إسلام ويب

تفسير سورة آل عمران (3)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أنزل الله عز وجل القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وتحدى الإنس والجن أن يأتوا بمثله أو بسورة أو آية، وهم إلى اليوم عاجزون عن ذلك، وسيستمر عجزهم إلى قيام الساعة، فالقرآن كلام الله منه المحكم ومنه المتشابه، والمؤمنون القانتون يتبعون المحكم منه ويتركون أمر المتشابة لله، وأما الذين زاغت قلوبهم فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة لعباد الله المؤمنين.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده )، فهنيئاً لكم معشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!

    وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث من سورة آل عمران عليهم السلام، وتلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ * رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:7-9].

    وقبل أن نشرع في تدارس هذه الآيات أعيد إلى أذهان المستمعين والمستمعات أن نيفاً وثمانين آية من هذه السورة نزل في وفد نجران، نجران تقع في جنوب المملكة، وكان فيها نصارى، وجاءت النصرانية من الشام وتوغلت هناك وظهرت، فلما رغبوا في محاجتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعثوا وفداً منهم مكوناًمن ستين فارساً، وجادلوا وهزموا شر هزيمة!

    لقد دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة فرغبوا، فما إن شاهدوا رسول الله وقد خرج كأنه البدر وإلى جنبه الحسن والحسين ووراءه علي وفاطمة -وهؤلاء أهل البيت- حتى انهاروا وقال رئيسهم: لو باهلتم هذا لم تبق فيكم عين تطرف، ورضوا بالجزية يدفعونها وعادوا إلى ديارهم.

    إذاً: قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:7] تقرير لنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقرير لألوهية الله العليم الحكيم الحي القيوم.

    عظمة القرآن الكريم وتحدي الله للإنس والجن أن يأتوا بسورة من مثله

    قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:7] هو لا غيره ( الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ) الفخم، العظيم، الجليل. إي والله، الله لا أفخم من القرآن ولا أجل ولا أعظم منه، ومن أراد أن يقول: كيف؟ فقد تحدى الله به الإنس والجن إلى اليوم على أن يأتوا بمثله فلم يأتوا بمثله، وتحدى العرب، وهم أرباب الفصاحة والبيان؛ على أن يأتوا بعشر سور من مثله فوالله ما استطاعوا، ثم تحداهم بعد فترة بسورة واحدة فما استطاعوا، وأعلمهم أنهم لن يستطيعوا، فأيأسهم، ولنقرأ لذلك قوله تعالى في أوائل سورة البقرة: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23-24].

    هل فهمتم: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، هذه اللام الزمخشرية. ومن باب البيان والشرح والتفسير للأبناء والإخوان على عادتنا نقول: لن يستطيع أحد أن يقول: وَلَنْ تَفْعَلُوا إلا الله، فهو الذي يملك القلوب والوجوه، وبيده زمام كل الحياة.

    ونقول: في اليابان الصناعة تفوقت، فهل تستطيع أن تنتج آلة من الآلات الصناعية وتقول: أتحدى البشرية لمدة خمسين سنة أن يوجدوا مثلها؟ هل يمكن أن يقول أهل اليابان هذا ؟ لا يمكن. لما ما قالوا وتبجحوا فهل تستطيع أمريكا أو ألمانيا أو البلاشفة الحمر من الشيوعية أن يتحدوا العالم في إحداث صناعة من الصناعات؟ لا يستطيعون؛ لأنهم لا يدرون متى ينتج غيرهم ذلك ويتحداهم، أما الله جل جلاله وعظم سلطانه وهو الحي القيوم فقال لهم: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24].

    وهل فعلوا؟ مرت ألف وأربعمائة سنة وخمسة عشر عاماً واستطاع العرب أن يأتوا بسورة كسور القرآن؟ كتبوا وألفوا عشرات بل مئات المصنفات، فأين هي من كلام الله رب العالمين؟! لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].

    معنى الآيات المحكمات

    قال تعالى: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ [آل عمران:7]. أي: من هذا الكتاب العظيم الجليل آيات محكمات، لا خلل فيها أبداً، ولا يتطرق إليها الضعف ولا النقص ولا الخلل بحال، فهي محكمة متقنة، ظاهرة المعنى، بينة الدلالة، ليس فيها أبداً من الشبه ما يصرف الناس عنها، محكمة، متقنة.

