هذه من القواعد المتفق عليها عند السلف، فهي تشمل عدة قواعد، وإن شاء الله نلخصها تفصيلاً في درس لاحق، لكن نجملها الآن حسب ما يظهر؛ لأن الشيخ أدخل بعضها في بعض.
فقوله: (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا) هذا كلام على إطلاقه يشمل كل الأئمة الفجار منهم والأبرار.
أقول هذا؛ لأنه وجد من المتحذلقين الذين اغتروا بأقوال أهل الأهواء من لا يسمى إماماً من الولاة إلا من كان مستحقاً للإمامة، بمعنى أنه تقي صالح، وهذا غير صحيح، بل العكس هو الصحيح.
فولاة الأمور يجب عدم الخروج عليهم، سواءٌ كانوا صالحين أو طالحين، سواءٌ كانوا أبراراً أو فجاراً، والسلف نصوا على هذا، وإن جاروا، فولي الأمر إذا حدث منه نوع من الظلم، أو أثرة، فيجب الصبر والمناصحة، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يتخذ الجور والظلم والأثرة ذريعة للخروج.
ثم قال: (ولا ندعو عليهم)، وهذه أيضاً مهمة جداً؛ لأن بعض الناس فهم فهماً خاطئاً في هذه المسألة، فالدعاء على ولاة الأمور لا يجوز؛ لأن ولاة الأمور ولاهم الله أمر المسلمين، فالدعاء عليهم ينعكس على الأئمة نفسهم، فلذلك إذا كان عند إنسان غيرة على دين الله، وإشفاق على الأمة وعلى المجتمع فيجب عليه أن يدعو لولاة الأمور؛ لأن في صلاحهم صلاح المجتمع، لكن الدعاء عليهم يزيد البلاء؛ فيجب على كل مسلم أن يدعو لولي الأمر بأن الله يهديه ويسدده ويصلحه ويوفقه، يدعو له بالدعاء المشروع سراً وعلناً، ولا ندعو عليهم، فالدعاء عليهم بدعة.
إذاً: فهذا أصل عظيم، وقد يتعلل البعض بأن الدعاء يكون للصالحين، وهذا جهل أو هوى، فليس الدعاء للصالحين فقط، بل أيهما أحق بالدعاء بالصلاح: الصالح أو غير الصالح؟!
فالصالح تدعو له بالتسديد، لكن غير الصالح تدعو له بالصلاح، فيجب أن تفهم المسألة جيداً على أصول السلف وعلى مقتضى النصوص.
وقوله: (ولا ننزع يداً من طاعة) هذا أيضاً تأكيد لما سبق، وهو أخذ بنص الحديث الذي سيأتي.
وقوله: (ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة) لأن الله أمر بذلك، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك أمراً صريحاً لا لبس فيه.
وقوله: (ما لم يأمروا بمعصية) أي: أنهم إذا أمروا بمعصية تعارض الشرع فلا يطاعون في هذه المعصية.
فهذه أيضاً مسألة مهمة، فبعض الناس يقول -وهذا أيضاً جهل أو هوى-: ما دام أن الوالي قد أمر بمعصية فأنا لا أطيعه مطلقاً! وهذا فهم منكوس، فلا تطعه في هذه المعصية التي أمرك بها، لكن في غيرها من الطاعات تطيعه، فلو أن والياً قال لك: لا تصل جماعة في المسجد من غير سبب ضروري، فإنه في هذه المسألة لا يطاع؛ لأنه أمر بمعصية إما عن جهل وإما عن تأول وإما عن ظلم، فالله أعلم.
وهذا افتراض مع أنه لا يحدث إن شاء الله، ولكن لو حدث فإنه في هذه المعصية لا يطيعه، لكن فيما عدا ذلك إذا أمر بأمر من الأمور الأخرى التي تتعلق بمصالح الأمة في دين الناس أو دنياهم تجب طاعته طاعة لله عز وجل.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني).
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف)، وعند البخاري : (ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة) ].
الظاهر أن هذا مخصوص، أعني: الأمر بالطاعة حتى ولو لم تتوافر فيه شروط الإمامة؛ لأنه ذكر أنه ولو كان مجدع الأطراف تجب طاعته، وهذا فيما يتعلق بإمام الغلبة، أو الوالي الذي تمكن من غير اختيار المسلمين، فهذا تجب طاعته في هذه الحال؛ لأنه فرق بين الاختيار والغلبة، ومعروف من خلال تاريخ المسلمين ومن استقراء أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أن أئمة الاختيار في التاريخ قلة، فأغلب الذين حكموا المسلمين قديماً وحديثاً ليسوا أئمة اختيار، ومع ذلك هم ولاة تجب طاعتهم في المعروف، ويجب الدعاء لهم، وتجب الصلاة خلفهم، ويجب الجهاد معهم، والدعاء لهم بالصلاح والمعافاة وغير ذلك، وإن كان عندهم ما عندهم مما لا يعجب بعض الناس أو مما لا تتوفر فيه الشروط المثالية.
ففرق بين الاختيار -كما في عهد الخلفاء الراشدين- وبين الغلبة أو الإمارة أو الوراثة، أو الملك أو السلطة أو غير ذلك مما هو أصل من أصول تولي الولاية الشرعية التي اعتبرها أهل العلم بإجماع ولاية شرعية، فأغلب ولايات المسلمين في تاريخ الإسلام هي من النوع الثاني الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر عليه مع وجوب النصح وغير ذلك مما هو معلوم، ولهذا فإن هذه الأحاديث التي أوردها الشارح كلها صحيحة ثابتة، ليس فيها ما يمكن أن يطعن فيه من حيث السند، ولذلك تلقاها السلف بالقبول وجعلوها من مناهج الدين؛ إذ إنها وصية من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذه الوصية تعني أن هذه الأمور ستكون، وأنه قد يتولى على المسلمين عبد حبشي.
هذا فيه إشارة مهمة جداً، وهي مسألة: (فيما أحب وكره)، فكثير من الناس الذين لا يفقهون هذه الأصول يرون أن الأمر الذي تكرهه لا تمتثل فيه أمر السلطان أو الوالي، وهذا ما هو بصحيح، فقد أمرنا بالسمع والطاعة في المنشط والمكره، فليس المقصود أن المرء لا يطيع إلا فيما يحب ويوافق هواه، وإذا أمر بأمر اجتهادي يخالف رأيه، ويخالف قناعته، ويخالف ما يقول به كثير من الناس في عبارات معاصرة؛ يقول: ليس عندي استعداد لقبول ذلك، وليس المقصود بالولاية مجرد أن يأمر الوالي الأكبر فقط والسلطان الأكبر بل من دونه ممن له ولاية حتى ولو كان أدنى موظف، فله ولاية، يجب أن يطاع في المعروف فيما تحب وفيما تكره، وإلا فسدت أحوال الناس، ولن تستقيم أمور الأمة، وتحدث فيهم دعوات الشقاقات، وفساد ذات البين والفتن.
في هذا الحديث افترض حذيفة رضي الله عنه أسوأ الحالات تدريجياً، ومع ذلك ما أمر بالمنازعة، ولا بأن يثير فتنة، ولا بأن يحمل رأياً، وهذا الحديث فيه حكم عظيمة من أحوج ما يحتاجه المسلمون اليوم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم ما فتح له الفرصة ليكون له موقف، أو أن يتخذ موقفاً من السلطان أو من الناس، أو من المخالفين ما دام الأمر عنده لم يستبن، فما قال: ارفع راية، أو: قم بالواجب، كما يدعي بعض الناس ولو كان من غير أهله، فـحذيفة إمام جليل وفقيه في الدين، ومع ذلك أمره النبي صلى الله عليه وسلم -والأمر للأمة- بأن إذا كان الأمر على هذه الحال فيجب أن يكف ولو أن يعض على أصل شجرة.
وهذا مقيد بالنصوص الأخرى، لكنه يحكم غالب المسلمين الذين ليس لهم حل ولا عقد، وليسوا من أهل العلم الراسخين، وإلا فقد يستثنى من هذا الحديث ما جاء في أحاديث أخرى يمكن نجمع بينها فيما بعد إن شاء الله.
هذا أيضاً فيه وصية عظيمة، وهو أنه يجب الصبر حتى مع رؤية ما يكره من الأمير، مع عدم الطاعة في المعصية، فإذا كان ما تكره معصية لله عز وجل فلا تطعه فيها.
فهذه قاعدة عامة تدخل أيضاً في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر فيه بالطاعة فيما أحب وكره، أي: يجب أن تصبر على ما تكرهه من أميرك؛ لأن في عدم الصبر مفسدة عظمى ترجع على الأمة، وربما عليك أيضاً وعلى غيرك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر