند السلف، والسلف حينما قرروا أن الإيمان يزيد وينقص وأن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وأنه يجوز الاستثناء في الإيمان، حينما قرروا ذلك قرروه لأن النصوص وردت بذلك، فلا بد من حماية النصوص وقواعد الشرع وأصول الدين من أن تنتهك وتختل مفاهيمها عند الناس لمجرد مجاراة إمام غلط أو زل.
اعترض الشيخ هنا اعتراضاً قاله بعض أهل العلم، لكنه اختصر فجعل الاعتراض غير واضح، ثم أجاب عن هذا الاعتراض، يقول: إن من الأعمال ما يخرج تركه من الملة، أو يدخل تركه الكفر، وهو الصلاة، وعلى هذا فإن تارك الصلاة إذا كان يخرج من الملة أو يكفر فقد اختل إيمانه، أو لا يقال: إنه مؤمن، ثم يقول: إن الجواب عن هذا أن الصلاة استثنيت بنصوص مستقلة.
وهذا الكلام في مجمله صحيح، فالصلاة ورد النص بتكفير تاركها أكثر مما ورد في غيرها، وقد وردت نصوص بأن كفر تارك الصلاة كفر مغلظ، فقد وصف تارك الصلاة بالشرك، والشرك لا يكون -إذا قارن الكفر- إلا الكفر المغلظ، وكلامه هذا صحيح، لكنه فيه نوع من الالتباس، فلا يظهر أنه يستدل للسلف أو يستدل ضدهم، وكأنه بذلك يشير إلى أن هذا دليل من أدلة المرجئة الذين يقولون: إن ترك الأعمال لا يخرج من الإيمان إلا الصلاة، والصلاة جاء دليل إخراج تاركها من الإيمان بدليل مستقل، لا لأنها من الإيمان.
نقول: هذا صحيح من وجه وليس بصحيح من وجه آخر، فصحيح أن الصلاة استثنيت من أركان الإسلام بأن تاركها يخرج من الملة عند بعض أهل العلم، أو يكفر كفراً مغلظاً أو نحو ذلك مما قيل، وأن فيها نصوصاً مستقلة، لكن هذا لا يعني أن غيرها من الأعمال لا يدخل في مسمى الإيمان؛ لأننا نقول: الإيمان يزيد وينقص، ولا نقول بأن الذي يختل إيمانه يخرج من الإيمان بالكلية، فمن هنا لا مكان للاعتراض على أهل السنة بهذا المثال، لكن استثناء الصلاة وارد.
فكثير من الأعمال تركها لا يخرج من الملة، إلا الصلاة، لكن لو أن إنساناً ترك أركان الإسلام جميعاً وأعرض عن الدين بالكلية فإنه يكفر وإن كان مصدقاً، وسيأتي أيضاً إشارة إلى هذا في مقام آخر، المهم أنه هنا اعترض اعتراضاً بالقول بأن تارك الصلاة يكفر ويخرج من الإيمان، فعلى هذا فإن الأعمال داخله في الإيمان، ثم كأنه استدرك على هذا الاعتراض بقوله: إن الصلاة جاء النص فيها مستقلاً، ونحن نقول: كما جاء النص بأن تارك الصلاة يكفر كذلك جاءت النصوص بأن الذي يخل بالأعمال ينقص إيمانه، والذي يفي بالأعمال يزيد إيمانه، وهذا له نصوص مستقلة، فيبقى الاعتراض غير وارد على أهل السنة والجماعة، إنما يرد على المرجئة فيما بينهم، وعلى المرجئة وخصومهم الآخرين من المعتزلة والخوارج الذين يخرجون أهل الكبائر من الإيمان بالكلية.
هذا أيضاً من الكلام المجمل الملتبس، فكلامه هذا فيه إجمال وفيه نظر من ناحية أخرى، فقوله: التصديق بالقلب والإقرار باللسان هو معنى أن الإيمان قول وعمل ليس بصحيح.
