إسلام ويب

تفسير سورة النحل (3)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ما زال السياق القرآني في ذكر امتنان الله عز وجل على عباده بما أنعم عليهم، كتسخيره سبحانه لهذه البحار وما تحويه من مصالح للعباد كاللحوم الطرية والزينة وابتغاء الرزق بالتجارة، وكذلك هذه الجبال العظيمة وكيف أنها قرار للأرض، وكما امتن سبحانه بالمياه المالحة امتن كذلك بالمياه العذبة كالأنهار، وذكَّر أيضاً بهذه النجوم التي جعلها دليل هداية للسالك، خصوصاً في عتمة الليل الحالك، فهذه النعم كلها تقرر أن خالقها هو المستحق للعبادة، وتوجب على المخلوق شكر هذه النعم التي لا تحصى ولا تعد، وإلا فإن الله غني عن شكر الشاكرين، وإنما يدينهم بأعمالهم يوم الدين، فهو العالم لإسرارهم وإعلانهم.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. آمين.

    وها نحن مع سورة النحل، ومع هذه الآيات المباركات الكريمات:

    وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النحل:14-19].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!

    هذه الآيات القرآنية تعرض علينا آيات الله الكونية؛ لترشدنا إلى أن نقول في صدق: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فقوله جل ذكره: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ [النحل:14]، من هو الذي ذلل البحر وهونه فأصبحنا ندخله ونجتازه ونركب فيه؟ من هو سوى الله؟ لا آباؤنا ولا أمهاتنا.

    سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [النحل:14]، وهو لحم السمك، لحم الحوت على اختلافه وتنوعه، من خلق الحوت؟ من أوجده في البحر؟ لماذا وجد؟

    والجواب: الله أوجده لك يا ابن آدم من أجل أن تعبد الله وحده.

    وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [النحل:14]، وهو السمك، وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [النحل:14]، من اللآلئ والجواهر، وهذا من البحر الملح لا الحلو.

    وَتَرَى الْفُلْكَ [النحل:14] يا عبد الله لما تنظر إليه، مَوَاخِرَ فِيهِ [النحل:14] مواخر في البحر تمخر الماء وتشقه من الشرق إلى الغرب، من يسر هذا وسهله؟

    من مكننا من هذا سوى الله عز وجل؟ هل الأصنام أو الأحجار؟ اللات أو العزى؟ لا، وإنما هو الله جل جلاله وعظم سلطانه.

    وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [النحل:14]، أي: من فضل الله عز وجل بالتجارة التي تحمل من مكان إلى مكان بواسطة هذه السفن في هذه البحار، وذلك كله من أجل أن نشكر الله تعالى.

    أي: أعطانا الله هذا الذي أعطانا، ويسر هذا الذي يسر لنا من أجل أن يسمع ذكرنا له وشكرنا له بطاعته وعبادته: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:14]؛ ليعدنا بذلك لشكره، فمن شكر زاده الله عز وجل، ورضي عنه وأنعم عليه، ومن كفر نعمة الله وجحدها أذله وأهانه وسخط عليه.

    مذهب الإمام مالك فيما يجري فيه الربا من اللحوم

    وهنا لطيفة فقهية ذكرها القرطبي في التفسير، لا بأس بمعرفتها:

    يقول: إن مالكًا رحمه الله يرى أن لحوم ذوات الأربع كالإبل والبقر والغنم والغزلان والظباء جنس، ولحوم ما في ذوات الريش من الطيور على اختلافها وتنوعها جنس، ولحوم ما في الماء من أنواع الحيتان جنس.

    يقول: إن هذه ثلاثة أجناس، فلا يجوز أن تشتري لحم معز بلحم ضأن، ولا لحم بعير بلحم بقر إلا إذا كان يداً بيد وكان متساوياً في الكمية.

    ويقول: ويجوز أن تشتري لحم الطير بلحم الغنم أو الماعز؛ لاختلاف النوع، هذا جنس وهذا جنس : ( فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم )، أما في الجنس الواحد فلا يجوز أبداً البيع إلا إذا كان يداً بيد والكمية والمقدار واحدًا، كما تشتري فضة بفضة، فلا بد أن تكون الكمية واحدة وأن يكون يدًا بيد، والذهب بالذهب كذلك، فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم.

    أقول: الإمام مالك -وخالفه في هذا أبو حنيفة رحمهما الله تعالى- يقول: ذوات الأربع -كالإبل والبقر والغنم- يجوز أن تشتري بها لحم الطير متفاضلاً ونسيئة، لكن بيع هذه اللحوم من ذوات الأربع بعضها ببعض لا يجوز إلا يداً بيد والكمية والمقدار واحد.

