الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك جامع الناس ليوم لا ريب فيه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى من اتبع منهجه واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمازلنا في سورة الأنعام، وكنا قد تحدثنا في الدرس الذي سبق عن قول الله جل وعلا: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنعام:143]، وقد بينا حينها أن من المهم أن تفهم أن الزوج هنا بمعنى الفرد الذي لا انفكاك له عن غيره، وأنه لا يتحصل من هذا ستة عشر فرداً.
ثم انتقلنا إلى قضية الضأن والمعز وقضية الإبل والبقر، وحررنا مسألة الذكر والأنثى فيها، وعلقنا على فوائد لغوية، وذكرنا إحداث عمرو بن لحي ، وقلنا: إن الثمانية عدد يتفاءل به، والدليل على ذلك أن أبواب الجنة ثمانية، ثم تطرقنا إلى قضية المعتصم الخليفة العباسي المعروف أنه ثامن خلفاء بني العباس، وأنه كان على نزاع مع شيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وأن دعبلاً الخزاعي قال فيه:
ملوك بني العباس في الكتب سبعة ولم تأتنا عن ثامن لهم الكتب
فذلك أهل الكهف في الكهف سبعة خيار إذا عدوا وثامنهم كلب
للكميت الأسدي شعر يسمى بالهاشميات، وهي قصائد قالها في بني هاشم جملة قبل أن ينقسم الناس إلى آل علي وآل العباس؛ لأنه متقدم، حيث عاش في دولة بني أمية، يقول الجاحظ الأديب المعروف، يقول: إن الكميت فتح للشيعة باب الاحتجاج بالشعر، يقول:
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب
ولكن إلى أهل الفضائل والتقى وخير بني حواء والخير يطلب
بني هاشم رهط النبي فإنهم بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب
ثم أتى إلى قضايا الجدل فقال:
يقولون لم يورث ولولا تراثه لقد طمعت فيه بكيل وأرحب
إلى أن قال في عجز بيت:
فإن ذوي القربى أحق وأقرب
وهذا هو شطر البيت الذي تمسك به الشيعة في أحقية علي رضي الله تعالى عنه بالخلافة، وصدره:
فإن هي لم تصلح لحي سواهم فإن ذوي القربى أحق وأقرب
يقول لبني أمية: أنتم تقولون: إن الإمامة في قريش، وأخذتم الحكم من هذا الباب، فإن كانت الإمامة في قريش لأن النبي صلى الله عليه وسلم من قريش، فيجب أن يكون الحكم والإمامة في بني هاشم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم من قريش عامة ومن بني هاشم خاصة.
فسميت هذه القصائد بالهاشميات، وهذه الثغرة فتحها الكميت على مصراعيها شعراً للشيعة ليحتجوا على غيرهم بأحقية بني هاشم بالخلافة.
ومن احتج عليك بدليل عقلي فرده أولاً إلى النقل؛ لأنه لا مقام للعقل مع النقل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأئمة من قريش)، وقد استدل الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم بالقرآن والسنة من حيث الإجمال لا من حيث النص على أحقية الصديق رضي الله تعالى عنه بالخلافة، فهذا أشبه بالنقل؛ لأن الله قال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النساء:69] والنبوة انتهت بموت النبي صلى الله عليه وسلم، فنعدل في الإمامة إلى الصديقين، وقد اتفقت الأمة على أن صديقها الأكبر أبو بكر ، فتقديم أبو بكر هنا بموجب القرآن، ونحن نقرأ الفاتحة ونطلب من الله أن يدخلنا في صراط الذين أنعم عليهم، والله يقول: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، ونحن لا ندري من هم الذين أنعم عليهم، ولكن ربنا قال: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، فجعل الصديقين بعد الأنبياء، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه سماه النبي صلى الله عليه وسلم صديقاً، وولاه الصلاة أيام حياته، فصلى أبو بكر بالناس والنبي صلى الله عليه وسلم حي، فلم ينكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم ينزل من القرآن شيء ينكر، فما أقره الله أقره رسوله، ولما أقره الرسول أقره الصحابة وقبلوا، فكان بدهياً بعد ذلك أن يسند الأمر إليه رضي الله عنه وأرضاه، فبطلت حجة الكميت هنا على الناس، ولكن حجته على بني أمية صحيحة، وهذا من باب الإنصاف.
