الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإني أحمد الله سبحانه وتعالى وأشكره على أن وفقنا للمجالس التي يدرس فيها كلام الله وكلام رسوله، وكلام أهل العلم الذي يبين كلام الله وكلام رسوله.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها مجالس خير وعلم، تحفها الملائكة وتغشاها الرحمة، وتنزل عليها السكينة، ويذكرها الله سبحانه وتعالى فيمن عنده.
لذا لابد أن يعلم المسلم مدى أهمية طلب العلم، وحضور حلقات ومجالس العلم، والدروس العلمية، وأن طلب العلم قربة إلى الله عز وجل، بل هو من أفضل القربات وأجل الطاعات، (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع).
وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة سياحين يتتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوها حفوها بأجنحتهم وجلسوا معهم).
وجاء في الأحاديث الصحيحة: أن الله تعالى يغفر لأهل الذكر، ولمن جاء معهم وليس منهم، ويقول الرب سبحانه وتعالى: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
والنصوص التي فيها بيان فضل العلم وطلب العلم كثيرة جداً، منها قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9]، كما أن الله تعالى قرن شهادة أهل العلم بشهادته وشهادة ملائكته، وذلك على أعظم مشهود به وهو توحيد الله عز وجل: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، وقال سبحانه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].
وجاء في الحديث (أن العلم هو ميراث النبوة، وأن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر).
وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).
قال العلماء: هذا الحديث له منطوق وله مفهوم.
أما منطوقه: فإن من فقهه الله في الدين فقد أراد به خيراً.
وأما مفهومه: ومن لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيراً. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومعلوم أن طلب العلم أفضل من نوافل العبادة كما قرر ذلك العلماء، وقد نصوا على أنه مقدم على نوافل العبادة، كنوافل الصلاة والصيام والحج، فلذا ينبغي لطالب العلم أن يخلص نيته لله عز وجل، وأن يعلم أنه في عبادة وقربة لله عز وجل، ولا يقصد بطلبه للعلم إلا وجه الله والدار الآخرة، ويقصد بطلبه العلم إبتداءً رفع الجهل عن نفسه ثم عن غيره؛ لأن الأصل في الإنسان أنه لا يعلم، قال الله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78]، كما ينبغي له أن يعلم أنه لابد من الحرص والإصغاء وحضور الذهن، ولا بد من تقييد الفوائد العلمية، والاكثار من الأسئلة التي يقصد بها الفائدة، لا التي يقصد بها الإعنات وإيقاع المسئول في الحرج، أو التوصل بها إلى المباحات، أو غير ذلك من المقاصد السيئة.
وسأتحدث بما يفتح الله به عليَّ حول هذه الرسالة الموسومة بـ: (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد) للإمام محمد بن إسماعيل بن الأمير الصنعاني رحمه الله تعالى، والأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني معروف بسلفيته في الاعتقاد، فهو سلفي على منهج السلف الصالح، وهو من معاصري الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مجدد الدعوة السلفية، وكما أنه عاصره فقد وافقه، وقد ولد في رأس المائة الأولى بعد الألف، وتحديداً عام: ألف وتسعمائة وتسعين، وكانت وفاته سنة: اثنين وثمانين ومائة وألف، والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ميلاده سنة ألف ومائة وخمسة عشر، ووفاته سنة ألف ومائتين وست للهجرة، وعمر الشيخ محمد بن الأمير الصنعاني رحمه الله اثنان وثمانون سنة، وعمر الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب اثنان وتسعون سنة يزيد عليه بعشر سنوات، فهو معاصر له وموافق له، وقد أثنى على دعوته السلفية وله قصيدة مشهورة في ذلك، يقول في مطلعها:
سلام على نجد ومن حل في نجد.
وبين في قصيدته تلك ما معناه: أن الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب جاء بهذه الدعوة السلفية، وأنه قد وافق ما عندي.
وابن الأمير الصنعاني هو صاحب: (سبل السلام)، وقد أثنى عليه الشوكاني وغيره من أهل العلم، وهذه الرسالة التي بين أيدينا سماها: تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد.
وتطهير الاعتقاد يعني: تطهير عقيدة المسلم عن الأدران. والأدران جمع درن وهو الوسخ، والإلحاد: الميل عن الصواب وعن الحق والجادة.
فيكون معنى هذه الرسالة: يريد أن يطهر العقيدة السلفية عن وسخ الإلحاد والانحراف والشرك.
والمراد بالتطهير: التطهير المعنوي لا التطهير الحسي، ومعلوم أن التطهير نوعان:
تطهير حسي، وتطهير معنوي.
فالتطهير الحسي: كأن تطهر الثوب أو البدن الذي علقت به النجاسة، بالغسل.
وأما التطهير المعنوي فهو: تطهير العقيدة مما علق بها من أدران الشرك والإلحاد والبدع والمعاصي والكبائر، بمعنى أنك تعتقد عقيدة السلف الصالح، وتصفي العقيدة وتنقيها من شوائب الشرك والبدع، والمحدثات في الدين، وهذا هو الذي أراده الشيخ الصنعاني رحمه الله بقوله: تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد.
وإذا كان الإلحاد هو الميل عن الصواب وعن الحق، فإن الشرك إلحاد، والمعاصي نوع من الميل والإلحاد قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180] أي: الذين يميلون بها عن الصواب وعن الحق سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180].
وهذه الرسالة قد طبعت أكثر من مرة، وبين يدي الرسالة طبعة فيها تحقيق وتخريج محمد صبحي حسن حلاق، وقد ذكر في أولها مقدمة قليلة وترجمة للمؤلف، وبين فيها أيضاً باختصار العقيدة السليمة، أي: عقيدة السلف الصالح، وأنها توحيد الله في ربوبيته وأسمائه وصفاته وألوهيته، وسنمر على المقدمة ثم نعرج على الترجمة باختصار، ثم نبدأ في شرح الرسالة بعون الله تعالى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71] ].
هذه تسمى خطبة الحاجة عند أهل العلم، وهي معروفة وواردة في السنن، ويشرع قرآتها عند عقد النكاح، فيفتتح عقد النكاح بها، ثم بعد ذلك يعقد الولي النكاح، كما تسمى أيضاً: خطبة ابن مسعود رضي الله عنه، ولهذا يقول علماء الحنابلة في كتبهم: ويسن العقد مساء يوم الجمعة بخطبة ابن مسعود رضي الله عنه: ويعنون بها خطبة الحاجة، لذا يسن الإتيان بها في كل حاجة، وإن كانت جاءت في خطبة النكاح، فلا بأس أن يستفتح بها الكتب والرسائل وخطب الجمعة وغيرها، وكان شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رحمه الله الإمام المشهور كثيراً ما يستفتح خطبه في مؤلفاته ورسائله بهذه الخطبة.
قال المحقق وفقه الله تعالى: [ أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ].
جاء في الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول هذا في خطبة الجمعة، وقوله: وكل ضلالة في النار. ذكرت في رواية النسائي .
قال المحقق وفقه الله تعالى: [ وبعد إننا نقر ونعترف بقلوبنا وألسنتنا أن الله واجب الوجود ].
وهنا يلاحظ أنه قال: أما بعد. ثم قال: وبعد وكأنه أراد أن يفصل فبعد أن بين أن أصدق الحديث كتاب الله أراد أن يبين أن ما يعتقده هو العقيدة السلفية.
قال المحقق وفقه الله تعالى: [ إننا نقر ونعترف بقلوبنا وألسنتنا أن الله واجب الوجود واحد أحد فرد صمد متفرد بكل صفة كمال ومجد وعظمة وكبرياء وجلال، وأن له غاية الكمال الذي لا يقدر الخلائق أن يحيطوا بشيء من صفاته، وأنه الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، وأنه العلي الأعلى علو الذات وعلو القدر وعلو القهر، وأنه العليم بكل شيء، القدير على كل شيء، السميع لجميع الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، البصير بكل شيء الحكيم في خلقه وشرعه، الحميد في أوصافه وأفعاله، المجيد في عظمته وكبريائه، الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، وعمل بجوده وبره ومواهبه كل موجود المالك الملك لجميع الممالك، فله تعالى صفة الملك، والعالم العلوي والسفلي كلهم مماليك وعبيد لله، وله التصرف المطلق، وهو الحي الذي له الحياة الكاملة المتضمنة لجميع أوصافه الذاتية، القيوم الذي قام بنفسه وقام به غيره ] وقد جاء في بعض النسخ: قام بنفسه وبغيره وهذا غير صحيح بل الصحيح قام به غيره.
