إسلام ويب

تفسير سورة البقرة (95)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ينادي الله عز وجل عباده المؤمنين آمراً إياهم بالدخول في الإسلام دخولاً كلياً شاملاً، بحيث لا يتخيرون من أحكامه وشرائعه ولا يتشهون فيها، فما وافق أهواءهم ومصالحهم قبلوه وعملوا به، وما لم يوافق ردوه أو تركوه وأهملوه، ثم نهاهم سبحانه عن اتباع الشيطان في تحسين القبيح وتزيين المنكر، إذ هو الذي زين لبعض مؤمني أهل الكتاب تعظيم السبت وتحريم أكل لحم الإبل بحجة أن هذا ما كان عليه صلحاء بني إسرائيل، حيث أنساهم أن دين الإسلام جاء مهيمناً على كل ما قبله من أديان.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله القرآن العظيم، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم لنا هذا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.

    وها نحن مع قول ربنا جل ذكره وعظم سلطانه من سورة البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [البقرة:208-210].

    هذه الآيات عظيمة الشأن أيها المستمعون والمستمعات، فهيا نكرر قراءتها ونتدبرها.

    يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:208] لبيك اللهم لبيك، نادانا بعنوان الإيمان لأننا أحياء؛ إذ المؤمنون أحياء والكافرون أموات، فالله لا ينادي الأموات ولكن ينادي الأحياء، الحمد لله أن كنا أهلاً لأن ينادينا الله الذي خلق كل شيء وملك كل شيء وبيده كل شيء، ذاك الذي يحيي ويميت ويعز ويذل ويرفع ويضع ويعطي ويمنع، ذاك الذي أمره أن يقول للشيء إذا أراده: (كن) فيكون.

    الله الذي خلقنا ووهبنا عقولنا وأوجد الحياة كلها من أجلنا، وأوجد دار السلام لنا وأوجد دار البوار لأعدائنا، هذا الله ينادينا، فكيف حال قلوبنا؟

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] لا يتخلف منكم أحد، لهذا نادانا، نادانا لأن يأمرنا بأن ندخل في الإسلام نساءً ورجالاً أحرارً وعبيداً، لم؟ إذ لا كمال ولا سعادة إلا بالإسلام.

    ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] لا يتخلف رجل ولا امرأة ولا شعب ولا قبيلة، هذا سبيل نجاتكم وسعادتكم، فالحمد لله، فأعظم برحمة ربنا وحلمه! ينادينا ليأمرنا بما يسعدنا وينجينا من الشقاء والخسران الأبدي: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208].

    ذكر المعنيين في الآية الكريمة وبيان مناسبة نزولها

    ومن معاني هذه الكلمة -والقرآن حمال الوجوه كما علمنا عن علي بن أبي طالب -، من معانيها: ادخلوا في الإسلام كلكم لا يتخلف رجل ولا امرأة من الذين آمنوا.

    والمعنى اللطيف الآخر: طبقوا كل ما يأمر الله به وينهى عنه بفعل المأمور وترك المنهي، ولا ترغبوا عن شيء وتعرضوا عن آخر سواء كان أمراً أو نهياً.

    ويوضح هذا المعنى أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه، ذلكم الحبر اليهودي الإسرائيلي الذي كان أول من أسلم من أهل الكتاب، ما إن دخل الرسول المدينة حتى جاء يمتحنه فطرح عليه ثلاثة أسئلة، فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم أن جبريل قد أتاه بها الآن قبل مجيئك إلي، فما إن أجابه على الثلاثة حتى قال: أشهد أنك رسول الله، وكان بحراً في العلم.

    ومضت أيام وزين له الشيطان أن يعظم السبت كما كان يعظمه في شريعة بني إسرائيل، وقال: وما الفرق؟ تعظيم السبت طاعة لله عز وجل؛ إذ فرض هذا على عباده، فلنضف إلى تعظيم الجمعة تعظيم السبت! وسمع ذلك منه الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] لا يبقى شيء من الإسلام خارجاً عنكم أو أنتم خارجون عنه، لا تدخل في الإسلام ببعضه، تدخل في الإسلام وتبقى متعلقاً بتعظيم السبت الذي كان شريعة مضت ونسخها الله عز وجل.