فالقول بأن التصديق بالقلب والإقرار باللسان يخالف ويناقض قول السلف بأن الإيمان قول وعمل؛ لأن السلف فسروا قولهم، وتفسيرهم لهذه الكلمة متواتر، وهو أنهم يقصدون بـ(قول وعمل) قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح.
إذاً: فكلمة (قول وعمل) ليست مرادفة للإقرار بالقلب والقول باللسان، بل تزيد عليها قطعاً؛ لأن السلف اتفقوا على أن المقصود بقولهم: (قول وعمل) جميع الأمور الثلاثة: التصديق والإقرار باللسان والعمل بالأركان، لذلك لما خاضوا مع المرجئة في هذه المسألة فصلوا، فلما اضطر السلف للتفصيل فصلوا، وقالوا: الإيمان هو تصديق الجنان وقول اللسان وعمل الأركان، وهو تفسير لكلمة (قول وعمل).
وقوله: [لا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل] هذا صحيح، لكن تفسيره بأن القول التصديق بالقلب والإقرار باللسان فقط، فيه نوع من الالتباس؛ لأنه قال: [وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم: قول وعمل]، فليته شرح معنى (وعمل) وجعلها في أصل الشرح السابق، من أجل أن يزول اللبس، ومع ذلك يبقى لسلامة العبارات محمل لو لم يكن هناك نوع من التكلف في عرض قول المرجئة في هذا المقطع كله، فلو لم يكن هناك التباس في الكلام في أوله وآخره لقلنا: إن هذا الكلام يمكن أن يحمل على أحسن المحامل، فيبقى سليماً في الجملة، لكن إذا نظرنا إلى مجمل القول قبل صفحات وفي الصفحات التالية؛ وجدنا أن هذا القول ملبس ولا بد من بيانه وشرح معنى جملة (قول وعمل)، فهي ليست مرادفة للتصديق والإقرار فقط، وإن كان القول فعلاً يرادف التصديق والإقرار، لكن العمل أمر لا بد من الإشارة إليه هنا، وأنه يعني الأمور الثلاثة، والله أعلم.
قال رحمه الله تعالى: [ لكن هذا المطلوب من العباد هل يشمله اسم الإيمان أم الإيمان أحدهما، وهو القول وحده، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر، وإن أطلق عليهما كان مجازاً؟ هذا محل النزاع.
وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه أنه عاص لله ورسوله ].
يقصد أن أهل السنة والمرجئة أجمعوا، فكأنه يريد أن يجمع بينهم هنا ليوفق بين المذهبين.
قال رحمه الله تعالى: [ وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه أنه عاص لله ورسوله مستحق للوعيد، لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال: لما كان الإيمان شيئاً واحداً فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما! بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبرائيل وميكائيل عليهم السلام! وهذا غلو منه؛ فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه، فمنهم الأخفش والأعشى، ومنهم من يرى الخط الثخين دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها ].
ويعني هنا طائفة من المرجئة.
وقوله: (قد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه أنه عاص لله ورسوله مستحق للوعيد) هذا فعلاً قول لأهل السنة والمرجئة جميعاً.
لكن قوله: (لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال..) يقصد أن هناك طائفة من المرجئة توافق أهل السنة في ظاهر القول، لكن عند التفصيل يخالفون، فهذا قول بعض المرجئة، كما أنه رد من معتدلة المرجئة -وهم مرجئة الفقهاء- على الجهمية، فعبارة: (لما كان الإيمان شيئاً واحداً فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق) هي قول طائفة من المرجئة، وليس كلهم، وتوافق قول بعض الجهمية.