قال المحقق وفقه الله تعالى: [ وهو متصف بجميع صفات الأفعال، فهو الفعال لما يريد، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ونشهد أنه ربنا الخالق البارئ المصور الذي أوجد الكائنات وأتقن صنعها وأحسن نظامها ].
أثبت المحقق هنا وجود الله سبحانه وتعالى في قوله: نشهد أن الله واجب الوجود. كما أثبت صفاته وأسماءه وأفعاله، فأثبت توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، فكل ما مضى فيه إثبات أن الله واجب الوجود، وأنه أحد فرد صمد، وأن له الكمال المطلق وأنه الأول وأنه الظاهر وأنه العلي، بجميع أنواع العلو الثلاثة: علو القدر وعلو القهر وعلو الذات، وأنه السميع وأنه البصير، وأن له الأوصاف الكاملة الذي وصف بها نفسه، وأنه المدبر وأن العباد كلهم مماليك، وأنه فعال لما يريد وأنه الخالق البارئ، وأنه الذي أوجد الكائنات وبعد أن ذكر ذلك أتبعه بذكر توحيد العبادة والألوهية.
قال المحقق وفقه الله تعالى: [ وأنه الله الذي لا إله إلا هو الإله المعبود الذي لا يستحق العبادة أحد سواه ].
وهذا فيه إثبات توحيد العبادة والألوهية وبذلك تمت أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية والعبادة، وهذا هو الذي من أجله خلقنا الله سبحانه، وهو الذي ركز عليه المؤلف محمد بن إسماعيل بن الأمير الصنعاني وذلك لأن القرآن كله من أوله إلى آخره في إثبات توحيد العبادة والألوهية مع ذكر توحيد الربوبية والأسماء والصفات، لكن توحيد الربوبية والأسماء والصفات توحيد فطري لم ينكره أحد إلا من شذ من الأمم.
أما توحيد الألوهية ففيه وقعت الخصومة بين الأنبياء وأممهم، ومعنى قوله: (لا إله إلا هو) يعني: لا معبود بحق سواه، فالإله هو المعبود.
قال المحقق وفقه الله تعالى: [ فلا نخضع ولا نذل ولا ننيب ولا نتوجه إلا لله الواحد القهار العزيز الغفار، فإياه نعبد، وإياه نستعين، وله نرجو ونخشى، نرجو رحمته ونخشى عدله وعذابه ].
ليعلم أن من وضع الله فيه عدله عذب؛ لأن الله تعالى يثيب الطائعين برحمته، ويعاقب العاصين بعدله؛ ولهذا جاء في الحديث: (لو عذب الله أهل السماوات والأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته أوسع لهم)
والمعنى: أنه لو وضع عدله بأهل السماوات وأهل الأرضين لكانوا مدينين له، وحينئذ لو عذبهم عذبهم وهو غير ظالم لهم.
لكنه سبحانه لا يعاملهم بعدله، ولا يحاسبهم بنعمه وأعمالهم، بل يبتدئهم بنعم جديدة سبحانه وتعالى، فيثيب الطائعين برحمته وفضله وإحسانه، ويعاقب العاصين والمجرمين بعدله سبحانه وتعالى، فعقابه للعاصين عدل، لا يبلغه أحد سواه، ورحمته للمطيعين فضل وإحسان.
قال المحقق وفقه الله تعالى: [لا رب لنا غيره فنسأله وندعوه، ولا إله لنا سواه نؤمله ونرجوه، هو مولانا في إصلاح ديننا ودنيانا، وهو نعم النصير الرافع عنا جميع السوء والمكاره، فهذه صفة الإيمان بالله تعالى على وجه التفصيل وقد أخل بها بعض الناس، كأن يعتقد العبد أن لله شريكاً في خلق بعض المخلوقات وتدبير أمورها -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- أو أن يصرف العبد نوعاً من أنواع العبادة لغير الله؛ كأن يدعو غير الله أو يرجوه أو يخافه، ...
فلما رأى العلامة محمد بن إسماعيل الأمير رحمه الله تعالى هذه الأصناف من العباد قام بكتابة هذه الرسالة التي نحن بصدد تحقيقها وتخريجها، وأسماها: (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد)، أثبت فيها أصولاً من قواعد الدين، ومن أهم ما تجب معرفته على الموحدين، وأوضح فيها خطر الشرك على الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة، وأورد فيها الأدلة على تحريم النذر والنحائر للقبور وغيرها.
