إسلام ويب

تفسير سورة النحل (2)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ما زال الله عز وجل يمتن على عباده بما أنعم عليهم من مخلوقاته التي سخرها لهم؛ كالخيل والبغال والحمير التي يركبونها، ويتزينون بها، وهذا الماء بصفاته العجيبة ومنافعه الغزيرة، فهو شراب للظمآن، وسبب في حصول المرعى للحيوان، لأن به يكون النبات بجميع أصنافه، وغريب وأنواعه، وكلها آيات تشهد أن الله هو الخالق وهو المستحق للعبادة، فأين أهل العقول من التفكر في هذه النعم، أين هم من التأمل في بديع خلق الليل والنهار والشمس والقمر، وما فيها من فوائد ودلائل تشهد بأن كل ما في الكون مخلوق لله، ولأجل هذا الإنسان حتى يعمر هذه الأرض بطاعة الله وشكره.
    الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. آمين.

    وها نحن مع سورة النحل، ومع هذه الآيات المباركات الكريمات:

    قال تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [النحل:8-13].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8]، هذا كلام من ؟

    كلام الله، هو القائل ممتناً علينا متفضلاً علينا بنعمه وآلائه، يذكرنا بمظاهر قدرته وعلمه ورحمته وحكمته، هذا الذي ينبغي أن نحبه، هذا الذي ينبغي أن نرهبه، هذا الذي ينبغي أن نحيا ونموت من أجله، هذا خالقنا، هذا رازقنا، هذا مولانا ومالك أمرنا، كيف نعرض عن ذكره وشكره ونلتفت إلى الدنيا وأهوائها وشهواتها؟

    يقول ممتناً علينا: وَالْخَيْلَ [النحل:8]، أي: وخلق الخيل، وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ [النحل:8]، هذه ثلاثة أشياء: الخيل معروفة، والبغال كذلك عند أكثر الناس، والبغل: مابين الحمار والفرس، وهو مولد من الفرس، وأبوه الذي تولد منه الحمار.

    وقد تكرر قولنا: إن هذه الديار -ديار الحجاز- التي أعدها الله لخاتم أنبيائه ما عرف فيها البغال أبداً ولا وجد بين خيلها ولا حميرها، حتى أهدى (المقوقس) ملك مصر -لما وصله كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- رسول الله جارية هي مارية القبطية عليها السلام، وأهداه بغلة تسمى دلدل، بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    والقرآن ليس خاصاً بأهل الحجاز ولا الجزيرة، كتاب الله للناس أجمعين، فهو يمتن علينا بنعمة إيجاد هذه المراكب، هل نحن أوجدناها؟ صنعناها من طين أو من حجارة، أو من خشب أو حطب؟ من خلق الخيل والبغال والحمير؟

    هل الأموات أو الأشجار والأصنام التي تعبد من دونه؟ الجواب: لا، لا، والله لا خالق لها إلا الله.

    وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ [النحل:8]، والحمير: جمع، واحده حمار، وعلة خلقه تعالى لها من أجل أن نركبها، قال: لِتَرْكَبُوهَا [النحل:8]، ومضت قرون عديدة على البشرية ومراكبها فقط في البحر السفن، وفي البر الخيل والبغال والحمير آلاف السنين، إذاً: قوله: لِتَرْكَبُوهَا [النحل:8]، هذه منته تعالى ونعمته علينا.

    خلاف العلماء في حكم أكل لحم الخيل

    وهنا مسألة فقهية:

    ذهب الإمام مالك والإمام أبو حنيفة رحمهما الله: إلى أن الخيل لا تؤكل، واستدلا بهذه الآية: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا [النحل:8]، ما قال: لتأكلوها كما تقدم في الأنعام: الإبل والبقر والغنم، وهذه الآية لفظها عام، فتحتاج إلى مبين يبين لنا مراد الله منها.

    وما لنا أبداً من يتلقى العلم عن الله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو الذي قال تعالى فيه: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، ومن هنا فإنه لما كانت غزوة خيبر وذبح رجاله صلى الله عليه وسلم الحمير فنهاهم عنها وما أكلوها أذن لهم في أكل لحوم الخيل فأكلوها؛ وقد أخرج أصحاب الصحاح وعلى رأسهم مسلم : أن فرساً في المدينة جزرت وأكلت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ومن ثم فالجمهور على أن لحم الخيل جائز أكله، والسر في عدم اشتهار ذلك وانتشاره أن الخيل هي مراكبهم وهي عددهم في الجهاد، فكيف يذبح فرسه ويأكلها؟ ما تطيب نفسه، الآن هل يستطيع صاحب سيارة أن يجعلها مزبلة يرمي فيها الأوساخ؟ ما هذا بمعقول أبداً، سيارته يركب عليها، فهل يجعلها عند الباب ويضع فيها النفايات والأوساخ؟ ما هو بعاقل أبداً، فمن ثم ما دامت هي عدتهم في الجهاد وركوبهم في الحروب، ثم هي زينتهم، فلو ترى رجلاً على فرسه تتصور الجمال كيف يلوح ويظهر لك، فمن هنا قل أكلها بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فأكلها جائز لمن تهيأت له ورأى أن يأكلها، أما هذه الآية الكريمة فلفظها عام، تحتاج إلى مخصص يخصصها بأنها لا تؤكل ولكن تركب، فلما خصصها رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: آمنا بالله وبرسوله، وقلنا: بجواز أكل لحوم الخيل إن هي نحرت كما نحرت الإبل أو ذبحت كما تذبح البقر.

    علة خلق الخيل والبغال والحمير

    قوله: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا [النحل:8]، هذه لام التعليل، فلو قلت: يا رب! لما خلقت الخيل والبغال والحمير؟ لكان الجواب: من أجل أن تركبوها، إذاً: فاحمدوني واشكروني ولا تكفروني، ما خلقتها إلا لأجلكم لا لأجل غيركم أبداً، بل لكم أنتم لعلة وهي الركوب؛ إذ المسافات البعيدة تعجزون عن الوصول إليها، والأثقال الثقيلة تعجزون عن حملها، فأوجدت لكم هذه من أجل أن تركبوا ثم تعبدوا الله وتحمدوه وتشكروه.

    وَزِينَةً [النحل:8]، وزينة وجمالاً، ولاحظ الخيل، فهذه الحيوانات هي جمال وزينة.

    معنى قوله تعالى: (ويخلق ما لا تعلمون)

    ثم قال تعالى: وَيَخْلُقُ [النحل:8] بصيغة المضارع، وَيَخْلُقُ [النحل:8]، أي: في المستقبل، فبعدما خلق في الماضي والحال الخيل والبغال والحمير لنركبها أخبر أنه سيخلق ما لا نعلم، والله ما كانوا يعلمون عن شيء اسمه قطار ينقل البضائع والرجال في الطرقات، ولا كانوا يعرفون أبداً سيارة من هذه السيارات، ولا تخطر ببالهم طيارة تطير في السماء وتحمل الركاب، ولكن وعد الله فأنجز وعده، قال: وَيَخْلُقُ [النحل:8]، والله لقد خلقت يا رب -لك الحمد ولك المنة- ما لم نكن نعلم، هذه الآية وحدها من تأملها يضطر اضطراراً إلى أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يفكر فقط بشرط أن يكون ذا عقل وذا فكر.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088543663

    عدد مرات الحفظ

    777231736