إسلام ويب

تفسير سورة النحل (25)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يبين الله عز وجل لعباده أن ما أحله لهم لابد وأن يكون طيباً، ثم أرشد سبحانه إلى كيفية التعامل مع هذه المنن، وأن الواجب عليهم شكرها وتوظيفها في ما يرضاه، والاستعانة بها على عبادة الله، ثم يثني سبحانه القول بذكر ما حرمه على عباده، مع بيان أنه أجاز لهم تلك المحرمات رحمة بهم وذلك بشروط وضوابط لابد من النظر إليها، وفي ختام هذا السياق أشار الحق سبحانه إلى قضية التشريع، وأن الأصل في التشريع هو الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وتوعد كل من تجرأ على الله فنازعه في التشريع بالعقوبة في الدنيا، وذلك بالتشديد عليه، وفي الآخرة بالعذاب الأليم والخزي العظيم.
    الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. آمين.

    وها نحن مع سورة النحل، ومع هذه الآيات المباركات الكريمات:

    قال تعالى: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل:114-118].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! الدارسين لكتاب الله في بيت الله، الذين تحفهم الملائكة رضا عنهم وفرحاً بهم! من القائل: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا [النحل:114]؟

    الجواب: الله. فمن هو الله؟ الجواب: خالقنا وخالق العوالم كلها، موجدنا وموجد كل موجود في السماوات والأرضين، اسمه الأعظم: الله، وله تسعة وتسعون اسماً، مائة إلا اسم، الله هو القائل: فَكُلُوا [النحل:114]، وهذا أمر منه، أباح لنا أن نأكل من الطيبات، فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [النحل:114] الذي رزقكه الله: هو ما أصبح في ملكك وفي يديك وفي حكمك، أما ما رزق الله به إبراهيم أو موسى أو عيسى أو فلان فلا يحل لك أن تأخذ إلا برضاه وطمأنينة نفسه مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [النحل:114]، فمن رزقه الله طعاماً أو شراباً أو لحماً فليأكل باسم الله عز وجل، وإذا فرغ يقول: الحمد لله، يقول: باسم الله بمعنى: بإذنه تعالى لي في أكلي من هذا الطعام آكل، فاذكروا كلمة: (باسم الله) أي: باسم الله نأكل، ولو ما أذن لنا لا نأكل، والله العظيم.

    فكلوا مما رزقناكم حال كونه حلالاً طيباً، أما حلال خبيث فلا يؤكل، والحرام وإن كان طيباً لا يؤكل أيضاً.

    فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [النحل:114] هذا امتنان بنعمه تعالى علينا -معاشر المؤمنين والمؤمنات- حتى نأكل باسمه تعالى من الحلال الطيب ونحمده على ذلك ونشكره.

    فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [النحل:114] هو الرزاق ذو القوة المتين، ما بيدك ولا في جيبك إلا بإذن الله وقدرته ومنته وعطائه، فإذا كان حلالاً طيباً فكل، وإذا كان حراماً فلا تأكل وإن كان طيباً، وإن كان خبيثاً لا تأكله وإن كان حلالاً حتى لا تمرض ولا تتأذى.

    والأمر الثاني: وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ [النحل:114] واشكروا يا أيها الآكلون ويا أيتها الآكلات، إذا فرغت من الأكل فاشكر الله، قل: الحمد لله، وكررها: الحمد لله.

    ما رفعت مائدة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من بين يديه إلا وقال: ( الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنىً عنه ربنا ) ما رفعت المائدة والسفرة إلا وقال هذا صلى الله عليه وسلم، والغافلون يبتدئون الأكل بدون إذن الله وكأنهم الواجدون الخالقون.

    باسم الله، لولا أنه أذن لك ما صح لك أن تأكل، باسم الله آكل، فإذا فرغت فاحمد المطعم لك الذي أطعمك وسقاك بكلمة: الحمد لله، وإن قلت: حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كان أجرك أعظم، فهذا اعتراف منك بالنعمة وبفضل المنعم، فلهذا قال تعالى: وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [النحل:114] إن كنتم تعبدون الله وحده فاشكروا نعمه عليكم.

    ذكر ما يكون به شكر النعم

    هنا أكرر القول: بأن شكر النعمة يكون:

    أولاً: بالاعتراف بها في الباطن، في القلب، بأنها نعمة الله لا نعمة غيره، وأنه المنعم بها لا سواه كيفما كان نوع هذه النعمة. هذا الاعتراف بالقلب.