فجزاه الله خيراً على ما كتب وجعله في ميزان أعماله يوم العرض عليه ونحن معه يا رب العالمين ].
وكما قال المحقق فإن المؤلف رحمه الله العلامة محمد بن إسماعيل بن الأمير الصنعاني قد ذكر في هذه الرسالة قواعد وأصولاً في توحيد العبادة.
مولده في منتصف جماد الآخرة سنة (1909هـ) بمدينة كحلان التي تقع في الشرق الشمالي من حجة على بعد سبعة عشر كيلو.
انتقل مع أبيه إلى صنعاء في سنة (1207هـ) وكانت سنه ثمان سنوات، فنشأ بها، وتعهده أبوه بالتربية والتعليم، وأسلمه إلى النحارير من أهل العلم، كالسيد العلامة زيد بن محمد بن الحسن بن القاسم ، والسيد العلامة: صلاح بن حسين الأخفش ، والسيد العلامة عبد الله بن علي بن أحمد، والقاضي العلامة علي بن محمد بن أحمد العنسي، حتى تخرج عليهم عالماً فاضلاً يشار إليه بالبنان ثم عكف على نشر السنة النبوية والتدريس والفتيا والإرشاد والتأليف، وكان الأمير الصنعاني رحمه الله يمثل العالم الورع الزاهد حاله كحال العلماء الأجلاء رحمهم الله تعالى لا هم لهم إلا مغفرة الله وطلب رضوانه، وقد أثنى عليه العلماء حتى أن الشوكاني رحمه الله تعالى قال عنه: (الإمام الكبير المجتهد المطلق صاحب التصانيف).
وقال عنه أيضاً: برع في جميع العلوم وفاق الأقران وتفرد برئاسة العلم في صنعاء، وتظهَّر بالاجتهاد وعمل بالأدلة ونفر عن التقليد وزيف ما لا دليل عليه من الآراء الفقهية.
وقال عنه محمد محيي الدين في مقدمة توضيح الأفكار: ولقد كان الشارح المحقق ابن الأمير في كتابه هذا كما عهد في مؤلفاته كلها الرجل العارف بما قيل ولما قيل وماذا قيل مما يرد عليه أو يدفع عنه أو يدفع به، وكان مع ذلك كله رجلاً حر الرأي يوافق المصنف ما وافق الحق في نظره ويخالفه ما انحرف عما يعتقده صواباً، ويبين ما في عبارة المؤلف من قصور عن تأدية المعنى الذي يقوم حوله وما فيها من استيعاب أحياناً ].
حقاً لقد كان عالماً من العلماء البارزين وله اجتهادات ومؤلفات جيدة ونافعة ومفيدة ومع ذلك فهو ليس بمعصوم بل هو كسائر البشر يخطئ كما يخطئ غيره، وقد يغلط من هو أكبر منه كما يغلط من هو أقل منه، وهناك بعض الأشياء نجدها ونلحظها في الرسالة لا تحط من قدره، وكما قال الإمام مالك رحمه الله: كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر. يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس هناك أحد معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمؤلف رحمه الله إمام معروف سلفي المعتقد، وكلامه ومؤلفاته جيدة ونافعة ومفيدة لكن قد يكون له أشياء مرجوحة، أو يغلط فيها كغيره، فينبه غيره عليها من أهل العلم.
قال المحقق وفقه الله تعالى: [ وللعلامة الأمير مؤلفات كثيرة منها:
1- إجابة السائل شرح بغية الآمر.
2- إرشاد النقاد إلى تيسر الاجتهاد.
3- إقامة البرهان على جواز أخذ الأجرة على تلاوة القرآن.
4- توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار في علوم الآثار.
5- الثمان المسائل المرضية.
6- ديوان الأمير الصنعاني.
7- سبل السلام وهو شرح على بلوغ المرام من أدلة الأحكام لابن حجر العسقلاني. وأقوم بتحقيقه وتخريج أحاديثه أعانني الله على إكماله.
وغيرها من الكتب النافعة.
وقد كان رحمه الله تعالى من العلماء العاملين الذين لا تأخذهم في الحق لومة لائم، فكان صريحاً وشجاعاً في نصحه للأئمة والولاة والتنديد بما يعانيه الناس من المظالم.
وكان رحمه الله تعالى داعياً إلى العمل بالكتاب والسنة، وعدم التقيد بالمذاهب المعروفة، وداعية إلى إخلاص التوحيد.