فهذه العبارة آخرها صحيح وأولها فيه نظر، أعني أن القول بأن الأعمال أجزاء للإيمان هذا فعلاً قول المعتزلة وقول الخوارج، لكنه يوافق بعض أقوال أهل السنة والجماعة، وقلت لكم: أهل السنة والجماعة يرون أن الأعمال داخلة في الإيمان، وأنه يمكن أن يعبر بعضهم بأنها أجزاء الإيمان، لكن ليست أجزاء بمثابة الأركان عند أهل السنة، بل أجزاء بمثابة المتممات والمكملات، فالإيمان يزيد وينقص لأنها منه، فظاهر أول العبارة يوافق قول أهل السنة والجماعة بأن الأعمال أجزاء الإيمان، وإن كانوا لا يعبرون بهذا التعبير، لكن هذا هو مفهوم قول أهل السنة والجماعة، ثم عند التطبيق يفارق الخوارج والمعتزلة أهل السنة، فالخوارج والمعتزلة حينما وافقوا أهل السنة على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان -وهو ما عبر عنه هنا بأجزاء الإيمان- خالفوهم في مسألة حكم الذي يخالف في الأعمال، وهو مرتكب الكبيرة، فإن الخوارج والمعتزلة يرون أن مرتكب الكبيرة إذا أخل بجزء الإيمان اختل إيمانه كله، بينما أهل السنة يقولون: إذا أخل بجزء الإيمان -وهو العمل- ينقص إيمانه بقدر الخلل العملي.
ثم جاء بكلام ينبغي التنبيه عليه، وهو أنه أشار إلى قول المرجئة، فقال: [والثالث مذهب المرجئة، فقالوا: لا حاجة إلى العمل، ومدار النجاة هو التصديق فقط]، وهذا كلام مجمل، وكان الصواب أن يقول: مذهب الجهمية، أو يقول: غلاة المرجئة، أو: مرجئة الجهمية، ولا يقول: مذهب المرجئة، فالمرجئة لا يقولون: لا حاجة إلى العمل، إنما يقولون: العمل لا يدخل في مسمى الإيمان، فهو إنما حكى هنا قول الجهمية وسماه مذهب المرجئة، وفي هذا نوع من الإيهام.
ثم قال: [فصار الأولون والمرجئة على طرفي نقيض، والرابع أهل السنة وهم بين بين, فقالوا: إن الأعمال أيضاً لا بد منها، لكن تاركها مفسق لا مكفر، فلم يشددوا فيها كالخوارج والمعتزلة، ولم يهونوا أمرها كالمرجئة].
هذا الكلام في الحقيقة فيه إجمال وإيهام، صحيح أن أهل السنة بين المرجئة الغلاة وبين الخوارج والمعتزلة، لكن قوله بأنهم قالوا: إن الأعمال لا بد منها كأنه يحكي مذهب أبي حنيفة ، بمعنى أنها شرط زائد عن مجرد الإيمان، وأنها من لوازم الإيمان، بينما أهل السنة يقولون: لا بد منها بمعنى أنها من الإيمان أو تدخل فيه، ثم قوله: [لكن تاركها مفسق لا مكفر] هذا فيه تفصيل وليس على إطلاقه، فبعض الأعمال تاركها يكفر بحسب ما ورد في النصوص، وبعضها يفسق، وأيضاً يقال بأن إيمانه ناقص، ويقال: نقص إيمانه.
وقوله: [ولم يهونوا أمرها كالمرجئة] أيضاً فيه نظر؛ لأن مرجئة الفقهاء هونوا أمرها في آخر الأمر، ثم قال: [افترقوا إلى فرقتين، فأكثر المحدثين أن الإيمان مركب من الأعمال، وإمامنا أبو حنيفة وأكثر الفقهاء والمتكلمين إلى أن الأعمال غير داخلة في الإيمان] هو هنا خلط بين الناس قال: [مع اتفاقهم على أن فاقد التصديق كافر].
نعم، فاقد التصديق بالكلية كافر.
أيضاً وكلمة (أكثر الفقهاء) فيها نظر.
