الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد: فلنقض ساعة مع حبيبنا صلى الله عليه وسلم، وقد انتهى بنا الدرس إلى غزوة أحد، وقد سبق أن عرفنا عوامل هذه الغزوة القاسية الشديدة، وحقاً إنها غزوة قاسية شديدة، ويكفي من قساوتها أن يستشهد فيها حمزة عم رسول صلى الله عليه وسلم، وأعظم من ذلك أن تكسر رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشج وجهه، ويصاب في أنفه، وكلها آلام شديدة، ولهذا كانت الغزوة غزوة قاسية شديدة.
وعرفنا عوامل هذه الغزوة وهي -أولاً-: أن قريشاً لما أصيبت بهزيمة مُرّة في غزوة بدر من السنة الثانية للهجرة، وبعد تلك النكبة أو المصيبة تهيأت لأن تنتقم وتثأر من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وقد طلب أبو سفيان -وكان رئيس قريش- من أهل العير الذين نجت عيرهم من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجمعوا تلك الأموال لتغزى بها المدينة النبوية، وكان هذا من أبرز العوامل التي اقتضت غزوة أحد.
وثاني العوامل: أن المؤمنين من المهاجرين والأنصار الذين لم يحضروا غزوة بدر ولا شهدوها ولا فازوا بما فيها، تمنوا على الله وسألوه أن يُوجد لهم غزاة أخرى يفرغون فيها ما في نفوسهم، ويقاتلون فيها في سبيل الله. هذان العاملان هما الباعثان على غزوة أحد.
وفي شوال من السنة الثالثة من الهجرة المباركة خرجت قريش برجالها ونسائها وأحابيشها، والأحابيش: هم الذين تعاهدوا عند جبل على أن يقاتلوا كل من يقاتلهم، فيقال للرجل منهم حبيش، وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خروج قريش، وأنها عازمة على قتاله وأصحابه من المؤمنين، فاستشار صلى الله عليه وسلم أصحابه في هل من اللائق أن نخرج إلى قريش خارج المدينة ونقاتلها هناك، أم أن يبقوا في المدينه ويقاتلونهم من داخلها، من على السطوح والمنازل، واختار صلى الله عليه وسلم قتال قريش من داخل المدينة، لكن الذين رغبوا في أن يستردوا ما فاتهم من غزوة بدر، قالوا: لا. نقاتلهم خارج المدينة، كيف نسمح لهم بالدخول؟
وعرف الرسول صلى الله عليه وسلم قصدهم ورغبتهم وما أرادوه، وكان لم يوح إليه شيء في هذا، وإنما اجتهاد منه فقط، وكان ذاك اليوم يوم جمعة، فدخل حجرته ولبس لأمته وخرج يرصف في الحديد، فما إن رآه أصحابه على تلك الحال حتى ندموا وتأسفوا، وقالوا: علنا ألزمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا وهو لا يريده! فتأسفوا وتحسروا وطلبوا منه الرجوع، لكنه صلى الله عليه وسلم واجههم بهذه الكلمات الخالدة وهي: ( ما ينبغي لنبي أن يضع لأمته بعد ما لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه. وقد دعوتكم إلى هذا فأبيتم إلا الخروج، فعليكم بتقوى الله، والصبر عند البأس إذا لقيتم العدو، وانظروا ماذا أمركم الله به فافعلوا ). وهذا يدل على صدق عزم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه شأنه شأن الأنبياء، إذا أعلنوا الحرب لا يطفئونها حتى يحكم الله بينهم وبين أعدائهم.
واستخلف الرسول صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه، وخرج في ألف مقاتل -كما سبق- وسلك بمن معه من المؤمنين على البدائع في حرة بني حارثة، ودليله في هذا أبو خيثمة أخو بني حارثة، ومروا بحائط لـمربع بن قيظي ، وكان منافقاً؛ فلما سمع حس رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين -أي حركة مشيهم- رفع حفنة من تراب، وقال: والله لو أعلم ألا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك!!. أعوذ بالله من هذا المنافق! متغيظ متألم كيف يتجاوز الرسول وأصحابه بستانه!!
فبدره سعد بن زيد بضربة شج بها رأسه، وابتدره أيضاً رجال ليقتلوه، فقال لهم رسول صلى الله عليه وسلم: ( دعوه لا تقتلوه؛ فإنه أعمى القلب والبصر ) أي: لو كان قلبه سليماً بصيراً ما كان يكفر وينافق ويعلن عن كفره، فالذي يحلف أنه لو أمكنه أن يضرب وجه رسول الله بالتراب لضربه ليس بمؤمن أبداً، بل من شر الكفار وأخبثهم، وتجلت هنا الرحمة المحمدية، فعندما ابتدره رجال ليقتلوه -وحق لهم ذلك- قال لهم النبي ما قال، حتى لا يقال أن محمداً قتل من سبه أو توعده، فحلم وصبر صلى الله عليه وسلم. هذا ما سبق أن قرأناه ..