    ومعنى محكمة بالمعنى الذي يراد هنا: أنها ظاهرة المعنى بينة الدلالة لا تلتبس على ذي عقل أو ذي فهم من البشر.

    إذاً: هُنَّ [آل عمران:7]، أي: تلك الآيات المحكمات، أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7]، تعرفون الأم أم لا؟ أم الأولاد من بنين وبنات منها انحدروا ووجدوا، فهذه الآيات المحكمات كل الأحكام الشرعية في بيان العقيدة، وفي بيان الحلال، الحرم، والآداب، والأخلاق، والسياسية، والمال، والاقتصاد، والحرب والسلم، كلها متولدة عنها، كما أن الفاتحة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] هي أيضاً أم الكتاب، قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87]، والسبع المثاني: هي الآيات السبع، سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أم القرآن، وأم الكتاب، ومعلوم عندنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فلا صلاة له )، وقوله: ( من لم يقرأ بأم الكتاب فصلاته خداج خداج خداج ). لم؟ لأن الفاتحة اشتملت على العقائد، أسماء الله وصفاته، وربوبيته وألوهيته، اشتملت على البعث والدار الآخرة في كلمة يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، واشتملت على أنواع العبادات والقرب على تنوعها واختلافها، كما اشتملت على قصص وأحداث العالم إذا قال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، فهي حقاً أم الكتاب وفاتحة الكتاب، وأم القرآن، والسبع المثاني.

    معنى الآيات المتشابهات

    قال الله: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]: ( هُنَّ ). أي: تلك الآيات المحكمة، (أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ) أي: وآيات أخر مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]. ومعنى التشابه فيها: أنه لا يظهر للسامع أو للقارئ معناها؛ لوجود التشابه؛ من باب الامتحان والاختبار والابتلاء، ومن باب أن نعرف أننا عجزة ضعفاء، فلو لا أن الله أقوانا على فهم الكتاب والله ما فهمناه! ولولا أنه علمنا والله ما علمنا، فمن نحن؟

    آيات متشابهة يعجز العقل البشري عن إدراك معناها، وفهم مراد الله تعالى منها، ولو كان العرب مثلنا لهان الأمر، ولكنهم كانوا أرباب البيان واللسان، ويقفون عند هذه الآيات المتشابهة فيطأطئون رءوسهم.

    ومن الآيات المتشابهات: الحروف المقطعة في فواتح السور: الم [آل عمران:1]؟ الله أعلم بمراده، طسم [الشعراء:1]، الله أعلم بمراده، كهيعص [مريم:1]، الله أعلم بمراده به، فهذا من المتشابه، وأهل العلم والبصيرة وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، فالمحكم والمتشابه أنزلهما الله في كتابه على رسوله، والكل من عند الله، فكون عقولنا قصرت وما استطاعت أن تدرك فهذا ليس عيباً في الكلام الإلهي، بل هذا آية عجزنا وضعفنا عن فهم كلام ربنا عز وجل.

    يأجوج ومأجوج كيف تتصور أولئك القوم؟ كيف تدرك ماهيتهم؟ الله يخبرنا فيقول: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ [الأنبياء:96-97].. الآيات.

    من يأجوج ومأجوج؟ كيف؟ سلم الأمر لله، فهذه الآية ليست كآية: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43].

    نزول عيسى عليه السلام: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا [الزخرف:61]، هذا عيسى بن مريم، علامة على قرب الساعة. كيف ينزل؟ كيف أخذ؟ كيف رفع؟ قل: آمنت بالله وسلمت.

    ما معنى قوله تعالى في عيسى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171] ؟ قل: آمنت بالله. وهذا شأن أهل العلم، قال تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، وقال تعالى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7]، اللهم اجعلنا منهم.

    التحذير من الزيغ واتباع المتشابه من الآيات

    قال الله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7]، أتدرون ما الزيغ هذا؟! يقال: زاغ يزيغ الثعلب؛ إذا مال، وزاغ البصر؛ إذا مال، فالزيغ: هو الميل، والقلب إذا زاغ مال عن الحق.