وقوله: [فلم يبق الخلاف إلا في التعبير] هذا أيضاً فيه نظر، فليس صحيحاً أن الخلاف في التعبير، الخلاف عقدي، وهو اعتقاد أن العمل يدخل في مسمى الإيمان، وهذا هو الحق، وأن الإيمان يزيد وينقص، وهذا هو الحق، وأنه يجوز الاستثناء في الإيمان؛ لأنه عمل البشر، وعمل البشر يجوز استثناؤه، ولأن الإنسان لا يدري ما مصيره وما مصير عمله عند الله عز وجل، فالاستثناء جائز، وهو لا يعني عدم الثقة بالعمل، إنما يعني أن يكل الأمر إلى الله عز وجل، ولا يزكي نفسه.
هذا مما يمكن أن نسميه نوعاً من الخلط؛ لأن ابن أبي العز رحمه الله يظهر لي أنه يوافق أهل السنة والجماعة إجمالاً، لكنه أيضاً عنده نوع مما نسميه القرب أو اعتقاد معقولية بعض أقوال المرجئة، وأنها معقولة، ويمكن أن تفسر بتفسيرات تتوافق مع مذهب السلف؛ نظراً لأن النزاع لفظي.
فهنا بدأ يستدل لأهل السنة والجماعة باستدلالات لا بأس بها، وإن كانت موهمة، لكنه إيهام فيه غموض لا أحب أن أشير إليه؛ لأننا نحمل كلام ابن أبي العز على أحسن المحامل، لاسيما أنه في آخر المبحث هنا قرر الانتصار لأقوال أهل السنة والجماعة في الأمور التي ذكرها، فإذا كان انتصر لها فلا شك أن اضطرابه في الأمور السابقة وفي بعض المسائل الآتية ناتج عن أنه يرى أن أقوال المرجئة لها وجه، وأنها يمكن أن تكون أقوالاً اجتهادية، وإن كان يرجح غيرها، فهنا بدأ يستدل لمذهب السلف بأن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ولهذا -والله أعلم- قال الشيخ رحمه الله: (وأهله في أصله سواء)، يشير إلى أن التساوي إنما هو في أصله، ولا يلزم منه التساوي من كل وجه، بل تفاوت درجات نور لا إله إلا الله في قلوب أهلها لا يحصيه إلا الله تعالى ].
قوله: (وأهله في أصله سواء) يحتمل أمرين عند الطحاوي رحمه الله: يحتمل أن يقصد بالأصل مبدأ الإيمان، وهو مجرد التصديق ابتداء، ويحتمل أن يقصد بأصله الإيمان التصديقي الذي هو كل الإيمان عند المرجئة، فمن هنا تبقى العبارة محتملة، لكن الشارح ابن أبي العز فسرها بما هو أقرب إلى أقوال السلف، ومع ذلك في عباراته نوع من الإيهام، فقول الطحاوي : (وأهله في أصله سواء) إن قصد أن أهل الإيمان في مبدأ التصديق سواء، أي: في وجود الإيمان في قلوبهم، ثم يتفاوت هذا الإيمان في المعاني والأعمال؛ فهذا صحيح، وإن كان قصده الوقوف عند القول بأن الإيمان في قلوب الناس سواء، بمعنى أنه لا يرى أنه يتفاوت في الأعمال والأحوال؛ فهذا خطأ.
وابن أبي العز كأنه أراد أن يجمع بين الأمرين، فقال: [لا يلزم منه التساوي من كل وجه، بل تفاوت درجات نور لا إله إلا الله ...] فهذا فيه أيضاً نوع تقريب بالكلام إلى مذهب السلف.
قال رحمه الله تعالى: [ فمن الناس من نورها في قلبه كالشمس، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري، وآخر كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف، ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور الإيمان والتوحيد علماً وعملاً، وكلما اشتد نور هذه الكلمة وعظم أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته، بحيث إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف شهوة ولا شبهة ولا ذنباً إلا أحرقه، وهذه حال الصادق في توحيده، فسماء إيمانه قد حرست بالرجوم من كل سارق، ومن عرف هذا عرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله تعالى)، وقوله: (لا يدخل النار من قال: لا إله إلا الله)، وما جاء من هذا النوع من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم منسوخة، وظنها بعضهم قبل ورود الأوامر والنواهي، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود، ونحو ذلك ].