ومات رحمه الله تعالى بصنعاء في يوم الثلاثاء، ثالث شعبان سنة: (1182هـ) وقد دفن غربي منارة جامع المدرسة بأعلى صنعاء عن ثلاث وثمانين سنة ].
افتتح الرسالة بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز، ثم ثنى بالحمدلة، كما افتتح الله تعالى كتابه العظيم القرآن بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2].
فقوله: (الحمد لله) (أل) للاستغراق، والحمد هو: الثناء على المحمود بصفاته الاختيارية مع حبه وإجلاله وتعظيمه، والحمد أكمل من المدح، لأن المدح إخبار عن صفات الممدوح، وقد تكون هذه الصفات خلقية ليست اختيارية، كأن تمدح الأسد بأنه قوي العضلات، فهذا مدح ولا يسمى حمداً.
وبين الحمد والشكر عموم وخصوص وجهي، فالحمد يكون بالقول والشكر يكون بالقول والفعل والاعتقاد، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالحمد، فقال: (الحمد لله) والمعنى: أن جميع أنواع المحامد كلها لله مملوكة ومستحقة لله تعالى.
وقوله: [ الذي لا يقبل توحيد ربوبيته من العباد حتى يفردوه بتوحيد العبادة كل الإفراد ].
أي: أن الله تعالى لا يقبل توحيد من وحده بربوبيته حتى يوحده في عبادته وألوهيته، فالمشركون من كفار قريش وغيرهم وحدوا الله في الربوبية، وأقروا بأن الله هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت، كما قال سبحانه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87].
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت:61].
قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون:84-85].
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [المؤمنون:88]. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون:86-87].
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون:89].
فهم معترفون وموحدون لله في ربوبيته لكنهم أشركوا معه في توحيد الألوهية والعبادة، فلهذا لا يقبل توحيدهم للربوبية، ولا يفيدهم، بل ولا يدخلهم في الإسلام، فمن وحد الله في ربوبيته ولم يوحده في عبادته وألوهيته فإن الله لا يقبل هذا التوحيد منه، بمعنى: أنه لا ينفعه ولا يفيده، ولا يخرجه من دائرة الشرك والكفر، وهذا معنى قول المؤلف: الحمد لله الذي لا يقبل توحيد ربوبيته من العباد حتى يفردوه بتوحيد العبادة كل الإفراد.
والأنداد: جمع ند وهو المثيل والنظير، أي: بألا يجعلوا لله مثيلاً ولا نظيراً ولا شريكاً في الربوبية، أو في الألوهية، أو في الأفعال، أو في الصفات، أو في العبادة، فمن جعل لله نداً فقد أشرك به، ومن جعل لله نداً لا يقبل الله منه توحيده إياه في ربوبيته، وهذا هو أعظم الذنوب، كما جاء في الحديث عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: (سئل: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) .
فمن جعل لله مثيلاً أو نظيراً في الربوبية، أو جعله مثيلاً له في أسمائه وصفاته، أو مثيلاً له في العبادة والألوهية، فقد جعله مدبراً مع الله، ولا يقبل الله منه أي عمل حتى يوحد الله ويخلص له العبادة، فمن وحد الله في ربوبيته ولم يوحده في عبادته وألوهيته، بأن اتخذ أنداداً يدعوهم مع الله أو يتوكل عليهم، أو يفزع إليهم بحال من الأحوال، فإن الله تعالى لا يقبل منه توحيده في الربوبية. وهذا معنى قول المؤلف: فلا يتخذون له نداً ولا يدعون معه أحداً، ولا يتكلون إلا عليه ولا يفزعون في كل الأحوال إلا إليه، ولا يدعونه بغير أسمائه الحسنى.
وقوله: (ولا يتوصلون إليه بالشفعاء) أي: لا يجعلون شفيعاً يدعونه، ويطلبون الشفاعة منه من دون الله عز وجل، كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] لذا على المسلم أن يعلم أنه ليس بينه وبين الله واسطة في الدعاء، بل لابد أن يدعوه وحده سبحانه وتعالى، ولا يجعل واسطة يدعوه ويطلب منه الشفاعة، لأن ذلك هو عين الشرك، كما قال الله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18]، فالمشركون دعوا الأصنام والأوثان، ومنهم من دعا الملائكة، ومنهم من دعا الصالحين، ومنهم من دعا الأشجار والأحجار، فكانوا يدعونهم من دون الله ويطلبون منهم الشفاعة عند الله، فكفرهم الله وجعلهم مشركين بهذا الاعتقاد، حيث صرفوا العبادة لغير الله، وطلبوا منه أن يكون شفيعاً لهم عند الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأشهد أن لا إله إلا الله رباً معبوداً، وأن محمداً عبده ورسوله، الذي أمره أن يقول: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعراف:188].
وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء:79] ].
قوله: (وأشهد أن لا إله إلا الله) أي: أقر واعترف بأنه لا معبود بحق إلا الله، وأنه سبحانه الرب المعبود.
(وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله) فهاتان الشهادتان هما أصل الدين وأساس الملة من لم يأت بهما، فليس له إسلام ولا دين، ولا تصح إحداهما بدون الأخرى، فمن شهد أن لا إله إلا الله ولم يشهد أن محمداً رسول الله لم تقبل منه، ومن شهد أن محمداً رسول الله ولم يشهد أن لا إله إلا الله لم تقبل منه، إذ لابد أن يشهد أن لا إله إلا الله، ويشهد أن محمداً رسول الله، وهو عندما يشهد أن لا إله إلا الله يعتقد ويقر بأنه لا معبود بحق إلا الله ويلتزم بذلك ويعمل به، ويشهد ويقر ويعترف بأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي العربي المكي ثم المدني هو رسول الله وهو خاتم النبيين وهو عبد الله ورسوله، يطاع ويتبع ولا يعبد، لأن حق العبادة لله وحده، والرسول صلى الله عليه وسلم له حق الطاعة والاتباع والمحبة والتصديق والتوقير والتبجيل، والمؤمنون لهم حق محبتهم وموالاتهم والاقتداء بهم في أعمالهم الطيبة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ صلى الله عليه وعلى آله والتابعين له في السلامة من العيوب، وتطهير القلوب عن اعتقاد كل شيء يشوب ].
قوله: صلى الله عليه. هذا دعاء لله عز وجل بأن يصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم، وصلاة الله على نبيه أصح ما قيل فيها: ثناء الله على عبده في الملأ الأعلى، فتسأل الله أن يثني على نبيه صلى الله عليه وسلم في الملأ الأعلى كما روى البخاري في صحيحه عن أبي العالية أنه قال: (صلاة الله على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى)
ومنهم من قال: تغشي الرحمة، ومنهم من قال: تشمل الأمرين، قال الله تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة:156-157] فعطف الرحمة على الصلاة، فأنت تسأل ربك أن يثني على عبده ورسوله محمد في الملأ الأعلى، وهم الملائكة من حملة العرش ومن حول العرش من المكرمين وغيرهم.
وقوله: (وعلى آله) اختلف في المراد بالآل: فقيل: المراد بهم أهل بيته عليه الصلاة والسلام من المؤمنين، ويدخل في ذلك أزواجه، وعمه العباس ، وعمه حمزة ، وعلي بن أبي طالب والحسن والحسين وفاطمة كلهم من آله.
وقيل: المراد بالآل: أتباعه على دينه إلى يوم القيامة وهذا أعم، وإذا عطف الأصحاب على الآل صار الأصحاب داخلون في الآل، وخصوا أيضاً بالإفراد، فصلي عليهم مرتين: مرة في العموم بدخولهم في الآل، ومرة: في الخصوص، على أنه لو قصد بالآل أتباعه على دينه، لدخل في ذلك دخولاً أولياً أهل بيته وصحابته.
قوله والتابعين له: أي: التابعين للنبي صلى الله عليه وسلم، في السلامة من العيوب، وكأن المؤلف رحمه الله لما قال هنا: صلى الله عليه وعلى آله: ظاهره أنه أراد به أهل بيته؛ لأنه قال: والتابعين لهم، ولو كان مراده أتباعه على دينه لكان قوله التابعين تكرار، ولو قال المؤلف رحمه الله: صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم لكان أولى.
والتابعون هم التابعين له في السلامة من العيوب، وهي البدع، وأعظم البدع الكفر، ويليه المعاصي.
والخلاصة أن معنى قوله: والتابعين له في السلامة من العيوب: كل من تبعهم وسلم من العيوب المعنوية من كفر ومعصية.
