أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان، جعلنا الله تعالى منهم ورضي عنا كما رضي عنهم.
وكان النداء الكريم الذي سمعناه أمس وفهمنا مراد الله تعالى منه هو قول الله عز وجل: بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
[آل عمران:200]. فتضمن النداء الكريم لعباد الله المؤمنين أربعة أوامر:
الأمر الأول: الأمر بالصبر، فقال: اصْبِرُوا
[آل عمران:200]، أي: احبسوا أنفسكم وهي كارهة على طاعة الله ورسوله، وعلى فعل الأمر وترك النهي، هذا هو الصبر، فهو حبس النفس على طاعة الله حتى لا تخرج عن طاعته، وعلى طاعة رسول الله حتى لا تهرب أو تشرد من طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: المصابرة، وهذا للمجاهدين، ولكن لنا النفس عدواً، ولنا الهوى والدنيا وأبو مرة إبليس عليه لعائن الله، فنحن في جهاد، وهم يصابرون ونحن نصابر، والغلبة للصابرين.
ثالثاً: الرباط، وهذا أيضاً للمجاهدين الذين يرابطون في الثغور الإسلامية، وفي حدود البلاد الإسلامية، وهذا الرباط أجره عظيم، ( رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه ).
وهناك رباط آخر سهل وميسر لمن يسره الله عليه، وهو: أن يدخل أحدنا بيت الله ليصلي صلاة العصر، ويحبس نفسه إلى أن يصلي صلاة المغرب، فهذا رباط، أو يدخل ليصلي المغرب، ويحبس نفسه إلى أن يصلي العشاء، وهذا رباط، وبين هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ألا أدلكم على ما يمحو الله تعالى به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: دلنا يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة إلى الصلاة، فذالكم الرباط، فذالكم الرباط، فذالكم الرباط ). وحقاً إنه رباط؛ لأنه في وجه العدو إبليس عليه لعائن الله، الذي لا تسكن نفسه ولا يهدأ باله ما دام عبد الله في بيت الله، ولا يستريح إلا إذا أخرجه من بيت الله ليسخره إن قدر عليه فيما هو معصية لله، فهذا النداء الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا
[آل عمران:200].
ولعلكم تذكرون مواطن الصبر، فهي ثلاثة:
الموطن الأول: حبسها على الطاعة وعدم مفارقتها.
الموطن الثاني: حبسها بعيدة عن معصية الله ورسوله، فلا تغشَ كبيرة من كبائر الذنوب.
والموطن الثالث: الصبر على ما يبتلى به العبد من مرض أو فقر أو غربة أو أي ألم يريد الله أن يطهره به، ويرفع درجته، فيصبر عبد الله وتصبر أمة الله، فلا جزع ولا سخط، ودائماً كلمة الحمد لله على لسانه. هذه مواطن الصبر.
قال: [ الآية (19) من سورة النساء
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا
[النساء:19].
الشرح ] ونشرح هذا النداء بتأنٍ عسى الله أن يفتح قلوبنا لفهمه ووعيه، وأن يهيئنا للعمل بما فيه.
والله تعالى نادى عباده المؤمنين بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
[النساء:19]. والسر في هذا النداء أن المؤمنين أحياء، يسمعون ويعون ويقدرون على النهوض، فيعطون أو يأخذون لكمال حياتهم، وسر حياتهم هو إيمانهم بالله ورسوله ودينه، فاستحقوا النداء لكمال حياتهم.
وسمي المنع عضلاً لأن المنع يكون بالعضلات، فقال: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ
[النساء:19]، أي: لا تمنعوهن بالقوة.
قال: [ ثم تبقى في بيته حتى تكمل عدتها أربعة أشهر وعشراً ] فترث الثمن أو الربع ولها الحق أن تبقى في المنزل أربعة أشهر وعشرة أيام، ولا حق لولده ولا لآخر أن يخرجها من المنزل ولو كان الإيجار أغلى ما يكون حتى تكمل عدتها أربعة أشهر وعشر ليال [ ثم تذهب حيث شاءت ] فلا سلطان للورثة عليها أبداً، والذي حرر المرأة هو سيدها الله مولاها وربها.