ينبغي أن يفهم أن هذه النصوص ما أشكلت فعلاً إلا على المرجئة، فالخوارج بالغوا في الأخذ بها، فما أشكلت عليهم، فهم يعتبروها هي المحكمة، ويعتبرون نصوص الوعد هي المتشابهة، لكن المرجئة هم الذين أشكلت عليهم نصوص الوعيد، أما بقية أهل العلم فما أشكلت عليهم، هذا أمر.
حيث شرح قول الطحاوي : (والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى)، فهذه كلها معان قلبية فيها إشارة إلى أن الأعمال لا علاقة لها بالزيادة والنقصان، أو لا علاقة لها بالإيمان.
وكذلك قول ابن أبي العز هنا وشرحه للكلمة، كأنه يشير إلى أن الزيادة والنقصان وعدم التساوي بين العباد في الإيمان إنما هو في الجوانب التصديقية وأحوال القلوب، إلا أنه بعد ذلك فصل بين الأمرين ورجع رجعة أخرى إلى تقرير زيادة الإيمان بالأعمال، وهذا المسلك قد يستغله المرجئة في تفسير كلام الشيخ، لأنه في صالح المرجئة، لكن إذا أخذنا الكلام بمجمله، فأخذنا هذا المقطع مع ما سيأتي من تقرير أن الأعمال يزيد بها الإيمان وينقص؛ فإنا نعتبر ابن أبي العز قد عدل عن هذا المسلك ورجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة، لكنه بأسلوب مضطرب، كأنه أراد أن يجر المرجئة والأحناف إلى مذهب أهل السنة والجماعة بأسلوب يصلح لهم.
هنا يرد على الكرامية.
قال رحمه الله تعالى: [ فإن هذا من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام؛ فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين في الدرك الأسفل من النار، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب ].
هذا الكلام فيه إجمال، فقوله: [فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب] الصحيح أن الأمرين يجتمعان، الأعمال تتفاضل بالعدد وبتفاضل القلوب.
فالإنسان الذي يعمل عملاً صالحاً لا شك أن ثوابه على هذا العمل بقدر ما في قلبه من الإخلاص واليقين وبقدر كثرة العمل، فالإنسان إذا كان يكثر من النوافل عن يقين وتصديق بالله وخشوع، فإنه يؤجر ويعظم ثوابه على الأمرين: على ما في قلبه من التصديق والخشوع وعلى كثرة العمل، وهنا حصر الأجر والثواب والتفاضل على ما في القلب فقط، وهذا جارى فيه المرجئة، فكلامه صحيح من وجه، لكنه يحتاج إلى إكمال، فيحسن أن تكون العبارة: وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب وبعددها وبنوعها أيضاً.
قال رحمه الله تعالى: [ وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة، وتطيش السجلات، فلا يعذب صاحبها، ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار.
وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته -وهو في تلك الحال- أن جعل ينوء بصدره وهو يعالج سكرات الموت! ].
هذه قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين ثم جاء إلى عابد وسأله: هل له من توبة؟ فقال: ليس لك توبة، فلما يئس من التوبة قتله وأتم به المائة، ثم ذهب إلى عالم فقيه في دين الله فسأله: هل له من توبة؟ فقال له: نعم، ومن يحول بينك وبين الله عز وجل؟! فنصحه بأن يذهب إلى مجتمع صالح وإلى أهل بلد صالحين، لعله بينهم تصلح أعماله فيقبل الله توبته، وفعلاً اتجه إلى هذه البلاد من أجل أن يعيش بينهم وهو صادق التوبة، فمات في الطريق بين القريتين، فجاءته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فتنازعوا فيه، كل منهم يقول بأنه تبع له، ثم قيست المسافة بين البلدين فوجدوا أنه إلى بلد أهل الخير والاستقامة أقرب، فدخل في رحمة الله عز وجل.