    وكذلك لحوم الطير، والطير أنواع متعددة، فلا تستطيع أن تشتري لحم حمامة بلحم عقاب وهما مختلفان في الكمية أو ليس يداً بيد.

    الحيتان كذلك على اختلافها وتنوعها لا يجوز أن تشتري حوتاً بحوت إلى أجل أو مع زيادة في الكمية والمقدار، هذه مسألة فقهية استخرجوها من هذه الآية الكريمة.

    المراد بالحلية وما يحل للرجال والنساء منها

    قوله: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [النحل:14]، والحلية: ما يتحلى به.

    وهذه الحلية للنساء ليست للرجال، اللآلئ والجواهر كالذهب للنساء لا للرجال، وليس للرجل أن يتحلى إلا بخاتم الفضة فقط؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صنع له خاتم من فضة مكتوب عليه: محمد رسول الله )، واتخذه خاتمًا يختم به الصكوك.

    وتذكرون الصاحب الذي: ( رأى النبي صلى الله عليه وسلم في أصبعه خاتم ذهب فنزعه ورمى به في الأرض، فقيل له: خذ خاتمك، قال: لا آخذه وقد رماه رسول الله صلى الله عليه وسلم )، وعليه فلا يحل للرجل أن يتختم بخاتم الذهب، ولكن يحل له خاتم الفضة، أما النساء فيتحلين بما شاء الله أن يتحلين به من أنواع الذهب والفضة والجواهر واللآلئ، هذه الحلية التي يتحلى بها الإنسان وهي حلية النساء.

    قوله: وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ [النحل:14]، تمخر ماء البحر، وتجتازه من إقليم إلى إقليم، تحمل البضائع والسلع.

    لماذا هذا؟ قال: لتبتغوا من فضل الله عليكم، أرزاقكم وطعامكم وكسوتكم.

    حقيقة الشكر

    قوله: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:14]، الشكر -معشر المستمعين-: أن تعترف في نفسك بالنعمة وأن الله واهبها، ولكيفية الشكر مراتب:

    أولاً: أن تعترف في نفسك أن هذه النعمة من الله عز وجل هو منعمها عليك.

    ثانياً: أن تحمده بلسانك، فتقول: الحمد لله، وكلمة (الحمد لله) رأس الشكر، إذا قلت في أي نعمة: الحمد لله، فقولك: الحمد لله أعظم من تلك النعمة التي تراها عظيمة.

    ثالثاً: أن تصرف النعمة فيما يرضي الله تعالى، أن تصرفها فيما يحب الله عز وجل، هذا هو الشكر للنعمة.

    مثلاً: أنعم الله عليكم بنعمة السمع، قل: الحمد لله، أرأيت لو كنت أصم لا تسمع، من يهبك السمع؟ الحمد لله.. الحمد لله.

    إذاً: اعترف بأن هذه النعمة من الله، هو الذي وهبك سمعك، واحمده بلسانك ولا تسمع بها وتستعملها فيما لا يرضي الله تعالى، إذا كره الله صوتاً من الأصوات فلا تسمعه أبداً، وأصوات الغيبة والنميمة والمزامير والأغاني من العواهر والنساء يكرهها الله عز وجل، فلا تستخدم هذه النعمة إلا فيما من أجله أنعم الله عليك.

    إذاً: نعمة البصر نعمة، احمد الله عز وجل واعترف بأن الله هو الذي وهبك هذا البصر، ولا تنظر أبداً حيث لا يريد الله أن تنظر، كالنظر إلى النساء الأجنبيات: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]، فشكر الله يقتضي ألا تنظر بهذا البصر إلى شيء حرمه الله عليك.

    اللسان نعمة أم لا؟ من أجل النعم، أرأيت الأبكم لا يستطيع أن يفصح ولا أن يعرف عن شيء، هذه النعمة اعترف بأنها من الله، هو واهبها ومعطيها، يجب أن تشكره عليها، قل: الحمد لله، ولا تنطق بكلمة سوء يكرهها الله عز وجل ولا يريدها.

    والدينار والدرهم كذلك، من وهبك هذا الدينار والدرهم؟ أليس الله؟ بلى. إذاً: فاحمده على ذلك، أكثر من الحمد لله، ولا تنفقه أبداً في معصية الله، بأن تشتري به ما حرم الله عز وجل، وبهذا تكون من الشاكرين: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:14].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088484409

    عدد مرات الحفظ

    776948535