إسلام ويب

تفسير سورة الأنعام (34)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • دعوة الإسلام هي دعوة الحق، والرسالة المحمدية هي الرسالة الخاتمة المهيمنة على كل ما قبلها من الرسالات، يشهد بذلك ما جاء في كتاب الله العزيز من الآيات، ويشهد بذلك امتلاء كتب السابقين بالتبشير بسيد المرسلين، وعلم أهل الكتاب بذلك علم اليقين، فمن أراد الفوز والفلاح فعليه باتباع الصراط المستقيم، والإعراض عن سبيل أهل الأرض من الغاوين، الذين هم عن دين الله معرضين، وعن شرعه ناكبين.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، ولنستمع إلى تلاوة الآيات مجودة مرتلة ثم نشرع في تفسيرها وبيان ما جاء فيها، والله نسأل ألا يحرمنا العلم والعمل.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [الأنعام:114-117].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا [الأنعام:114]، ما المراد بالحكم؟ الحكم: هو الذي يحكم بين المختصمين والمختلفين، الحكم كالحاكم، إلا أن لفظ الحكم يدل على وجود خلاف وهو يحكم بين أهله ليبين لهم الحق من الباطل، والصواب من الخطأ.

    فالله تعالى يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لأولئك الذين طالبوا بالآيات ليصدقوه فيما يدعيه ويقول ويدعو إليه؛ لأنهم كذبوا برسالته صلى الله عليه وسلم، كما كذبوا بدعوته إلى الله تعالى ليعبد وحده، كما كذبوا بالبعث الآخر ولقاء الله عز وجل، إذ السورة المكية تدور على هذه العقائد الثلاث.

    يقول الله تعالى: قل: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا [الأنعام:114]، تريدون أن نحكم غير الله؟ الآية التي تظهر لكم، والميت ينطق لكم، والمطر ينزل، هذه آيات، فهل هذه تساوي الله فيما يحكم به؟ ما قيمتها؟ فحسبي -إذاً- أن يحكم الله بيني وبينكم، وقد حكم بأنكم كافرون، مشركون، هالكون، وحكم بأني عبد الله ورسوله، فماذا أبغي بعد ذلك؟ ‏

    توبيخ الكفرة لإعراضهم عن معجزة الكتاب الحكيم المفصل لهدايتهم

    أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا [الأنعام:114]، تريدون ماذا؟ هذا الكتاب، وهذا القرآن العظيم، ولفظة (الْكِتَابَ) هنا دالة على عظمته، كتاب لا يقادر قدره أبداً، عجزت البشرية عن محاكاته، وعن الإتيان بسورة من مثل سوره.

    وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ [الأنعام:114]، أنزله إليهم لهدايتهم من الضلال، لإكمالهم وإسعادهم، وإنجائهم من الخسران والنقصان، أما نزل إليهم وإلى البشرية كلها؟ أنزل الله كتابه لماذا؟ لإصلاح البشرية وهدايتها، من أجل إكمالها وإسعادها، فله الحمد والمنة، فالحمد لله.

    أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ [الأنعام:114]، أي: القرآن، مُفَصَّلًا [الأنعام:114] غاية التفصيل، فيه العبادات، الآداب، الأخلاق، الأحكام الشرعية، القصص، الأخبار، كل ذلك في غاية التفصيل، أما يكفيني هذا شاهداً على رسالتي ونبوتي ودعوتي إليه تعالى؟ كيف نطلب لكم آية من الآيات وأعظم الآيات هي هذا الكتاب؟ ولقد قال صلى الله عليه وسلم: ( ما من نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وكان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة )، وحق ذلك وثبت، تبعث الأمم ورسلها، والله لا توجد أمة أعدادها أكثر من هذه الأمة المحمدية، وأقرب دليل أن الأمم في مائة سنة أو سبعين سنة تنتهي، وهذه الأمة إلى الآن لها ألف وأربعمائة وسبع عشرة سنة، والإسلام هو الإسلام، والناس يدخلون فيه.

    الاستشهاد على صدق الرسالة المحمدية بعلم أهل الكتاب بحقيقة تنزيل الكتاب من عند الله تعالى

    أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا [الأنعام:114]، هذا أولاً. وثانياً: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام:114]، الذين أوتوا الكتاب يعني: التوراة والإنجيل، وأهله اليهود والنصارى، فالذين أسلموا كـعبد الله بن سلام وإخوته، ومن المسيحيين، الكل يعلم أن هذا الكتاب منزل من عند الله عز وجل بالحق، فهل بعد هذا تريدون شهادة دجاجة تنطق أو بعير يقول: هذا رسول الله؟ أيهما أفضل: أن يشهد علماء الكتاب ويصرحوا بصدق هذه النبوة وأن هذا كتاب الله أم طير ينطق؟ لأنهم يطالبون بالآيات الخارقة للعادة تشهد له أنه رسول الله، وفي علم الله أنهم لا يؤمنون، فما الفائدة من أن يحيي لهم فلاناً وفلاناً حتى يكلمهم وهم لا يؤمنون، والذي خلقهم وغرز غرائزهم وطبع طبائعهم قال: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام:7]، وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا [الحجر:14] طول النهار فِيهِ يَعْرُجُونَ [الحجر:14] طالعين هابطين، لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر:15]، أمثال هؤلاء يعطيهم معجزة؟ ماذا يستفيدون؟ والذي لا تؤثر فيه معجزة القرآن كيف سيؤثر فيه غيرها، أمي لا يقرأ ولا يكتب، وقد لبث فيهم عمراً من قبله أربعين سنة، ما قال كلمة منه ولا عرف، ثم ينزل عليه كتاب أعجز الإنس والجن، أفبعد هذا تطلب الدليل على أنه رسول الله؟! أعاقل أنت أم مجنون؟

    معنى قوله تعالى: (فلا تكونن من الممترين)

    وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [الأنعام:114]، يعني: التوراة والإنجيل، يَعْلَمُونَ [الأنعام:114]، يعلمون علم يقين؛ لأنهم عرفوا وآمنوا أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [الأنعام:114]، منزل من عند ربكم من الملكوت الأعلى بالحق مصاحباً له ويدعو إليه، ولا باطل فيه في قليل ولا كثير، وما نزل لإبطال الحق، ولكن لإحقاق الحق وإبطال الباطل، إذاً: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [الأنعام:114].

    هذا من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة)، فَلا تَكُونَنَّ [الأنعام:114] يا رسولنا مِنَ الْمُمْتَرِينَ [الأنعام:114]، وهل الرسول يكون من الشاكين؟ ولكن أنتم أيها السامعون، فلا تكونن يا من بلغه هذا من الشاكين بعد هذا البيان، بعد هذا العلم وهذه البصيرة، والممتري: هو الشاك، والممترون: جمع ممتر، فَلا تَكُونَنَّ [الأنعام:114] يا رسولنا مِنَ الْمُمْتَرِينَ [الأنعام:114]، وليس المقصود هو الرسول، بل من باب: (إياك أعني واسمعي يا جارة)، اسمعوا أنتم أيها الشاكون، لا تكونوا من الشاكين والممترين بعد أن لاحت أنوار المعرفة، وتجلت حقيقة أنه كتاب الله ووحي الله، وأن محمداً عبد الله ورسول الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088529504

    عدد مرات الحفظ

    777151986