وقوله: (وتطهير القلوب) أي: الذين طهروا قلوبهم عن اعتقاد كل شيء يشوب التوحيد، ومعنى يشوب: أي: يختلط بالتوحيد والمعنى الذين طهروا عقيدتهم عن اعتقاد كل شيء يخل بالاعتقاد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وبعد:
فهذا تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد وجب علي تأليفه وتعين علي ترصيفه لما رأيته وعلمته من اتخاذ الأنداد في الأمصار والقرى وجميع البلاد، من اليمن والشام ومصر ونجد وتهامة، وجميع ديار الإسلام، وهو الاعتقاد في القبور وفي الأحياء ممن يدعي العلم بالمغيبات والمكاشفات وهو من أهل الفجور لا يحضر للمسلمين مسجداً ولا يرى لله راكعاً ولا ساجداً، ولا يعرف السنة ولا الكتاب، ولا يهاب البعث ولا الحساب.
فواجب علي أن أنكر ما أوجب الله إنكاره، ولا أكون من الذين يكتمون ما أوجب الله إظهاره ].
بعد مقدمة المؤلف وخطبته قال: (وبعد) أي: بعد الخطبة، وقوله: (فهذا) إشارة إلى الرسالة التي كونها في ذهنه قبل أن يكتبها؛ لأنه لم يكتبها بعد، والمعنى: فهذه المعاني التي سأكتبها في هذه الرسالة التي سميتها تطهير الاعتقاد، وقد عرفنا أن المراد به الطهارة المعنوية (عن أدران) أي: وسخ الإلحاد من الشرك والمعاصي والبدع.
وقوله: وجب علي تأليفه وتعين علي ترصيفه. سجع، والمعنى وجب علي أن أؤلفه وتعين علي أن أصنفه وأرتبه، وإنما وجب علي هذا؛ لأن فيه إنكار لمنكر، وأعظم المنكر هو الشرك بالله.
والمؤلف رحمه الله يقول: الشرك انتشر في جميع البلدان والأقطار في اليمن والشام ومصر ونجد وتهامة، ولما انتشر الشرك وجب علي أن أنكره؛ لأن إنكار المنكر واجب، ومعلوم أن المنكر يجب إنكاره على كل من علم به، وذلك حتى يزول المنكر، وهو فرض كفاية على الأمة أن تقوم به، فإذا أنكر بعض أفراد الأمة هذا المنكر ارتفع الإثم عن الجميع، وإن سكتوا كلهم أثموا، قال الله تعالى في كتابه العظيم: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، فقوله تعالى: (ولتكن) أمر، أي: لتمتثل طائفة من الأمة الإسلامية لتقوم بهذا الأمر العظيم.
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ [آل عمران:104] ثم وصفهم فقال: يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104] فهذه الآية دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الأمة كلها، وجوباً كفائياً، ومعروف أن الواجب أو الفرض ينقسم إلى أقسام: فرض على الأعيان وفرض على الكفاية، فرض على الأعيان يجب على كل شخص بعينه، مثل الصلوات الخمس، فيجب على كل أحد أن يصلي.
وهناك واجب كفائي على الكفاية ويجب على الأمة كلها؛ فإذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين مثل: تغسيل الميت، والصلاة على الميت، فيجب على الأمة أن يصلوا على هذا الميت، فلو تركوا الصلاة على الميت أثمت الأمة، وإذا صلى واحد أو اثنان أو ثلاثة ارتفع الإثم عن الباقين.