إذاً: الخلع شيء، وقضيتنا هذه شيء آخر، فهذه التي جاءت في هذا النداء، هي: أنه لا يحل لمؤمن أن يضايق امرأة مؤمنة ويشدد الخناق عليها حتى تفتدي هي منه بمال، فهذا لا يحل أبداً، وأما قضية الخلع فهي التي ما استراحت لهذا الرجل وتطلعت لآخر ومالت إلى سواه، وهو ما ظلمها ولا آذاها بأي أذى، وهي تريد الطلاق، فيجوز أن يطلقها بإذن الله، ولكن يأخذ عوضاً عن طلاقها، سواء مهرها أو زيادة على المهر، فليفهم السامعون والسامعات هذه التفرقة بين القضيتين، ففرق كبير بين أن يكون الرجل هو الذي كره المرأة، فيأخذ في مضايقتها وتشديد الخناق عليها حتى تصرخ وتقول: طلقني وأعطيك كذا، فهذا لا يجوز، وهذا هو الذي جاء في هذه الآية: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ
[النساء:19]. وأما قضية الخلع فهي أن المرأة تكره الرجل، وتريد آخر أجمل منه، أو أغنى منه أو أشرف، وهو ليس له ذنب، فيقول: فلانة! إذا أردت غيري وأردت الطلاق فادفعي كذا وأطلقك، حتى ولو كان زيادة عن المهر يجوز.
ونعيد تلاوة النداء، ونقف على ما فهمنا من هذا العلم الإلهي، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
[النساء:19]. ونقول: لبيك اللهم لبيك مر أو انه.
لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا
[النساء:19]. وقد كانوا يرثون النساء كرهاً، فقد كان الرجل إذا مات وترك زوجة يرثها أولاده، فمن شاء منهم أن يتزوجها تزوجها، وإن لم يتزوجها زوجها غيره وأخذ المهر، وإلا حبسها حتى تعطيه مالاً أخذته من والده، ثم يسرحها، فهذا النداء نسخ وأبطل هذه العادة الجاهلية، والله تعالى هو الذي نسخ هذا وأبطله، ولم يبق بين المؤمنين أبداً.
وقوله: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
[النساء:19]. هذه قضية أخرى، وهي: أن الرجل قد يكره امرأته لدمامتها أو لسوء خلقها أو لمعنى آخر من المعاني التي من شأنها أن يكره الرجل المرأة، فإن كرهها بالفعل وهي ما آذته ولا ظلمته ولا قصرت في حقه وإنما هو فقط كرهها وما أصبح يحبها، فالمفروض أن يطلقها ويمتعها ويعطيها حقوقها وتلتحق بأهلها، فإن سول له الشيطان أن يضايقها ويشدد الخناق عليها حتى تفدي نفسها منه فهذا لا يحل. فليفهم المستمعون والمستمعات هذا، فإذا كره الرجل من امرأته خلقها فليصبر لعل الله أن يستبدل هذه الكراهة بالحب، وإن قال: أنا لا أريدها؛ فهي دميمة وسيئة فليطلقها، فإن قال: أنا أنفقت عليها المال فسأضيق عليها وأخنقها وأضربها وأسبها حتى تصرخ وتقول: طلقني وخذ مليون ريال مثلاً فهذا لا يجوز، قال تعالى:
وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ
[النساء:19].
ثم جاءت قضية أخرى وهي قوله: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
[النساء:19]. فإذا هي آذته أو ظلمته أو ارتكبت ما لا يجوز أن يرتكب ففي هذه الحال له الحق أن يضايقها حتى تفدي نفسها، كما قال تعالى:
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
[النساء:19]، كأن تتطلع إلى الرجال، أو تتصل بفلان وفلان، ففي هذه الحال يضايقها وله الحق؛ لأنها مذنبة وآثمة، وقد ارتكبت أعظم ذنب؛ إذ التفتت عن زوجها، ففي هذه الحال له أن يضايقها حتى يتسلم منها ما دفع من مهر.