    إذاً: الزيغ: هو الميل، ميل إلى الشهوات والأهواء، وميل إلى الدنيا وما تحويه من هذه الملذات الفانية، فأصحاب القلوب المائلة الزائغة عن الحق يبحثون عن الآيات المتشابهة، ويأخذون في تأويلها؛ لإبطال الحق، ولتشتيت وتفريق جماعة المؤمنين، وقد حذر منهم أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فقال: ( إذا رأيتم الذين يبتغون المتشابه فأولئك الذين سماهم الله؛ فحذروهم! ).

    وهنا أذكر صورة توضح لكم أكثر: النصارى لما قيل لهم: كيف تؤلهون الله وهو الإله الواحد الأحد؟ قالوا: في كتابكم في القرآن يقول عز وجل: فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا [التحريم:12]، وهذا الضمير يعود إلى متعدد ولا يعود إلى واحد.

    وقالوا: أيضاً قوله تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ [النحل:40]، قالوا: هذه النون نون الجماعة. هذا المتمسك عندهم، وهو والله لأوهى من خيط العنكبوت.

    فقلنا لهم: هذه لغة القرآن، لغة العرب، إذا كان المتكلم ذا جناب عظيم وسلطان قاهر وقدرة باهرة يتكلم بصيغة الجمع، وأنتم رؤساءكم إذا تكلموا يتكلمون كذلك: نحن فعلنا، نحن نفعل، نحن الذي قررنا هذا، هذا نظام دولتنا، فهذه شبهة لا تزن جناح بعوضة، فالذي قرره وحدانيته وقال: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19]، هو الذي تكلم بهذا الكلام؛ ليعلمنا بعظمته وجلاله، وأن الملكوت كله بيده، يحيي ويميت، يعطي ويمنع، يرفع ويضع، يبسط ويقبض، فهو يتكلم بصفة التعظيم، فالذين يريدون أن يتمسكوا بالباطل؛ ليستمروا على باطلهم وعلى أوساخهم وفهومهم السقيمة هم الذين يبحثون عن كذا آية من المتشابهات ويتشبثون بها، مع أن المتشابهات آيات جزئية ولا تمثل واحد إلى مائة من الكتاب الكريم، فأكثر الآيات من المحكم.

    إذاً: إذا رأيتم الذين يتتبعون هذا المتشابه فاحذروهم، فإنهم الذين سماهم الله، فقال عنهم: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7]، أي: من القرآن ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ [آل عمران:7]، وطلباً لها.

    يفتنون من؟ يفتنون المسلمين عن دينهم، ويبعدونهم عن رحمة ربهم؛ ليصبحوا أمثالهم هابطين لاصقين بالأرض وأوساخ البشرية، ويؤلهون الأصنام والأحجار ويعلقون الصلبان.

    الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7]، القرآن كله دار على هذه المحكمات؛ إذ فيها بيان الحلال والحرام، بيان ما ينجي ويسعد، بيان ما يشقي ويؤذي، بيان ما يعز ويذل وَأُخَرُ [آل عمران:7]، آيات أخرى متشابهات، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7] والزيغ: الميل من الحق إلى الباطل، ومن المعروف إلى المنكر، ومن الخير إلى الشر؛ اتباعاً للشهوات والأهواء، نسأل الله أن يطهر قلوبنا.

    ويروى: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أيام الردة التي أعلنها العرب على عهده كان يصلي المغرب بقصار المفصل، وفي الركعة الأخيرة يقرأ بهذه الآية: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].

    معنى قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله)

    قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، أي: لا يعلم ما يئول إليه الأمر إلا الله عز وجل، ومن عقيدة أهل الإيمان: أن الشقي منا كالسعيد قد مضى حكم الله فيه، قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، فهل يستطيع أحدنا أن يقول: فلان من أهل الجنة، أو فلان من أهل النار؟

    الجواب: لا. من يستطيع؟! مؤمنون تمام الإيمان بأن السعيد من كتبت سعادته، والشقي من كتبت شقاوته في كتاب المقادير، ومع هذا لا نستطيع أن نقول: فلان من أهل النار أو فلان من أهل الجنة، إذ هذا متشابه علينا لا يعلمه إلا الله، وكل ما في الأمر: إذا بشر الله على لسان رسوله بأن فلاناً من أهل الجنة يجب أن نرددها وأن نقول وراءه وهي الحق، ثم إلى جانب ذلك علمنا وهو من علم الله، أن من كتب الله سعادته وإن زلت قدمه، وإن زاغ قلبه فإن أمره سيئول ويرجع إلى أن يستقيم قلبه ويوحد ربه ويعبده بعبادة تدخله الجنة، وأن من كتب الله شقاوته فسوف يعمل ولابد وأن يأتي يوم يزيغ قلبه، ويكفر بربه، ويخرج عن طاعته، ليدخل النار بموجب عمله؛ لأن الله حكم وهو العدل، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].