    ثانياً: تترجم ذلك الاعتراف بالقلب بلسانك فتقول: الحمد لله، الحمد لله.

    ثالثاً: تصرف تلك النعمة فيما يحبه لا في ما يغضب ويسخط منه سبحانه.

    وهيا بنا نعدد النعم: أنعم الله عليك بنعمة بصرك، نعمة عظيمة هذه أم لا؟

    الحمد لله، وأنت تعرف أنه ما أعطاك البصر إلا الله، والله ما وهبه لك إلا الله، اعرف هذا بقلبك وقل: الحمد لله، واصرف هذه النعمة فيما يحب، فلا تنظر بها إلى المحرمات والممنوعات، بل غض بصرك فتكون قد شكرت هذه النعمة، أما أن تتابع النساء من وراء ومن أمام وتنظر إليهن ببصرك فغش هذا وخداع منك، وحرام عليك، والله ما أعطاك النعمة لهذه أبداً، كيف وقد قال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30].

    لطيفة ظريفة: والله لو آمن المسلمون في ديارهم حق الإيمان والتزموا بألا ينظروا إلى نساء المؤمنات لحجبوا نساءهم، ولأمروا كل امرأة أن تلزم بيتها، ولكن قصروا حتى خرجن وعصين الله جميعاً.

    عرفتم هذه اللطيفة أم لا؟

    أقول: أما أمرنا الله بغض أبصارنا أم لا؟

    إذاً: هل نستطيع أن نعمل على أبصارنا شيئاً؟ لا نستطيع؛ لأننا كل ما نلتفت نرى امرأة فكيف نغض أبصارنا؟ لو كانت مرة في اليوم تمر المرأة على بابها أو على غرفتها غض بصرك، لكن معك في السوق والمتجر وفي المسجد وفي كل مكان فكيف تغض بصرك؟

    ليس هناك حيلة إلا الحجاب، فالمرأة في بيتها ملكة.. سلطانة في بيتها، لا هم لها خارج البيت أبداً، فزوجها هو القيم عليها القائم بشئونها، وحسبها أنها تعبد الله في بيتها وتربي أولادها وتقدم الخير والإحسان لزوجها، والزوج يشتغل في النهار والليل خارج البيت.

    هكذا كانت هذه الديار على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأبنائهم وأحفادهم.

    ولو يلتزم أهل قرية بهذا الحكم: أنه لا يحل لأحد أن ينظر إلى امرأة لوجدوا أنفسهم مضطرين إلى أن يحجبوا نساءهم من الشوارع والمحلات حتى لا يجتمعوا بالنساء ويتصلوا بهن، لكن ما داموا لا يبالون فينظر أحدهم إلى رأس المرأة ورجليها وهي تمشي وكذا ولا يبالي، ولو عرف أنه مسئول فسيغمض عينيه.

    كيف يغمض عينيه والنساء من كل جانب؟ أنا الآن أغمض عيني والله العظيم، كيف أغمض عيني إلا إذا طأطأت رأسي هكذا، من كثرة النساء.

    لم يخرجن؟ قولوا لم؟ الجواب: يخرجن للعمل. والفحول ماذا يعملون؟ لم خلقهم الله؟

    الرجال خلقهم للعمل والكدح خارج البيت، والمرأة مخلوقة للبيت، لتربي الأبناء والبنات وتحسن إلى الزوج وتكرم ضيفه وما إلى ذلك من المهمات العظيمة.

    ونعود إلى شكر النعمة:

    أولاً: الاعتراف بالنعمة لله بالقلب، ثم ترجمة ذلك باللسان: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، ثم بعد ذلك هذه النعمة اصرفها في ما أذن الله لك فيه.. بصرك انظر الطريق وانظر حاجتك وكتابك وانظر السماء والكون لتعتبر بآيات الله، ولا تنظر إلى ما حرم الله.

    لسانك نعمة، نعم والله نعمة من أجل النعم، فلم تكن مثل الأبكم في شقاء، فهذه النعمة احمد الله عليها بعد الاعتراف بها واصرفها في ما أذن لك، اسأل بها عن الحق والخير، وقل بها المعروف ولا تقل بها الباطل ولا الشر ولا الكذب ولا ولا، لأنها نعمة فلا تصرفها في ما لم يأذن الله لك به.