    كما أن بعضهم أيضاً ممن أسلموا استمروا على عدم أكل لحم الإبل؛ لأنها محرمة على بني إسرائيل في الكتاب، فقالوا: نبقى على تحريمها أيضاً، فلا نأكلها، فكانت هذه الآية رادعة لهم عن هذه الخواطر والهواجس التي يمليها الشيطان، فلا يصح إسلامك يا عبد الله حتى تسلم قلبك ووجهك لله، حتى لا يبقى لك اختيار مع الله.

    والله عز وجل قد نسخ تلك الشريعة بكاملها فلم تتشبث ببعض ما فيها وإن كنت برغبة صادقة تريد أن تزيد حسناتك وأن يعظم أجرك؟ فكفوا عن ذلك وانتهوا.

    معنى قوله تعالى: (ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين)

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:208] إذ هو الذي مشى أمامهم ووسوس لهم ومشوا وراءه حتى كاد يرديهم ويهلكهم، حتى كاد يوقعهم في الكفر والعياذ بالله، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:208] وعلل ذلك بقوله: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208] .

    أيعقل أن رجلاً يعرف أن آخر عدو له وفي يده سكين ليذبحه ويمشي وراءه؟ أمعقول هذا؟ مستحيل، عدوك الذي يريد أن يقتلك والخنجر أو السكين في يده أو البندقية ويقول: تعال إلى ما وراء الجبل، فهل هناك عاقل يمشي وراءه؟ فالشيطان عدو الآدميين عداوة أصيلة باقية لا تزول ما بقيت الحياة، لا يريد لهم سعادة ولا كمالاً أبداً، لا يريد لهم إلا الشقاء والخسران في الدنيا والآخرة معاً، فكيف -إذاً- نستجيب لندائه ونمشي وراءه خطوة بخطوة؟!

    من مشى وراءه فوالله! لن ينتهي به إلا إلى فضيحة وإلى جريمة من جرائم الذنوب، فلهذا جاء نداء آخر لعامة المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور:21]، فكل فاحشة ارتكبت الشيطان هو الذي دعا إليها، وكل منكر فضيع أو غير فضيع ما فعله الآدمي إلا بدعوة الشيطان له وتحسينه له وتزيينه؛ لأنه عدو هذه مهمته، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208] بين العداوة ظاهرها، ما ارتكبت جريمة على الأرض إلا وهو الداعي إليها والباعث عليها.

    ما يريد الآدمي أن يكمل ويسعد بحجة أنه شقي بسببه، وذلك يعود إلى أنه لما أمر بالسجود لآدم رفض وتعالى وتكبر فأبلسه الله وطرده، فقال: هذا الذي أبلست بسببه وطردت إلى النار وأبعدت من الجنة؛ إذاً: لأعملن طول حياتي على إفساده وإضلاله.

    وقد قالها واضحة: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، فانظر إلى عبد الله بن سلام المبشر بالجنة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه ووسوس وقال له: ما هناك شيء، فالسبت عظمه الله في التوراة فلنعظمه أيضاً، وهذا اللحم حرمه الله علينا في التوراة، إذاً: لا نأكله، وليس فيه ضرر، لكن فيه حنين وشوق إلى ما نسخه الله من الشريعة السابقة، وما أراد الله هذا.

    فكانت هذه الآيات تتناول هذه الحادثة بالذات، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لو أن مؤمناً في بريطانيا أو إيطاليا أو في اليابان أو الصين وقال: أنا سأدخل في الإسلام إلا أنني لا أستطيع ولا أقدر على ترك الخمر، هل يقبل إسلامه؟ ما يقبل، لو قال: أنا أسلم وسأفعل كل شيء إلا أنني ما أصلي صلاة الفجر، فهل يقبل إسلامه؟

    وهكذا لو رفض مسألة واحدة من واجبات الإسلام ما صح إسلامه حتى يذعن ظاهراً وباطناً ويقبل ذلك، ونقرأ عليه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208].

    وقوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:208] هذا لفظ أيضاً عام.

    يا معشر المستمعين والمستمعات! إن الشيطان يحسن لنا القبائح ويزين الفضائح، فلا نستجب له، لنطرده بكلمة (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) لم؟ لأنه عدو لنا بين العداوة ظاهرها أصيل فيها، فكيف نتبعه؟

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088533587

    عدد مرات الحفظ

    777176360