والشارح يقصد بهذا أنه استحق الجنة قبل أن يعمل، لكن الصحيح أن هذا الدليل ليس دليلاً للمرجئة، إنما هو دليل لأهل السنة، وإن كان فعلاً دليلاً للجميع -للمرجئة وأهل السنة- على من قال بأن الإيمان قول اللسان فقط، فهو أيضاً دليل لأهل السنة؛ لأن ما استحق به الثواب عمل واعتقاد، فهذا الرجل الذي استحق الثواب من الله عز وجل واستحق الجنة والتوبة أنشأ العمل، بمعنى أنه سار برجليه متجهاً إلى بلد صالح وإلى أناس صالحين ليحقق ما أمره الله عز وجل به، فهو عمل، وليس المقصود ما وقر في قلبه فقط.
قال رحمه الله تعالى: [ وتأمل ما قام بقلب البغي من الإيمان، حيث نزعت موقها وسقت الكلب من الركية؛ فغفر لها ].
هذا دليل لأهل السنة على أن الأعمال من الإيمان.
قال رحمه الله تعالى: [ وهكذا العقل أيضاً، فإنه يقبل التفاضل، وأهله في أصله سواء، مستوون في أنهم عقلاء غير مجانين، وبعضهم أعقل من بعض.
وكذلك الإيجاب والتحريم، فيكون إيجاب دون إيجاب، وتحريم دون تحريم، هذا هو الصحيح، وإن كان بعضهم قد طرد ذلك في العقل والوجوب ].
الجواب: سبب هذا الخلاف في الإيمان، نزعة علم الكلام التي وجدت في ذلك الوقت، أي: الكلام في القدر، وكلام الخوارج في مرتكب الكبيرة، وكلام أوائل المعتزلة، فكلام القدرية والخوارج هو الذي سبب قول المرجئة، فهو ردة فعل؛ لأن الخوارج بالغوا في مسألة الجزاء على الأعمال حتى إنهم كانوا يرون أن الكبيرة تزيل الإيمان بالكلية، وتخرج المسلم من الإيمان بالكلية، فهذا أوجد جواً من المناقشات والمناظرات والتمحل العقلي والرد بالعقليات والرد بالفلسفة والمراء والجدل، الأمر الذي مهد لظهور الإرجاء فيما بعد.
الجواب: هز الرأس عند تلاوة القرآن لا أصل له، وإذا كان الإنسان يتعبد به فهو بدعة، وإذا ما تعبد به فهو خطأ يجب أن لا يرتكبه.
الجواب: هذا أصل شرعي، وهو أن نلتمس للعلماء الأجلاء وأهل الفضل والصلاح والاستقامة المعروفين بالسنة العذر إذا خالفوا، ما لم يرتكبوا أمراً مخلاً بالعقيدة أو يصروا على بدعة، فإنهم نلتمس لهم الأعذار في مثل ما ورد، كمسألة الكلام في المرجئة، والتماس الأعذار لا يعني الإقرار على ما فعلوا ولا أن ما قالوه حق، وفرق بين التماس العذر للشخص كـأبي حنيفة وغيره وبين الإقرار بما قاله، فنحن نلتمس لهم العذر ولا نتبعهم فيه.
أما ما يحصل من بعض الناس فليس بحجة، فالناس تحدث منهم تجاوزات وبغي من بعضهم على بعض في كل زمان، وعلى أي حال فما يحدث بين أهل السنة وأهل الحق من تجاوز هذا الأصل هو إما من الجهل وإما تشف وإما حسد، وإما غير ذلك من الأمور التي تعتري البشر، والبشر فيهم الضعف والخلل والتقصير، ومع ذلك يجب على المسلمين أن يتناصحوا وأن يجمعوا الكلمة وأن يلتفوا حول علمائهم، ولو أن أمثال هؤلاء الذين لا يعذر بعضهم بعضاً من أهل الحق والصلاح رجعوا إلى علمائهم وإلى أهل الفضل والعدل فيهم لما حصل منهم ذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر