إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [90]للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

  •  التفريغ النصي الكامل
  • وردت استثناءات في القرآن الكريم تفيد عدم أبدية النار، وقد اختلفت كلمات السلف في فهمها وتعددت الآراء حول هذه المسألة، وإن كانت الأدلة التي استدلوا بها لا تقوى أمام الأدلة الكثيرة التي تفيد عدم فناء النار، فضلاً عن أن هذا هو قول جمهور أهل السنة، وقد حكى ابن القيم رحمه الله المسألة بالأدلة والتفصيل في كتابه (حادي الأرواح) وكتب فيها ابن تيمية رحمه الله رسالة مستوفاة.
    قال رحمه الله تعالى: [ فأما أبدية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد، فهذا مما يعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر به، قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108] أي: غير مقطوع، ولا ينافي ذلك قوله: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:108].

    واختلف السلف في هذا الاستثناء:

    فقيل: معناه إلا مدة مكثهم في النار، وهذا يكون لمن دخل منهم إلى النار، ثم أخرج منها، لا لكلهم.

    وقيل: إلا مدة مقامهم في الموقف.

    وقيل: إلا مدة مقامهم في القبور والموقف.

    وقيل: هو استثناء استثناه الرب ولا يفعله، كما تقول: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وأنت لا تراه، بل تجزم بضربه.

    وقيل: (إلا) بمعنى (الواو)، وهذا على قول بعض النحاة، وهو ضعيف. وسيبويه يجعل (إلا) بمعنى (لكن) فيكون الاستثناء منقطعاً، ورجحه ابن جرير ، وقال: إن الله تعالى لا خلف لوعده، وقد وصل الاستثناء بقوله: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108] قالوا: ونظيره أن تقول: أسكنتك داري حولاً إلا ما شئت. أي: سوى ما شئت، أو لكن ما شئت من الزيادة عليه.

    وقيل: الاستثناء لإعلامهم بأنهم مع خلودهم في مشيئة الله، لا أنهم يخرجون عن مشيئته، ولا ينافي ذلك عزيمته وجزمه لهم بالخلود، كما في قوله تعالى: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا [الإسراء:86] .

    وقوله تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى:24] .

    وقوله: قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ [يونس:16] ونظائره كثيرة، يخبر عباده سبحانه أن الأمور كلها بمشيئته، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

    وقيل: إن: (ما) بمعنى (من) أي: إلا من شاء الله دخوله النار بذنوبه من السعداء.

    وقيل: غير ذلك، وعلى كل تقدير فهذا الاستثناء من المتشابه.

    وقوله: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108] محكم ].

    لا ندري ما المقصود بالاستثناء على سبيل الجزم، لكن حينما أورد ما بعد الاستثناء وهو قوله عز وجل: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108] تبين أن الحكم هذا هو المقصود وهو يتضمن الأبدية، وأن الاستثناء راجع لأحد الأمور السابقة ما نستطيع أن نجزم بشيء من ذلك، ومع ذلك فإنه يدل على أن الله عز وجل فعال لما يريد، لا معقب لحكمه، لكنه حكم وأخبرنا بحكمه بأن هذا العطاء للمؤمنين غير مجذوذ، يعني: لا ينقطع أبداً. فهذا هو الحكم النهائي؛ لأنه جاء بعد الاستثناء.

    قال رحمه الله تعالى: [ وكذلك قوله تعالى: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [ص:54].

    وقوله: أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا [الرعد:35].

    وقوله: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:48].

    وقد أكد الله خلود أهل الجنة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن، وأخبر أنهم: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى [الدخان:56] وهذا الاستثناء منقطع، وإذا ضممته إلى الاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:108] تبين لك المراد من الآيتين، واستثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود، كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت، فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية وذاك مفارقة للجنة تقدمت على خلودهم فيها.

    والأدلة من السنة على أبدية الجنة ودوامها كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت).

    وقوله: (ينادي مناد: يا أهل الجنة! إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وأن تحيوا فلا تموتوا أبداً).

    وتقدم ذكر ذبح الموت بين الجنة والنار، ويقال: (يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت) ].

    الكلام في أبدية النار وفي دوامها وأقوال الناس فيها، والكلام أيضاً في انقطاع عذاب أهلها، وهل ينقطع العذاب وتبقى النار، أو تبقى النار ويبقى العذاب لمن حكم الله عليهم بالخلود؟ وهل هذا الخلود الأبدي يعني أن لا نهاية، أو أن الآباد لها حدود؟ هذه مسألة عويصة، وتعتبر من المشكلات، وكان الأولى ألا يخوض فيها الناس؛ لأن الأصل ما عليه جمهور السلف من القول بأبدية الجنة والنار، وأن نعيم الجنة لا ينقطع، وأن عذاب النار لا ينقطع أيضاً، وأن هناك طائفة من عباد الله عز وجل ينعمون إلى ما لا نهاية، وطائفة من عباد الله عز وجل يعذبون إلى ما لا نهاية، هذا هو الأصل، لكن وردت إشكالات نسبت إلى بعض الصحابة وإلى بعض التابعين في مسألة النار فقط، أما مسألة الجنة فلم ترد إشكالات عند من يعتد بقوله، بخلاف الفرق التي لا يعتد بقولها من الجهمية والفلاسفة والباطنية.. وغيرهم، إنما الكلام على من ينتسبون للسنة، فقد ورد عن بعضهم ما يشكل فيما يتعلق بعذاب النار أو بفنائها، أو بانقطاع عذابها، أو بخروج أهلها كلهم منها، فهذه مسائل كما قلت أشكلت، ووجدت أقوال لبعض أهل العلم قد تفهم خطأ، ونسبت لشيخ الإسلام ابن تيمية ولتلميذه ابن القيم أقوال لم يقولا بها، إنما ساقا أقوالاً لغيرهما في هذه المسألة، فظن بعض الناس أنهما يقولان بها. والله أعلم.

    وقبل أن نقرأ أحب أن أشير إلى أن مسألة الحديث عن أبدية النار لها جانبان:

    الجانب الأول: يتعلق بالنار نفسها هل تفنى وتزول بالكلية، أو أنها تبقى ويفنى عذابها؟

    الجانب الثاني: هل تبقى ويبقى عذابها، لكن يخرج منها أهلها؟ هذه المسألة في الحقيقة فيها خلاف كبير، وأغلب الناس خلط بين مسألة أبدية النار، وبين مسألة أبدية العذاب وهما مسألتان منفصلتان كما سيأتي بيانه فيما بعد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089156759

    عدد مرات الحفظ

    782255681