    يا معشر المستمعين والمستمعات! هذا حكم الله الصادر علينا، هل بلغكم؟ هذا حكم الله قد صدر، وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]، أن من زكى نفسه بالإيمان وصالح الأعمال أفلح، فاز، نجا من النار ودخل الجنة، وأن من دسى نفسه وخبثها ولوثها ووضع عليها أطنان الذنوب والآثام فتدست فهو من أهل الخسران، أهل الخيبة والعياذ بالله، خاب من دخول الجنة واستقر في عالم الشقاء النار، ونحن نعرف هذا ولكن لا نجزم أبداً بأن فلان من أهل الجنة أو فلان من أهل النار؛ لقوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، جل جلاله، وعظم سلطانه، أي: ما يئول إليه الأمر، أو ما هو المراد لله منه، هو وحده، لا ننسى ما قال أهل العلم عند الآيات المتشابهة كفواتح السور: الله أعلم بمراده به. تسلم، لأنك لا تستطيع أن تفهم، عاجز، ولولا أن الله علمنا والله ما علمنا، فاستأثر تعالى بهذه الآيات المتشابهة امتحاناً لنا: أنسلم له أو لا؟ فمن سلم سلم، ومن آمن أمن، ومن حاول أن يتعالى ويقول ما ليس له علم تعرض لغضب الله وسخطه.

    أوصاف الراسخين في العلم

    أهل العلم بالقراءات والتفسير قالوا: إن الوقف هنا وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] لابد منه، ويضعون عليها حرف الميم، وهو يعني الوقف اللازم.

    قالوا: ثم نستأنف كلاماً آخر ونقول: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، فلا تعطف والراسخون فتقول: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم)، إياك! بل قف عند قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، واستأنف كلاماً جديداً، فقل: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران:7].

    من هم الراسخون في العلم؟ رسخ الشيء يرسخ رسوخاً إذا ثبت، إذا تقرر، ما بقي له أن يتزحزح أو يتبدل أو يتغير أبداً، هذا هو الرسوخ.

    وورد عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الراسخ بالعلم فقال: ( الراسخ في العلم من برت يمينه ). ما معنى: (برت يمينه)؟ أي: لا يحلف بالكذب، فيمينه دائماً صادقة، ( وصدق لسانه )، فلا يقول غير الصدق والحق أبداً ( واستقام قلبه )، فلا يميل يميناً ولا شمالاً. هذا هو الراسخ في العلم، ولن نكون راسخين في العلم، إذا توفرت لنا هذه:

    أولاً: أن تكون أيماننا بارة، صادقة، ولا يقوى على هذا إلا من علم.

    ثانياً: أن تكون ألسنتا صادقة لا تقول الكذب أبداً؛ وذلك للعلم الراسخ في نفوسنا.

    ثالثاً: أن تكون قلوبنا مستقيمة، تنهج صراط الله المستقيم، لا تميل إلى يهودية ولا نصرانية، ولا شرك ولا باطل. هؤلاء هم الراسخون في العلم، أصحاب الأيمان البارة، والألسن الصادقة، والقلوب المستقيمة.

    ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أنا من الراسخين في العلم.

    إي والله! إنه لمن الراسخين في العلم، حبر هذه الأمة من الراسخين في العلم، ولكن لا يعلم المتشابه ولا يقول فيه كذا وكذا، فالراسخون في العلم موقفهم دائماً وأبداً: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]. (كُلٌّ)، أي: من المتشابه والمحكم، (مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا): هو الذي أنزله على رسولنا في كتابه القرآن العظيم المحفوظ في صدورنا والمكتوب في سطورنا، وهذا هو المنهج الرباني السليم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088521774

    عدد مرات الحفظ

    777103545