فـالكميت جمع هذه القصائد التي تسمى بالهاشميات، وعلى منوالها في عهد بني العباس ظهرت الكافوريات، وهي قصائد قالها المتنبي في مدح كافور الأخشيدي .
والمتنبي ظهر شأوه وعلا كعبه في بلاط سيف الدولة ، ولكن كثرة الحساد أخرجته من ذلك المكان، وهذه سنة الله في خلقه، فلا يظهر أحد إلا ويكثر حساده، فيلزمه الخروج، كما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، فخرج المتنبي من بلاط سيف الدولة بعد أن قال:
وا حر قلباه ممن قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقم
ما لي أكتم حباً قد برى جسدي وتدعي حب سيف الدولة الأمم
إن كان يجمعنا حب لغرته فليت أنا بقدر الحب نقتسم
ما أبعد العيب والنقصان من شرفي أنا الثريا وذان الشيب والهرم
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
يقولون: إن المتنبي حكيم، وأنا أقول: والله ما عنده من الحكمة مثقال ذرة، فهو حكيم في أقواله وليس حكيماً في أفعاله، وهو حيكم في نفعه للناس، ولكن لم ينفع نفسه، فأي ملك وأي والي وأي أمير يقبل أن يأتي شاعر فيجلس على الكرسي ويقول أمامه:
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
ما أبعد العيب والنقصان من شرفي أنا الثريا وذان الشيب والهرم
صحبت في الفلوات الوحش منفرداً حتى تعجب مني القور والأكم
ثم يريد منه أن يبقيه ويعطيه ولاية؟! لقد قال هذا جالساً واستكبر أن يقف وهو شاعر، فكيف لو أصبح أميراً؟! فلا يعقل أن ذا سلطان يقبل أن ينازعه أحد، فلم يكن سيف الدولة يتحسر على فراق المتنبي له؛ لأن المتنبي أضر بنفسه عندما أعلى نفسه أمام سيف الدولة ، فوجد الحساد مدخلاً على شخصيته.
فخرج إلى مصر فمدح كافور الأخشيدي ، ولم يكن كافور إلا مثل سيف الدولة في الذكاء، فمدحه ينتظر منه ولاية فقال:
وهذه كنية كافور ، يقول:
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله فإني أغني منذ حين وتشرب
يعني: ما استفدت شيئاً، فأنا أمدحك ولم تعطني ولاية، فبقي على هذا حتى ترك كافوراً .
والذي يعنينا هنا تشبيه الكافوريات بالهاشميات، وهنالك الروميات لـأبي فراس الحمداني ، قالها حين أسرته الروم، ومنها قوله:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر
وقال أصيحاب الفرار أو الردى فقلت هما أمران أحلاهما مر
إلى أن قال:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
من هذه الآية يمكن تقسيم الحيوانات من حيث أكلها حلاً وحرمة إلى ثلاثة أقسام:
الأول: قسم حلال طيب حياً وميتاً، وهو طعام البحر والجراد.
والثاني: قسم حرام، سواء ذكي أو لم يذك، وهو كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير على قول الأكثرين من أهل العلم احتياطاً؛ لأنه ليس على ذلك إجماع.
الثالث: قسم حلال إذا ذكي تذكية شرعية، وهو بهيمة الأنعام وما سواها من الحيوانات من غير الخبائث والمتفق على فسقها وتحريمها.
يقول تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام:145].
ذكر الله جل وعلا هنا الدم وقيده بأنه مسفوح، أي: دم مهراق، ونقول: وردت كلمة الدم في اصطلاح الفقهاء، ويعبرون بها عن الذبح، فيقولون فيمن ترك واجباً في الحج: عليه دم.
ويمكن تقسيم ما يؤكل من الدماء في الحج وما لا يؤكل منها إلى قسمين:
أولاً: دماء يجوز -بل يستحب- الأكل منها، ومثال ذلك هدي القرآن وهدي التمتع.