وكذلك غسل الميت، فيجب على الأمة أن تغسل الميت، فإذا تركوا الميت ولم يغسلوه أثموا جميعاً، وإن غسله بعضهم ارتفع الإثم، وكذلك تكفينه ودفنه من فروض الكفاية، وهي مثل إنكار المنكر، فإذا وجد المنكر وجب على الأمة أن تنكره، فإذا قام به من يكفي ارتفع الإثم عن الجميع، فإن تركوه كلهم أثموا، وأعظم المنكرات هو الشرك بالله عز وجل، فالمؤلف رحمه الله يقول: وجب علي تأليف هذا الكتاب إنكاراً للمنكر الذي هو أعظم المنكرات، ألا وهو الشرك بالله عز وجل، ومعلوم أن المنكر يجب إنكاره حتى يزول، فالمؤلف رحمه الله رأى أنه يجب عليه إنكار المنكر؛ لأن المنكر ما زال موجوداً، أو لأن هناك بعض الشركيات لم يقم أحد بإنكارها، فرأى أن هذا واجباً عليه، وهو قد علم بهذه المنكرات، وانتشار الشرك في البلدان الإسلامية التي تنتسب إلى الإسلام، ولم يزول هذا المنكر، ولم يقم أحد في بعض الجهات بإنكاره، قال: فوجب علي تأليف هذه الرسالة، لكن لو قام به غيره لا يكون واجباً عليه، بل مستحباً، ويقول: وإني لما شاهدته بعيني وتحقت وجوده، فرأى مثلاً في بلاده الشرك، وتحقق وجوده في الشام ومصر ونجد وتهامة، من الاعتقاد في القبور، أي: في أصحاب القبور وهو أن بعض الناس يعتقد في صاحب القبر بأنه يكشف البلاء، أو ينصر على الأعداء، أو يستنزل غيث السماء، أو له القدرة على تفريج الكربات وقضاء الحاجات، أو أنه يشفع عند الله، كحال كثير من الذين يطوفون حول القبور، وينذرون ويذبحون لها، ويدعونها من دون الله، فالمؤلف رحمه الله يقول: رأيت الاعتقاد في القبور منتشراً في اليمن وفي الشام وفي مصر وفي نجد وفي تهامة وفي جميع ديار الإسلام التي تنتسب إلى الإسلام، ولم يزل هذا المنكر وظل باقياً، وفي بعض البلدان لم ينكر هذا المنكر أحد، تعين علي أن أقوم بإنكار هذا المنكر؛ ولهذا وجب عليه تأليف هذه الرسالة في بيان الحق ورد الباطل، بيان الحق وهو وجوب توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة وإنكار الشرك، ورد الباطل وهو الاعتقاد بالأموات، أو الأحياء ممن يدعي العلم بالمغيبات والمكاشفات وهم الصوفية الذين يدعون أنه تكشف عليهم الحجب، وأنهم يعلمون المغيبات، وهم في الحقيقة أنهم مشركون؛ لأن من ادعى علم الغيب فهو مشرك؛ لأن علم الغيب من خصائص الله، فمن ادعى علم الغيب فقد كفر، قال الله تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65].
وقال سبحانه: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن:26-27].
فالمؤلف رحمه الله يقول: الشرك منتشر في الأموات وفي الأحياء.
فالشرك الذي في الأموات يكون بالاعتقاد في القبور أي: بأصحاب القبور. كالاعتقاد بجواز أن تصرف لهم العبادة والدعاء، أو الذبح، أو النذر أو الطواف أو الركوع أو السجود بدعوى أنهم يشفعون عند الله ويقضون الحوائج.
وأما الشرك في الأحياء، فكما يعتقد في الصوفية الذين يدعون العلم بالمغيبات والمكاشفات، وهم يدعون أنهم أولياء وهم في الحقيقة من أهل الفجور، فهؤلاء الصوفية: رؤساؤهم وشيوخهم وشيوخ شيوخهم الذين يدعون العلم بالمغيبات والمكاشفات يقول: هم من أهل الفجور، لا يحضرون للمسلمين مسجداً، ولا يرى أحدهم لله راكعاً ولا ساجداً، ولا يعرف السنة ولا الكتاب، لا يهابون المعاد ولا الحساب، ولا يؤمنون بالبعث ولا بالحساب، فهم كفار ملاحدة.
قال المؤلف رحمه الله: لما وجدت المنكر منتشر في الأحياء وفي الأموات، في الأموات بالاعتقاد في أصحاب القبور وصرف العبادة لهم، وفي الأحياء كالاعتقاد في الصوفية أنهم أولياء، وأنهم تكشف لهم الحجب، وأنهم يعلمون المغيبات مع فجورهم:
(فوجب علي أن أنكر ما أوجب الله إنكاره، ولا أكون من الذين يكتمون ما أوجب الله إظهاره) يعني: لا أكون من الكاتمين للعلم، فقد توعد الله الكاتمين بوعيد شديد، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159].
فالمؤلف رحمه الله يقول: وجب علي إنكار المنكر، حتى لا أكون من الكاتمين للحق الذي أوجب الله إظهاره؛ فلهذا رأى المؤلف أنه واجب عليه أن يؤلف هذه الرسالة؛ تحذيراً من الشرك الواقع والمنتشر في البلدان الإسلامية من الاعتقاد في الأموات وفي الأحياء.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر