إسلام ويب

تفسير سورة النحل (4)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يبين الله ضلال المشركين، ويقررهم سبحانه على سذاجة عقولهم؛ لأن العاقل المهتدي مستحيل أن يسوي بين من استقل بالخلق ومن هو مخلوق لا قدرة له على الخلق، لأنه أصلاً ميت لا حياة له، فإنما هو حجر أو خشب لا يدري متى يبعثه الله ليجعله حطباً لجهنم مع من عبده واستغاث به، فهذه حجة ظاهرة تثبت أن الإله واحد لا شريك له، ولكن الحامل لتلك القلوب المنكرة هو الكبر والعياذ بالله، ومع ذلك فالله يعلمه كما يعلم ظاهرهم، وسيجازيهم على شركهم وصدهم عن سبيله ليروا عاقبة ضلالهم وإضلالهم.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. آمين.

    وها نحن مع سورة النحل، ومع هذه الآيات المباركات الكريمات:

    قال تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:20-25].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم أن السور المكية تعالج العقيدة في أعظم أركانها: التوحيد والنبوة والبعث الآخر، وهذا الذي تسمعونه من الآيات. ‏

    تعدد القراءات في قوله تعالى: (يدعون)

    قول ربنا جل ذكره: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [النحل:20]، قرأ عاصم ويعقوب : (يَدْعُونَ)، وقرأ عامة القراء (تدعون)؛ لأن السياق دال على (تدعون)، إذ الكلام مع مشركي قريش فيما سبق، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النحل:19]، (والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون)، والقراءتان سبعيتان صحيحتان.

    ضلال المشركين في دعائهم غير الله تعالى

    قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [النحل:20]، الذين يدعون من دون الله هم المشركون، هم الكافرون، الذين ما آمنوا بالتوحيد الإلهي، ولا آمنوا بنبوة رسول الله، ولا آمنوا بالبعث الآخر والحياة الثانية، يخبر تعالى عنهم بما تسمعون: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النحل:20].

    تلك الأصنام والتماثيل التي يدعونها، ودعاؤها هو عبادتها، إذ الدعاء هو العبادة ومخها، هؤلاء الذين يدعونهم لا يخلقون شيئاً، والله ولا ذبابة، فكيف إذاً يدعونهم؟ يطمعون فيهم ويطرحون بين أيدهم ويسألونهم حاجاتهم، وهم عاجزون عن خلق ذرة، أين يذهب بعقول بني الإنسان؟

    لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا [النحل:20]، صغر أو كبر، قل أو كثر، وَهُمْ [النحل:20] أنفسهم يُخْلَقُونَ [النحل:20]، أي: مخلوقون. فالآية تنفر التنفير الكامل من الإقبال على غير الله في طلب حاجة، وأن من له حاجة لا يطلبها إلا من الله، أما مخلوقاته فإنها لا تملك شيئاً.

    والدعاء يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة )، لأن العبادة: ذل وخوف وخشوع وخضوع وطمع ورغبة، تتجلى هذه كلها في الدعاء، إذا رفع المرء يديه يدعو تقول عنه:

    أولاً: هذا فقير محتاج، ولولا أنه افتقر واحتاج ما رفع كفيه.

    ثانياً: الذي رفع يديه إليه غني، عليم، حكيم، قادر على أن يعطيه.

    ثالثاً: حين يناديه: يا رب! يدل على أنه موقن أن الله يسمع صوته ويعرف حاجته وفقره، ويقدر على أن يعطيه، يدل هذا على أنه ما رأى غير الله أبداً يقضي حاجته، وإلا لقال هكذا بيديه أو هكذا إلى اليمين أو الشمال، لكن هكذا فقط يرفعها إلى العلو، فلهذا كان الدعاء مخ العبادة، العبادة إذا سلب منها الدعاء ماتت، والدعاء هو العبادة.

    فها هو ذا تعالى ينفرهم من دعاء غيره ويصرفهم عنه بالدليل فيقول: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [النحل:20]، كلمة: (من دون اللَّه) يدخل فيها كل مدعو، لا الملائكة، ولا الأنبياء، ولا الرسل، ولا الأصنام، ولا الأحجار، ولا الأولياء، ولا كل مدعو غير الله، إذ حقاً وصدقاً -والله العظيم- لا يسمع دعاءك ويعرف حاجتك ويقضيها لك إلا الله، فلا تلتفت إلى غير الله، وضل الذين يدعون الأصنام والأحجار والقبور، المسيحيون الآن ماذا نقول عنهم؟

    ما زالوا كالبهائم يعلقون الصلبان في أعناقهم ويدعونها ويحلفون بها ويستغيثون بها، أين العقول؟ هل يعرفون عن عيسى ما نعرف نحن؟ عيسى بن مريم عليه السلام من ديار القدس، كان بكلمة التكوين (كن) فكان، عبد الله ورسوله، كيف يعبد؟ كيف نرفع صوتنا: يا روح الله! وندعوه ونستغيث به؟

    المهم: أن الشياطين هي التي تقلب هذه القلوب وتتحكم فيها -والعياذ بالله تعالى- فتصرفها عن الحق.

    ضعف المدعوين من دون الله وعجزهم عن الخلق والإيجاد

    قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا [النحل:20]، كلمة (شَيْئًا) نكرة في سياق النفي تدل على كل شيء، والله ما يخلقون ولو بعوضة، وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النحل:20]، هم أنفسهم مخلوقون لله والله خالقهم، كيف ندعوهم؟ مخلوق يدعو مخلوقًا، أيجوز هذا؟ المخلوق يدعو الخالق نعم، أما مخلوق يدعو مخلوقًا فهذا خطأ؛ ولهذا ندد العلماء بإخواننا الذين يدعون القبور ويعكفون حولها، ويستغيثون بها، وينادونها: يا سيدي فلان! يا مولاي فلان، يا كذا .. يا كذا، وهذا أمر واضح، ولكن الله أنقذ -والحمد لله- ملايين المؤمنين من هذه الفتنة، مضت فترة من الزمن في قرنين أو ثلاثة ما يعرفون إلا الأولياء فقط، حاجتك تطلبها من الولي، ويشدون إليهم الرحال والله العظيم، يركب سيارته ويركب دابته إلى القبر الفلاني والضريح الفلاني ليسأل حاجاته، الحمد لله الذي أنقذ هذه الأمة بعد ضلالها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088548388

    عدد مرات الحفظ

    777264171