إسلام ويب

تفسير سورة آل عمران (81)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الآيات والعظات التي يبثها الله عز وجل في كل مكان إنما ينتفع بها أصحاب العقول النيرة والقلوب الحية، فيدفعهم ذلك للإيمان بالله واليقين بموعوده سبحانه، فيذكرونه سبحانه على كل حال؛ قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويدركون أن كل ما خلقه الله عز وجل وقدره فإنما هو لحكمة عظيمة؛ لأنه سبحانه منزه أن يكون شيء من أفعاله للهو والعبث الباطل، فقد خلق الخلق لعبادته وتقديسه، فمن آمن أفلح ونجا ودخل جنة المأوى، ومن كفر فإن مآله إلى نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى.
    الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة، ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، اللهم اجعلنا من الفائزين بهذا الموعود على لسان رسولك صلى الله عليه وسلم.

    وما زلنا مع سورة آل عمران عليهم السلام، وهانحن مع هذه الآيات الست، فهيا نتغنى بتلاوتها، ثم نأخذ في شرحها وبيان ما احتوته من الهداية الإلهية لعباده المؤمنين.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران:190-195]. ‏

    دلالة المخلوق على وجود الخالق عز وجل

    الآيات موضوعها واحد -وإن كانت طويلة- فهيا نتدبر قول ربنا جل ذكره: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] هذا خبر من أخبار الله تعالى مؤكد بكلمة (إن) فهيا نتدبر هذا الخبر.

    أولاً: والله! إنه لصدق وحق، وكيف لا والمخبر هو الله الذي خلق عقولنا وأفهامنا وطاقاتنا وقدراتنا على أن نفهم. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:190]، فالسماوات والأرض من مخلوقات الله عز وجل، فهل بلغنا أن خالقاً غير الله خلق؟!

    الجواب: ما ادعى كائن في العوالم كلها أنه خلق كوكباً واحداً، لا كواكب السماء وما فيها، فكيف نطأطئ رءوسنا ونقول: هاه.. لا ندري! لِمَ لا ندري؟! فلو سألنا: من خلق السماوات والأرض؟

    فسوف نجد من يخبرنا أن خالقهما الله.. اسمه الأعظم الله.. المعبود بحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه، السماوات السبع أجرامها، أفلاكها، كواكبها، مسافاتها، مساحاتها.. هذا هو الخلق العظيم، هل يعقل أن شيئاً يوجد بلا موجد؟

    مثلاً: كأس فيه لبن موضوع على منضدة، فهل نستطيع أن نقنع أي إنسان أن هذا وجد من نفسه؟!

    مستحيل أن نقنع إنسي أو جني أن هذا كأس اللبن هكذا وجد بدون موجد. فكيف إذاً بهذه المخلوقات؟

    نقول: السماوات وهي سبع وما بين السماء والسماء مسافة خمسمائة عام، وسمك السماء وغلظها خمسمائة عام.

    فكوكب الشمس هذا المضيء الملتهب النهاري، قالوا عنه علماء الفلك: إنه أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة. فحرارتها تتدفق علينا ولن تنتهي وليس لها نهاية حتى قيام الساعة.

    وكوكب القمر قريب منا يكاد يلصق بأرضنا والمسافة لا تستطيع أن تعرفها. فالله سبحانه وتعالى وحده خالق هذه الكواكب كلها.

    إذاً: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:190] أولاً.

    دلالة المخلوق على قدرة وعلم الخالق عز وجل

    قال تعالى: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [آل عمران:190]، أي: الله سبحانه وتعالى وحده هو مصرف الليل والنهار، ولا بمقدور البشرية ولا طاقة لها على أن تأتي بالليل أو بالنهار.

    فهذا الاختلاف بوجود ليل ووجود نهار هو لصالح الخليقة، واختلاف الليل والنهار أولى من وجود نهار دائم، أو ليل دائم.

    إذاً: الخالق دل خلقه أولاً على وجوده، فهو موجود فوق عرشه بائن من خلقه.. الملكوت كله تحت قدمه، يدبر الكون كله. فهذا العظيم كيف نقيس عظمته بالعظمة، ونحن أعجز ما نكون أن نخلق ذبابة وهو خالق كل شيء؟!

    ففي خلق السموات والأرض، وفي اختلاف الليل والنهار آيات وعلامات دالة -أولاً- على وجود الله، و-ثانياً- دالة على وجود قدرته عز وجل قدرة لا يعجزها شيء، و-ثالثاً- دالة على علمه عز وجل قد أحاط بكل شيء، ورابعاً دالة على رحمته عز وجل التي وسعت كل شيء.

    فكيف إذاً لا نحبه ولا نرهبه ولا نخافه؟!

    فكيف إذاً لا نعبده بكامل معنى العبادة والطاعة؟!

    وأبشع من هذا أن نتجاهله، ولا نذكره ولا نلتفت إليه، ونعيش كالبهائم نأكل ونشرب وننكح، فأين يذهب بعقول البشر؟!

    إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ [آل عمران:190]، أي: لمن ينتفع بها، أما الأعمى الذي لا يرى أي علامة وضعت له في الطريق ترشده فلا ينتفع بها.

    مثلاً: إذا أردت القرية الفلانية تضع لها علامات.. كل مائة خطوة علامة؛ حتى يهتدي السائر إلى تلك القرية.

    معنى قوله تعالى: (لأولي الألباب)

    قال تعالى: لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190]، والألباب: جمع لب. لب وألباب، والمراد به هنا العقل، أو القدرة الباطنية التي بها يميز الإنسان بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وبين الضار والنافع، وبين الموجود والمعدوم، فمن فقد تلك الطاقة الباطنية المعبر عنها بالقلب والعقل فوجوده كلا وجود له، ما يشاهد آية من الآيات أبداً.

    ودليل ذلك: فعلماء الفلك، وعلماء الطبيعة، وعلماء الذرة يدرسون ويحللون ويندهشون، ولم يستطيعوا أن يقولوا: آمنا بالله.. لا إله إلا الله، فهم يتعايشون مع الأفلاك والأجرام السماوية، ولم يسألوا: من خلق؟ لِمَ خلق؟ كيف هذا الخالق؟

    فلو سألوا لأجابهم أهل القرآن وبينوا لهم. فهم لم يسألوا لانطماس بصائرهم وعماها، ولفساد قلوبهم وعقولهم، والذي أفسد قلوبهم وعقولهم هو الشيطان عليه لعائن الرحمن، فلم يسمح لهم أن يفكروا ساعة فيمن خلق، يحللون ويركبون ويعللون ويهبطون ويطلعون، ولا يفكرون من خلق؟ أو لِمَ خلق؟

    فالشيطان هو الذي كمم ألسنتهم وأعماهم، ولا يريدهم أن يسلموا لينجوا من عذاب الله؛ ألم نقرأ قوله وهو بين يدي الله يقسم: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82].

    إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لمن؟ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] (أُولي) بمعنى أصحاب، أو ذوي الألباب.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088546780

    عدد مرات الحفظ

    777251763