إسلام ويب

تفسير سورة آل عمران (33)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن أعظم نعمة ينعم بها الله على عباده أن يهيئهم للإيمان والتوبة من العصيان، ومن أعظم الخذلان أن يكفر المرء بعد إيمان، وأن يعود إلى الظلمات بعد أن أخرجه الله منها، ومن كان هذا حاله فلن ينفعه شيء في الآخرة، ولن ينجيه من عذاب الله شيء، حتى لوى افتدى نفسه بملء الأرض ذهباً، وحتى لو افتدى نفسه بالقريب والبعيد.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الثلاثاء من يوم الأربعاء، ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).

    اللهم حقق لنا رجاءنا فيك يا رب العالمين.

    وبشرى أخرى نزفها لكم يا أيها المؤمنون! يقول صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ) فهنيئاً لكم.

    وثالثة: إذا صلى العبد الفريضة وجلس في مصلاه يذكر الله حتى صلى الفريضة الثانية غفر له ما تقدم من ذنبه، فالحمد لله الذي أعطانا ما حرمه غيرنا، والآن عشرات الآلاف من أبنائنا وإخواننا يتواجدون هنا وهناك وهم محرومون من هذه الجلسة، لا لشيء، فقط ما أقبلوا على الله لا أقل ولا أكثر، فالحمد لله! وهذه هبته وعطيته، فلا يحمد على الحقيقة إلا هو.

    وها نحن مع هذه الآيات الثلاث.

    تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:90-92].

    أهمية الإسراع في التوبة وعدم الاستمرار على المعاصي

    معشر المستمعين والمستمعات! انتبهوا لهذا الخبر، يقول الله العليم الحكيم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ [آل عمران:90] بالنسبة إلى أهل الإيمان من أمثالكم -أكثر الله منكم- أن عبد الله أو أمته إذا تاب قبلت توبته ما لم يغرغر، فإذا حشرجت النفس في الصدر وأصبح غر لا يفصح عما يقول ثَمَّ أغلق باب التوبة عنه فلا يفتح، أما قبل أن يغرغر فإن توبته مقبولة ولو عصى الله في اليوم سبعين مرة وتاب عند كل معصية باب الله مفتوح.

    ولكن مع هذا تنبيه .. تحذير .. إعلام: احذر يا عبد الله واحذر يا أمة الله! من الاستمرار على المعصية، فإنه يأتي وقت يحال بينك وبين التوبة، فلا تستطيعها، ولا تقدر عليها، أما الله تعالى فهو مستعد لأن يقبلها إن جاءت، وإذا حال بينك وبينها حوائل فماذا تصنع؟!

    فليحذر عبد الله أو أمته من الاستمرار على المعصية.

    يا عبد الله! يا أمة الله! إذا زلت القدم وأصر عبد الله أو أمته على المعصية فليعجل التوبة وليسرع بها؛ خشية أن يحال بينه وبينها، واسمعوا قول الله عز وجل في هذا الشأن، فقد جاء من سورة النساء المدنية: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء:17-18].

    ومن هنا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته سبيل نجاتها، فقال وقوله مستقى من كلام ربه، قال: ( عجلوا بالتوبة ولا تؤخروها )، فمن أذنب ذنباً فليسارع بالتوبة ولا يتماطل أو يتسوف، فأسرع يا عبد الله خشية أن يصبح العبد على حال لا يستطيع معها أن يتوب؛ لأنها سنة الله في الناس. فالذي تعود أكل الحلال .. تعود أن يتناول تمرة عند يقظته من نومه يصبح في حال لا يستطيع أن يصبر على ذلك، فقد تعود أن يأكل نوعاً من الطعام يصبح لا يرغب إلا فيه، وهذه أمور مشاهدة، كالذي يعتاد الكذب ويستمر عليه يصعب عليه أن يتوب منه، والذي يعتاد أية معصية ويستمر معها ولا يسارع إلى التوبة ولا يتوب منها ففي أغلب الأحوال أنه يموت عليها، ولهذا أجمع أهل هذه الملة على وجوب التوبة وعدم تأخيرها.

    قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي: واجبة على الله واجب تفضل به وامتن به علينا، وإلا الله من يوجب عليه؟ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ وهو كل سيئة من شأنها أن تسوء إلى النفس البشرية فتلوثها وتدسيها يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17] أما عمداً وتحدياً وعدم مبالاة بالله فمثل هذا لا يتوب الله عليه.

    ومن هذه الجهالات أن يقول: سأتوب إن شاء الله، أو إذا زال كذا، أو إذا حصل كذا، أو يقول: لو كان هذا حرام فلم فعله الشيخ الفلاني؟ أو لو كان هذا مما يكرهه الله فلم يفعله فلان وفلان؟ هذه أنواع الجهالات.

    بخلاف من يتحدى الله فيقول: أعرف ربي أنه حرم وأنا سآتيه، فمثل هذا لا يتاب عليه.

    ومن يقول: هذا ليس بحرام، ولا يفهم أنه حرام، فهذا نوع من الجهالة، وبمجرد أن يقبل على الله فإن الله يقبله ويتوب عليه، وله التوبة.

    ولاحظ هذا القيد فقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ أولاً: بِجَهَالَةٍ وثانياً: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17] والقرب هنا نسبي، فليس مسافة كيلو أو ميل أو عشرة، ولا مسافة يوم ولا عام ولا عشرين عاماً، فمن هنا كانت الحيطة تتطلب أنك بمجرد ما تفعل المعصية أن تقول: أستغفر الله وأتوب إليه.

    وإليكم صورة أمام أعينكم: في سوق التمَّارين كانت هناك امرأة مؤمنة زوجها في غزوة من غزوات المؤمنين، فاضطرت إلى أن تأتي إلى السوق لتشتري تمراً لأولادها إذ هذا غذاؤهم، فوقفت على بائع التمر، وأخرجت يدها بيضاء كفلقة القمر؛ لأنها مستورة، فأخرجت النقود، فما إن رآها الفحل التمار حتى أعماه الشيطان فأكب على ذلك الكبش يقبله، ثم قالت: أما تتقي الله؟ فأفاق والله من ذلك السوق وهو يجري ينتف شعر لحيته، ويحثو التراب على رأسه، وعاد يصرخ ويبكي إلى هذا المسجد .. إلى الروضة وهو في حالة لا تتصورها، فسأل أحد الصحابة فرده، وانتظر حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب بالمسلمين وشكا إليه وهو يبكي، فقال: ( صليت معنا هذه الصلاة؟ قال: نعم. قال: إن الله يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] فمسح دموعه ). والله يقول: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن ). هذه هي التوبة.

    أما أن يستمر الليالي الطوال والأيام والأعوام على معصية من كبائر الذنوب فأنى له أن يتوب، ولكن باب الله واسع؛ فكم من إنسان لازم معصية عشر سنين وأقدره الله على التوبة وأعانه عليها فتاب، وكم من إنسان هلك في أسبوعه الأول، ومن هنا الحيطة تقتضي بمجرد ما أشعر أنني أخطأت تقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله وأتوب إليه.

    عدم قبول توبة من ازداد كفراً بعد إيمان

    قال تعالى في الآية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ [آل عمران:90] فكانوا مؤمنين، فلما بعث فيهم عيسى عليه السلام كفروا بعيسى وادعوا أنه ساحر وأنه ابن زنا وأنه.. وأنه..؛ محافظة على أموالهم ومناصبهم وعلى رئاستهم بين إخوانهم، والعوام يتبعون العلماء.

    ثم قال: ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا [آل عمران:90] أي: فزادوا كفرهم الأول كفرهم بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وهؤلاء أخبر تعالى أنه لن يقبل توبتهم، لأنهم ليسوا بأهل لأن يتوبوا، ولو تابوا فلن تقبل توبتهم ولن يتوبوا، فإنهم كفروا على علم في المرة الأولى، ثم كفروا في المرة الثانية، وكفرهم ليس مجرد تكذيب، بل يضاف إليه الكيد والمكر والقتل وسفك الدماء وإثارة النفوس و.. و.. وجرائم أخرى فعلوها.

    وقد حاولوا قتل النبي ثلاث مرات، ومات والله متأثراً بالسم الذي سقته الخيبرية.

    وهذا النوع يقول فيه تعالى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ [آل عمران:90] والضلال بعيد.

    وهذه مسألة أخرى نضرب لها مثلاً: فهناك فرق بين الضلال القريب والضلال البعيد، والآية فيها ضلال بعيد، فلو أراد أخونا أن يمشي إلى مكة الليلة، فاتجه شمالاً، ومشى طول الليل فتبين له أن مكة في الجنوب وليس في الشمال، فرجع وأمكنه؛ لأن الزاد ما زال عنده والإعياء ما أخذه والراحلة معه، لكن إذا ما كان قد مشى وواصل المشي شهراً أو شهرين فوصل إلى تركيا مثلاً فكيف يرجع؟ فما بقيت له قدرة على الرجوع؛ لأن ضلاله بعيد.

    ففرق بين الضلال القريب والبعيد، فمن هنا قوله تعالى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ [آل عمران:90] لأنهم توغلوا في الكفر والشر والفساد والظلم والخبث، وما أصبحوا أهلاً لرضا الله أبداً، فلا يقبلهم الله عز وجل.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088830001

    عدد مرات الحفظ

    779326492