    وأخيراً: الدينار والدرهم نعمة فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن ينفق ديناراً في معصية الله وإلا كان كافراً بالنعمة غير مؤمن بها، ويا ويله!

    أمثلة توضيحية لشكر النعم

    ومن باب التيسير والتفهيم نقول: الذي يعطي خمسة ريالات لحلاق حتى يحلق وجهه كاملاً ليصبح كالمرأة والله ما يجوز؛ لأنه أنفق المال في الحرام، ولو يحسن لحيته ويصلحها لا بأس، أما أن يحلق شاربه ووجهه بعشرة ريالات فلا يجوز، وقد أنفق المال في معصية الله.

    والذي يشتري كاميرا ليصور ما لا يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: ماذا في ذلك؟ حلال، التصوير حلال، والله إنه لآثم ومذنب، وإذا لم يتداركه الله بالتوبة يهلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( لعن الله المصورين )، وقال: ( إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون ).

    وهذا أحد الأحبة زار مكة في هذه الأيام معتمراً في رمضان يخبرني أمس في البيت: بأنه خرج إلى عرفات فوجد جبل الرحمة قد وضعوا له درج ومهدوا له طرقاً والجمال فوق الجبل عشرة.. عشرين، والمصورون يصورون.

    يتحدون رسول الله؟! الرسول يدخل بيته الطاهر فيجد فيه خرقة على نافذة فيها صورة منسوجة بالنسيج وليست صورة كهذه الصور كأنها ناطقة فيقول: ( يا عائشة ! أزيلي عني قرامكِ، يا عائشة ! إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة، وهي تقول: أتوب إلى الله ورسوله ).

    ماذا صنعت؟ يا عائشة ! أزيلي عنا قرامكِ، فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة.

    وإذا خرجت الملائكة من البيوت فما الذي يحل محلها سوى الشياطين؟!

    وإذا حلت الشياطين في البيت فهي التي تؤجج الفتن في النفس وتحمل على الزنا والربا والكذب والخيانة وترك الصلاة. هذه مهمتها.

    كيف هذا؟! بدل أن نعلم الناس أنه لا يحل التصوير وإذا بنا نعلم الناس كيف يصورون من أجل الدينار والدرهم ونصور لهم على جبل عرفة؟!

    ما سمعت بهذا حتى أمس! كيف يتم هذا؟ كيف يكون؟

    آه! إنه الجهل، نعم والله الجهل يا أبا عبد العزيز ، الجهل.

    من نعلم؟ أين الذين يتعلمون؟ أين أهل المدينة الذين هم مليون نسمة؟ انظر حلقتك كم واحد فيها؟ ما تجد خمسين واحداً.

    أين المتعلمون؟ لا يريدون أن يتعلموا حتى لا يعملوا، نعم ورب الكعبة. قالوا: ما نصنع بالعلم ونحن ما نعمل فلهذا لا نحضر الدرس.

    فتيا إبليسية! ما دمنا لن نعمل فالأحسن أننا لا نسمع، فرضوا بالجهل والإثم معاً.

    والشاهد عندنا وأعيد القول: البرانيط التي على رءوس أبنائكم، بكينا في العام الأول والثاني وقلنا: الآن والله شبيبتنا يقودون السيارة والبرانيط على رءوسهم كاليهود والنصارى!

    أف لنا! ما نحن بأهل لهذه النعمة أبداً، سيسلبها الرحمن جل جلاله!

    في مدينة الرسول.. في مكة.. في بلد القرآن، في دولة الإسلام تحت راية لا إله إلا الله يتبجح الشاب بالبرنيطة على رأسه مكتوب عليها كلمة كفر!

    مد الناس أعناقهم وسكتوا والتجار الفجار هم الذين يستوردونها ويبيعونها ويهدونها هدايا مستجيبين لصيحة اليهود فيهم حتى تهلك هذه الأمة وتهبط.

    ماذا نصنع؟ قلوب ميتة كأنما تساق إلى الهاوية، مدفوعون إلى أن تزول هذه النعمة ونهلك معها.

    قوله: وَاشْكُرُوا [النحل:114] أي: كلوا واشربوا واشكروا، أما إذا كنتم تأكلون وتشربون وتكفرون فانتظروا ساعة سلب النعمة، والله على ذلك قدير، وكم وكم من نِعَمٍ زالت.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088547057

    عدد مرات الحفظ

    777253294