إسلام ويب

تفسير سورة آل عمران (80)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أخذ الله عز وجل على علماء بني إسرائيل الميثاق على بيان الحق وعدم كتمانه، وهذا العهد والميثاق يتناول علماء المسلمين من باب أولى، فهم حملة الرسالة، وخلفاء المصطفى صلى الله عليه وسلم وورثته في تبليغ الدين، كما حذرهم سبحانه وتعالى من أن يطمعوا في ثناء الناس ومدحهم على ما يفعلون من المعروف والخير، فضلاً عن الفرح بمدحهم على ما لم يفعلوه، بل الواجب في حقهم طلب مرضاة الله والرغبة بما عنده سبحانه وتعالى.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة؛ ليلة الثلاثاء من يوم الإثنين ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ). اللهم حقق لنا رجاءنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.

    ما زلنا مع سورة آل عمران عليهم السلام، ومعنا ثلاث آيات مباركات، فهيا بنا نتغنى بها، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها، من أجل أن نعلم فنعمل؛ لما فيه رضا الله عز وجل، وهو ما يزكي أنفسنا ويطهر أرواحنا؛ لنصبح أهلاً لجوار الله عز وجل في الملكوت الأعلى.

    قال تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

    وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ * لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:187-189].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!يقول تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:187]، الميثاق: هو العهد المؤكد باليمين والموثق به، وهو العهد بينك وبين آخر وتؤكده باليمين عليه أن تفعل أو لا تفعل.

    (وإذ) هنا في خطاب الحبيب صلى الله عليه وسلم، بمعنى: اذكر يا رسولنا لهم إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب، والذين أوتوا الكتاب -أي: أعطوه-، و(الكتاب) هنا هو التوراة والإنجيل، ويدخل فيه كل من أوتي الكتاب من قبلنا أو منا، ونحن أوتينا أعظم كتاب وأجله، إذ نسخ كل ما سبقه من الكتب.

    فهذا الميثاق أخذه الله عز وجل وبينه بقوله: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ [آل عمران:187]، واللام موقعه للقسم: وعزتنا وجلالنا، (لتبينن) ذلك العلم وذلك الهدى، وذلك النور الذي في كتابنا الذي أنزلناه إليكم.

    لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ [آل عمران:187] أبيضهم وأسودهم، مؤمنهم وكافرهم، إذ لفظ الناس عام ولا مخصص له.

    وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187] وكتمان الشيء جحده وتغطيته وستره وعدم الاعتراف به، والمقصود به هو عهد الله وميثاقه.

    أقول: أخذ الله العهد على أهل الكتاب قبلنا، ونحن أيضاً مأخوذ عنا، فيجب على أهل القرآن أن لا يكتموا منه حرفاً واحداً، ويجب أن يبينوه للناس، ويبينوا لهم ما أحل الله فيه وما حرم، وما ألزم وأوجب وما نهى، وتوعد وأوعد.

    وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:187] وهو: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187]، فماذا فعلوا مع الأسف؟ قال تعالى مخبراً عنهم وهو العليم بهم: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [آل عمران:187]، يقال: اجعل الشيء نصب عينيك، وارمه وراء ظهرك، كناية عن عدم الالتفات إليه والأخذ به ومعرفته، نبذوه وراء ظهورهم أولاً.

    معنى قوله تعالى: (واشتروا به ثمناً قليلاً...)

    وثانياً: وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:187]، فوجه الاشتراء بالقرآن أو التوراة الثمن القليل أنهم يفتون بغير الحق ليحصلوا على دراهم ودنانير مقابل الفتيا، يشترون به ثمناً قليلاً، يجحدون ما فيه من هداية الله؛ ليبقى أتباعهم على ما هم عليه، وهم رؤساؤهم وقادتهم وموجهوهم؛ ليعيشوا قادة وسادة لهم يأكلون على حساب دين الله تعالى.

    وهذا الذي حصل لأهل الكتاب حصل نظيره لأمة الإسلام، فمشايخ الطرق والتصوف جلهم إلا من رحم الله يجحدون إن كانوا عالمين، وإلا فأكثرهم لا علم لهم ولا بصيرة بدين الله، ويستغلون تلك الشخصية الدينية، وإذا بالناس مريدوهم -أعني مريديهم- يسوقون إليهم قطعان البقر والغنم، والعسل والزيت والسكر؛ من أجل أن يشفعوا لهم يوم القيامة وأن يستجيب الله لهم دعاءهم، وهكذا في العالم الإسلامي منذ أن تراجع مجدهم وعزهم في القرن الثالث وهذه حالهم، يفتون العلماء، ويفتون السلاطين والملوك والرؤساء بما يرفع من قيمة الملوك والرؤساء بين أفراد الشعب، فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله، ويكتمون ذلك كتماناً، ويرمونه وراء ظهورهم؛ من أجل الحصول على المنصب وعلى المال، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

    وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:187]، وهذا حصل في العالم الإسلامي من القرن الثالث، وهذا النوع موجود من العلماء، وحصل عند أهل الكتاب، حسبهم أنهم إلى الآن يصرفونهم عن الإسلام، بما يكذبون ويدعون، ويفترون على الله وعلى رسوله الكذب، فالذي منع اليهود والنصارى من أن يدخلوا في الإسلام هم رؤساؤهم، يعيشوا على تلك الرياسة والناس تحت أقدامهم وأرجلهم، فهذا بيان الله عز وجل.

    وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:187]، أي: اذكرهم بالذات لجماعة اليهود، فقد بين لهم الطريق، لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187]، فالبيان الشرح والتفصيل، وعدم الكتمان أيضاً بيان الحق في كل قضية من قضايا الأمة، فما كان منهم إلا أن نبذوه وراء ظهورهم، واعتاضوا عنه الخرافات والضلالات، وما دونوا وكتبوا وما ابتدءوا، وقالوا.

    وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:187]، ثمن الدنيا كله قليل، وإن كانت لهم رئاسة ومناصب وأموال وخدم و.. و.. هذا كله قليل بالنسبة إلى ما عند الله في الدار الآخرة.

    أقول: على علماء الإسلام أن لا يكتموا ما جاء في كتاب الله، وعلى لسان رسوله، وأن يبينوه ولا يخافون في الله لومة لائم، وليصبروا على الفقر إن افتقروا، وليصبروا على التعب إن تعبوا؛ لأنها أمانة الله، حتى لا يراهم الله عز وجل قد كتموه ولم يبينوه واستغلوا ذلك فأكلوا وشربوا على حساب كتمان دين الله وجحوده.

    فكل من علم وعرف ينبغي أن يبين ويوضح لإخوانه، ولامرأته ولأولاده، ولجيرانه؛ لأننا أشرف أهل الكتاب، وكتابنا أجل وأعظم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088557237

    عدد مرات الحفظ

    777308585