إسلام ويب

ففيهما فجاهدللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله عز وجل بر الوالدين والإحسان إليهما في أكثر من آية من كتابه الكريم، حتى قرن برهما بتوحيده سبحانه، وقد تكلم الشيخ -حفظه الله- عن كيفية بر الوالدين في الحياة وكيفية الإحسان إليهما، وكذلك تكلم عن كيفية برهما بعد مماتهما، ذاكراً آثار بر الوالدين وعلاج ما قد يكون عائقاً للمرء عن برهما.
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة على المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً [الأحزاب:70] يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:71].

    أما بعــد:

    فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    إخواني في الله: إن للوالدين حقاً عظيماً وفضلاً -بعد فضل الله- جليلاً كريماً، وصى الله به عز وجل الملأ وتنـزل به الروح الأمين من فوق أطباق السماوات السبع العلى.

    اثنان إذا ذكرتهما ذكرت البر والمعروف والإحسان، اثنان إذا ذكرتهما تحركت في القلوب الأشجان والأحزان.. اثنان إذا ذكرتهما أسعفتك بالدموع العينان، مضت أيامهما وانقضى شبابهما وبدا مشيبهما، وقفا على عتبة الدنيا وهما ينتظران منك قلباً رقيقاً، ينتظران منك براً رفيقاً، وقفا ينتظران والجنة وراءهما والجنة تحت أقدامها، فطوبى لمن أحسن إليهما ولم يسء إليهما، طوبى لمن برهما ولم يعقهما، طوبى لمن أضحكهما ولم يبكهما، طوبى لمن سرهما ولم يحزنهما، طوبى لمن أسعدهما ولم يشقهما، طوبى لمن أكرمهما ولم يهنهما، طوبى لمن أعزهما ولم يذلهما، طوبى لمن نظر إليهما نظرة الحنان، وتذكر ما كان منهما من البر والعطف والإحسان، طوبى لمن شمر عن ساعد الجد في رضاهما فما خرجا من الدنيا إلا وقد كتب الله له رضاهما، طوبى لمن سهر ليله وأتعب نهاره وأضنى جسده في حبهما وابتغاء رضاهما.

    أيها الأحبة في الله: في هذا الزمان الذي عظمت غربته، وفي هذا الزمان الذي اشتدت كربته، فلم يرحم الأبناء دموع الآباء، ولم ترحم البنات رقة الأمهات، في هذا الزمان الذي تولى فيه البرور، وانقطعت فيه المودة إلى أعقاب الهوى والشرور، في هذا الزمان الذي عظمت غربته واشتدت كربته يحتاج المؤمن إلى من يذكره بحقيهما، يحتاج المؤمن إلى من يدله على عظيم فضلهما، لذلك تنـزلت من الله عز وجل الآيات، تحث المؤمن على البر بالآباء والأمهات، وصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ووصى أمته من بعدهم أن يبروا ولا يعقوا، وأن يحسنوا ولا يسيئوا، وأن يكرموا ولا يهينوا.

    ثلاث كلمات مشتملات على وقفات:

    الوقفة الأولى: مع البر في الحياة.

    والوقفة الثانية: مع البر بعد الوفاة.

    والوقفة الثالثة: مع الثمرات وما يجنيه أهل البر من الخيرات.

    فاللهم إنا نسألك قولاً سديداً وعملاً صالحاً رشيداً.

    أيها الأحبة في الله:

    الوقفة الأولى: مع من متع الله عينيه وسر خاطره وناظريه برؤية أبويه، مع من أكرمه الله بحياتهما فكم من قلوب تمنت بقاء الوالدين والله تفضل عليك بوجودهما.

    فيا من متع الله ناظريك! ويا من أسعد الله عينيك! وصية بالوالدين وصاك الله عز وجل في كتابه المبين وعلى لسان رسوله الأمين بالوالدين إحساناً، قال الله في كتابه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23]، وقال جل ذكره: وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً [العنكبوت:8]، وقال تقدست أسماؤه: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً [الأحقاف:15] وصية من الله جل وعلا إليك أن تحسن إلى الوالدين.

    كيفية الإحسان إلى الوالدين

    وكيف يحسن الإنسان إلى أبويه؟

    يحسن الإنسان إلى أبويه بخصلتين كريمتين يقول العلماء: من حفظ الله له هاتين الخصلتين فبر بهما فقد أحسن إلى والديه، الخصلة الأولى: في اللسان.

    والخصلة الثانية: في الجوارح والأركان.

    أما اللسان: فمن حق الوالدين على الإنسان أن يصونه، فلا يؤذيهما بالكلام الذي يكسر خاطرهما، يحافظ على لين الكلام، ويحافظ على كريم المنطق مع الوالدين، وقد جمع الله عز وجل في اللسان لمن أراد بر والديه صفتين:

    الصفة الأولى: القول الكريم.

    الصفة الثانية: العفة عن القول الذي لا يليق.

    فمن وفقه الله للقول الكريم وصان لسانه عن أن يؤذي والديه؛ فقد بلغ الإحسان إلى والديه بلسانه، فما عليه إلا أن يتقي الله فيما بقي من جوارحه وأركانه.

    أما القول الكريم: قال بعض العلماء: إن الله عز وجل أمر به ومنه أن يشعر أباه بالأبوة وأمه بالأمومة، فلا ينادي أباه باسمه بل يناديه فيقول: يا أبتاه! أو ينادي أمه فيقول: يا أماه! ولقد أخبر الله عز وجل عن هذا الأدب الكريم حينما قال عن نبيه إبراهيم وهو يخاطب أباه على الشرك والكفر: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مريم:42] لم يناده باسمه وإنما قال: يا أبت، قال بعض العلماء: إن الابن إذا دعا أباه بالأبوة أشعره بعلو المرتبة عليه.

    ومن دلائل الإكرام والإجلال باللسان: ألا يتكلم الابن في مجلس فيه أبوه إلا في حالتين:

    الحالة الأولى: أن يتكلم عن علم.

    الحالة الثانية: أن يتكلم عن حاجة.

    ولذلك كانوا يعدون من سوء الأدب مع الوالدين كلام الابن بحضرة أبيه وأمه دون حاجة، وكان الإمام محمد بن سيرين إمام من أئمة التابعين إذا حضرت أمه خشع وأصابه السكون، فيسأل الغريب: ما باله؟ فيقولون: هكذا يكون إذا حضرت أمه، من سوء الأدب إذا حضر الوالد أن يهذي الابن فيما لا حاجة فيه.

    أما الخصلة الثانية في اللسان: أن يقول القول الكريم كما قال الله تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:23-24] القول الكريم وكف الأذى باللسان فلا يقل لهما أف.

    قال بعض السلف: لو كانت هناك كلمة أقل من أف لنهى الله عز وجل عنها، فيكف الإنسان لسانه في هاتين الحالتين، فيقول الكلام الطيب الذي يدخل السرور على والديه ويغض عن الكلام الذي يجرح الوالدين، فكم من كلمة تكلم بها الابن جرحت أباه إلى الممات في قلبه، وكم من كلمة تكلمت بها البنت جرحت أمها إلى الممات في قلبها.

    الكلمة إذا خرجت لا تعود وإذا رمى الإنسان بالكلمة المؤلمة لأبيه وأمه فإن أذاها وشدة بلاها لا يقتصر على ما فيها، بل يضاعف على ذلك وجود الحنان والشفقة في قلب الوالد والوالدة، لذلك وصى الله من أراد البر أن يقول القول الكريم.

    أما الخصلة الثانية التي ينبغي للإنسان أن يحفظها في جوارحه وأركانه: طول الصحبة للوالدين، فقد فرض الله على الإنسان أن يصحب والديه، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يخرج عن والديه في سفر أو في غربة ما لم تكن واجبة إلا بعد استئذانهما، قال الله عز وجل في كتابه: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15].

    وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أقبلت أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى، قال عليه الصلاة والسلام: (أحي والداك أو أحدهما؟ قال: نعم. بل كلاهما، فقال عليه الصلاة والسلام: أفتبتغي الأجر والمثوبة من الله؟ قال: نعم. قال: ارجع إليهما فالزمهما وأحسن صحبتهما) الله أكبر! قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة ويبايعه على الجهاد، يريد أن يصحب النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً مجاهداً فيقول له: أحي والداك؟ ثم يقول له: أفتبتغي الأجر، ثم يقول له: الزمهما وفي رواية: (صاحبهما).

    ولذلك قال بعض العلماء: لا يجوز للإنسان أن يخرج عن والديه إلا بعد استئذانهما، ولا ينبغي للإنسان أن يعيش في بلد غير بلد والديه إلا عند الاضطرار والحاجة، إذا فارقت الوالدين فقد أسكنت قلوبهما ألم الفرقة، وأوجدت في قلبيهما ألم الغربة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما قدم عليه الرجل قال: يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد قال: (أحية أمك؟ قال: نعم. قال: الزم رجلها فإن الجنة ثم) أي: الجنة التي تطلبها والتي تريدها وتنشدها عند رجل أمك، ولذلك كان من أول ما ينبغي على المسلم الذي يريد بر الوالدين أن يصحبهما، أحق من يصاحبك هم الوالدان، وأحق من تكون معهما وتطيل الجلوس معهما فتدخل السرور عليهما برؤيتك هما الوالدان.

    ولذلك يقول بعض العلماء: من تغرب عن الوالدين في طلب عيش أو في ضرورة فليدمع، وليسأل الله جل وعلا أن يغفر ذنباً حرمه القرب من الوالدين، البعد عن الوالدين فوات لخير كثير لو لم يكن إلا دخولك على الوالدين في زيارة أو قضاء حاجة حتى سلام الإنسان على والديه من البر الذي يرحمه الله تعالى به.

    ومما يوصى به من أراد بر الوالدين ورد جميل الوالدين، أن يحفظ الجوارح وأن يكون في خدمة والديه، ولذلك قالوا: ينبغي عليه أن يطعمهما إذا جاعا، وأن يكسوهما إذا عريا، وأن يحسن صحبتهما بالمعروف إذا احتاجا، فكم من ساعات قضى بها الإنسان للوالدين الحاجات غفر الله عز وجل بها الذنوب والخطيئات، وأوجب بها الستر وفرج بها الهموم والغموم والكربات!

    كم من ابن بار بر والديه أدخل السرور عليهما فقام من عندهما وقد قضى لهما حاجتهما، فرفعت له الكف من والديه فلم تخب أكفهما فيما دعت وسألت، فخير ما يقضيه الإنسان حوائج الوالدين.

    ومن كان في حاجة والديه كان في بر ورحمة ولطف من الله جل وعلا، قضاء حوائج الوالدين مقدمة على حوائج الأبناء، ومقدمة على حوائج البنات، ومقدمة على حوائج الزوجات، وعلى حوائج الإخوان والأخوات، إذا وفق الله الإنسان فصان لسانه وصان جوارحه عن أذية الوالدين ولزمهما فأحسن صحبتهما وأدخل السرور عليهما فإن الله تبارك وتعالى قد وفقه لخير كبير وفضل جليل غير حقير.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089140941

    عدد مرات الحفظ

    782123390