ما وقع من أحداث أثناء مسيره صلى الله عليه وسلم إلى معركة أحد
بين معسكر التوحيد والشرك
قال: [واستعرض الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم جيشه] لما اصطفوا ووقفوا وجعلوا ظهورهم إلى الجبل جبل أحد، واستقبلوا المشركين بوجوههم استعرض صلى الله عليه وسلم جيشه- فرد
عبد الله بن عمر و
أسامة بن زيد و
زيد بن ثابت و
البراء بن عازب ] ردهم إلى المدينة قال: أنتم عودوا؛ لأنهم كانوا صغار السن لا يستطيعون الصمود في القتال [في فتيان لم يبلغوا سن التكليف] كانوا لم يبلغوا بعد الخامسة عشرة من أعمارهم، فليسوا أهلاً لأن يقاتلوا ويثبتوا [وأجاز
سمرة بن جندب و
رافع بن خديج وقد بلغا من العمر الخامسة عشرة، وكانا قويين] في بدنهما [وتعبأت قريش، وذلك صبيحة يوم السبت، وكان جيش قريش ثلاثة آلاف مقاتل بينهم مائتا فارس] وما في عسكر المؤمنين إلا فارسان، رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر [فجعلوا
خالد بن الوليد على ميمنة الخيل]
خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه كان كافراً يومها ليس بمؤمن، وهو الملقب: بسيف الله في الأرض، كان يضرب به المثل، وعند أوروبا أيضاً، وإن كان في آخرهم جحدوا [و
عكرمة بن أبي جهل على ميسرتها] كان التنظيم هكذا في ذلك الوقت: الميمنة والميسرة والمقدمة والمؤخرة.
وعكرمة أيضاً -رضي الله عنه- كان كافراً يومها، جاء ينتقم لأبيه، فـأبو جهل قتل في بدر، فدفع الحماس عكرمة -أيضاً- لينتقم، ولكن شاء الله أن يكون من أهل الجنة، وإلا كان يتغيظ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو تمكن منه لأكله.
وسبب إسلامه هو أنه لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً في السنة الثامنة من الهجرة، ومعه اثنا عشر ألف مقاتل، اجتمعت قريش في المسجد، ووقف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيفه وقال: ( ما تظنون يا معشر قريش! أني فاعل بكم، قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء!! )، فـعكرمة ما استطاع أن ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يبقى معه، فهرب مع مجموعة إلى ساحل البحر، فوجد سفينة أوشكت على أن تقلع فركبها؛ ليهرب من الحجاز إلى الحبشة أو إلى الهند، فلما مشت السفينة جاءت أمواج بحرية واضطربت السفينة، فقال لهم ربانها أو ملاحها: ادعوا الله، وسلوه الله أن ينقذكم من الغرق!!
فقال عكرمة : من هذا هربنا والآن نُطالب به؟ والله لتردني حتى أؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، فنحن ما هربنا إلا من كلمة التوحيد، والآن في عرض البحر تقول: لا تدعوا إلا الله وحده!!. ورده إلى الميناء وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مطأطئاً رأسه، ما استطاع أن يفتح عينيه، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأصبح الرسول أحب ما يملك بين يديه. هذا هو عكرمة رضي الله عنه الذي جاء في أحد منتقماً لأبيه.
قال: [وهنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يأخذ هذا السيف بحقه؟)، فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم] ما أعطاهم إياه [حتى قام إليه أبو دجانة سماك ابن خرشة أخو بني ساعدة، فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: (أن تضرب به العدو حتى ينحني)، فقال: أنا آخذه يا رسول الله بحقه، فأعطاه إياه، وكان أبو دجانة شجاعاً يختال عند الحرب، وله عصابة حمراء، فلفها على رأسه ومشى يختال بين الصفوف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين رآه يتبختر في مشيته] ويختال [بين الصفوف: (إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن)] ليظهر قوته وأنه لا يبالي بالشجعان والأبطال في زهو وكبرياء. فتلك المشية لا يحبها الله، وهي عنده مكروهة، إلا في مثل هذا الموطن.
[هذا هو الموقف في معسكر التوحيد قبل الهجوم، أما معسكر الشرك فإن أبا سفيان بعد ترتيب الصفوف قام -يخاطب بني عبد الدار- فقال: يا بني عبد الدار! قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم؛ إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه، فهتفوا به وتوعدوه، وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا؟ ستعلم غداً إذا التقينا كيف نصنع؟!
وهذا الذي أراده أبو سفيان بن حرب ] هيجهم من أجل أن يثير حفائظهم [وهو تحميسهم للقتال، واستعدادهم له وشدتهم فيه].
التحام الصفين
قال: [ولما التقى الجمعان وتقابل الرجال] المعسكران، جمع رسول الله، وجمع
أبي سفيان [قامت
هند امرأة
أبي سفيان ] فالسلطان معه امرأته أيضاً، وهي أشد منه، رضي الله عنهما ويا ليتنا مثلهما [تحرض على القتال في نسوة معها يضربن بالدف خلف الرجال؛ تحريضاً لهم على القتال، وهذه بعض الأبيات التي كن ينشدنها للتحريض:
ويها بني عبد الدار ويها حماة الأدبار
ضرباً بكل بتار نحن بنات طارق
إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق فراق غير وامق] يغنين ويدففن، يشجعن رجالهم، وهن عربيات قرشيات.
عودة إلى معسكر التوحيد والإيمان