وإذا كان ما أوجبه الله من هدي كالقران والتمتع يجوز الأكل منه، فمن باب أولى أن يجوز الأكل من هدي التطوع.
ثانياً: الدماء التي لا يجوز الأكل منها، وهي دم ترك الواجب، ودم فعل المحظور، والعلة في ذلك أنها تجري مجرى الكفارات.
والفرق بين دم ترك الواجب ودم فعل المحظور: أن دم ترك الواجب لا يجوز الانتقال منه إلى غيره إلا إذا لم تجد، أما دم فعل المحظور فأنت مكلف به على التخيير لا على الوجوب.
ومثال ذلك: أن أحرم من غير ذي الحليفة وأنا مدني، فتجاوزت الميقات عمداً أو نسياناً ولم أستطع أن أعود إليه، فأنا تركت واجباً، أي: أنني لم أحرم من ميقاتي، فترك الواجب هنا يترتب عليه دم، وهذا الدم لا خيار لي عنه، فإن عجزت لقلة مال انتقلت إلى صيام عشرة أيام.
ومثال فعل المحظور أن أحرم من ذي الحليفة، فأنا لم أترك واجباً، ولكنني في الطريق اشتكيت من صداع في رأسي، فوضعت على رأسي الغطاء، فغطاء الرأس محظور من محظورات الإحرام، فهنا لا يقال: إنه يجب عليك لزاماً دم، وإنما يقال: إن الدم واحد من خيارات ثلاثة:
الخيار الأول: الدم.
والخيار الثاني: صيام ثلاثة أيام.
والخيار الثالث: إطعام ستة مساكين.
فهناك فرق جلي بين الدم الذي ينجم عن ترك واجب والدم الذي ينجم عن فعل محظور.
يقول تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ [الأنعام:145] أي: آكل يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [الأنعام:145].
والميتة ما مات حتف أنفه، ويدخل فيها: المنخنقة والموقوذة والنطيحة، وقد حرمها الله تعالى.
قال الله: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [الأنعام:145] وهذه تسمية للخنزير ببعض أجزائه، والمقصود الخنزير كله لحماً وشحماً وعظماً وغير ذلك، والخنزير حيوان معروف حرمه الله جل وعلا، وإن كان شائعاً أكله في بعض البلدان عياذاً بالله.
والخنزير الصغير يسمى خِنَّوصاً، وقد كان بين جرير والأخطل ما يسمى بشعر النقائض، فـالأخطل كان شاعراً نصرانياً تغلبي القبيلة، وكانت بينه وبين جرير نقائض، أي: شعر يهدم كل منهما به ما قاله الآخر، فكانت الثغرة في شخصية الأخطل هي أنه نصراني، فكان جرير يتعمد قدحه بدينه، أي: بالنصرانية، وله عجز بيت يقول:
لحم الخنانيص يغلي فوقه السُكَرُ
يعني: أنتم تعيشون على لحم صغار الخنازير، وهذا تعيير يقول:
ما كان يرضى رسول الله فعلهم والطيبان أبو بكر ولا عمر
يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرضيه هو وأبو بكر وعمر صنيع تغلب، وإقحام أبي بكر وعمر من أجل القافية، فمن يعرف الصناعة الشعرية يجد أن جريراً دفعه إلى ذكرهما القافية.
والذي يعنينا أن الخِنَّوص ولد الخنزير، وكان النصارى يعيرون به، وقد جاء في الحديث أن عيسى ابن مريم عندما ينزل يكسر الصليب ويقتل الخنزير.
قال الله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام:145] أي: أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي: لم يذبح لله، أو لم يذكر عليه اسم الله.
ثم قال ربنا: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:145].
هذا من رحمة الله بعباده، حيث إن مواقف الاضطرار لا تجري عليها أحكام مواقف الاختيار، فحالات الضرورة لها أحكامها، والضرورات تبيح المحظورات، كما أن الواجب يسقط مع العجز، وهذا كله من رحمة الله جل وعلا بعباده.
جعلنا الله وإياكم من أوليائه.
هذا ما تحرر إيراده وتهيأ إعداده حول قول الله تعالى في سورة الأنعام: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام:145].
وصلى الله على محمد، وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر