إسلام ويب

تفسير سورة الأنعام (5)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الله عز وجل هو خالق الأكوان ومدبرها، المتصرف سبحانه وتعالى في مقادير خلقه فيها، فهو سبحانه المستحق للعبادة، والذي تنصرف إليه الولاية، وهو سبحانه يجازي أولياءه المؤمنين بما تقر به أعينهم يوم القيامة من النعيم المقيم، ومن عصاه سبحانه فإنه أعد له عذاباً أليماً، لا يصرف عنه أبد الآباد.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    ضرورة تحقيق المبادئ العقدية المقررة في سورة الأنعام

    وها نحن مع سورة الأنعام المكية تلك السورة التي زفها سبعون ألف ملك ولهم زجل وتسبيح، هذه السورة كلها تدور على تحقيق المبادئ العظمى الثلاثة:

    المبدأ الأول: توحيد الله عز وجل، وأنه لا إله إلا الله.

    المبدأ الثاني: نبوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ما جاء به من الشرع والدين هو من عند الله عز وجل.

    المبدأ الثالث: البعث والجزاء في الدار الآخرة.

    وهذه المبادئ الثلاثة أو الأصول الثلاثة إذا فقد منها أصل فصاحب هذا المعتقد ميت غير حي، فليكن اعتقادك عبد الله، وليكن اعتقادك أمة الله اعتقاداً يقينياً علمياً أنه لا إله إلا الله؛ فلهذا لا يعبد غير الله، ولو بطأطأة الرأس أو بكلمة فيها معنى الذل والمسكنة لغير الله عز وجل، لا يعبد غير الله عز وجل.

    ثانياً: أن العبادات جاءت من طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا عبادة تقبل بين الناس إلا ما جاء به رسول الله وبينه عليه الصلاة والسلام؛ فلذا كل بدعة ضلالة.

    ثالثاً: لا بد من اعتقادك الجازم أنك بعد الموت تبعث وتسأل عن كل عمل عملته في هذه الدار، سواء بجوارحك أو بقلبك.

    هذه أصول الدين الثلاثة، السورة كلها تدور حول هذه الحقائق الثلاث، وها نحن مع هذه الآيات، فلنستمع إلى تجويدها من أحد الأبناء، ثم نشرع في بيان ما جاء فيها بإذن الله.

    اختصاص الله تعالى بملك ما في السموات والأرض

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [الأنعام:12-16].

    قال تعالى مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم: اسأل أولئك العادلين بربهم غيره، أولئك الذين جحدوا الوقوف بين يديه يوم يلقونه، اسألهم فقل لهم: لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:12] ؟! هل لسيدي عبد القادر ؟ هل لعيسى؟ عيسى مخلوق مربوب: لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:12] من هذه الكائنات كلها؟

    والجواب: قُلْ لِلَّهِ [الأنعام:12] لأنهم سيقولون: لله، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، إذاً: فاسبقهم وبادر بالجواب، إذ ما لهم جواب إلا هذا! وهل في الأرض من له جواب غير هذا؟ لو سألت الآن الصين واليابان والعالم: لمن ما في السماوات والأرض سيقولون لمن؟ هل لمن يبول ويموت غداً ويلقى في الأرض جيفة منتنة؟! لا جواب أبداً إلا كلمة: الله، إذاً: قل: لله.

    وإذا كان كل ما في الأكوان لله فكيف نلتفت إلى غيره نعبده ونتقرب إليه؟ جنون هذا أم ماذا؟! أنت تعتقد أن الملكوت كله لله وهو مالكه، ومنه يطلب وهو الذي يعطي أو يمنع، كيف تلتفت إلى مخلوق من المخلوقات وتتقرب إليه بأنواع القربات ليقضي حاجتك، أو ليعمل لك كذا؟! أي جهل أعظم من هذا؟ أية حماقة أشد من هذه؟!

    قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:12] يا رسولنا! أسألهم، اسأل هؤلاء العادلين بالله غيره. قُلْ لِلَّهِ [الأنعام:12] اسبقهم بالجواب، ما يجدون جواباً إلا هذا: (لله).

    معنى قوله تعالى: (كتب على نفسه الرحمة)

    ثم قال له: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12]، هذا هو الله فرض على نفسه الرحمة، هذا الذي يجب أن يحب وأن يقدر ويبجل ويعظم، هذا الذي فرض على نفسه الرحمة لعباده، فالرحمة في كتاب عند الله تحت العرش: ( سبقت رحمتي غضبي )، لولا رحمة الله عز وجل لما كانت الحياة، هذه الرحمة التي يخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: ( لله مائة رحمة، عنده تسعة وتسعون وجعل عندكم واحدة تراحمون بها بين الجن والإنس وبين الخلق، فإذا كان يوم القيامة ضمها إليها )، ومن أراد أن يشاهد ذلك فلينظر إلى العنزة وهي ترضع ولدها، كيف تعمل؟ كيف تدني ضرعها وتتطامن له؟ ولينظر إلى الدجاجة كيف تعلم أفراخها نقر الحب وابتلاعه، فلينظر إلى الدم الأحمر القاني كيف يتحول إلى لبن أبيض يشربه المولود من إنسان أو حيوان؟! رحمة واحدة تتراحم بها الخليقة!

    إذاً: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12]، رحمة متجلية في كل مخلوقاته، أولاً: في هؤلاء المعاندين العادلين بربهم، الكافرين به المكذبين له ولرسوله، وهو يطعمهم ويسقيهم، ويحفظ لهم حياتهم، يأكلون ويشربون ويمرحون، وينطقون ويسمعون، لو شاء لمسخهم أحجاراً لا يسمعون ولا ينطقون ولا يتكلمون، لكن رحمته هي التي جعلت الكافر يأكل ويشرب وينسى الله عز وجل، لولا رحمته لعذبه، خلقتك فأنكرت خلقي لك فسأمسخك صنماً أو حجراً.

    معنى قوله تعالى: (ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه)

    كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنعام:12] اليوم الذي لا ريب فيه ولا شك أبداً، وهذا تقرير البعث الآخر، (ليجمعنكم) وعزته وجلاله! ليجمعنكم يا بني آدم العادلون بربهم والموحدون له، الكل يجمعهم إلى يوم القيامة، إلى يوم لا ريب في وقوعه.

    إذاً: الإيمان بيوم القيامة، باليوم الآخر، بالبعث الآخر هذا هو أصل الإيمان، وإن رأيت شراً أو فساداً بين الناس فعلته عدم إيمانهم بالبعث الآخر والجزاء فيه على أعمالهم.

    أما الذي آمن أنه سيسأل عن صمته إذا صمت، وعن نطقه إذا نطق، وعن أكله إذا أكل، وعن تركه إذا ترك، الذي يعيش على هذا المبدأ لا يفجر، ولا يفسق، ولا يظلم، ولا يخبط، والذين يتعاطون الشر والفساد والظلم والخبث فقدوا هذا العنصر الحيوي في نفوسهم، أما الذين كذبوا رسول الله وما آمنوا به فكيف يزكون أنفسهم، وكيف يطهرونها وهو الذي جاء ببيان المواد المزكية للنفس، المطهرة لها، فهم هالكون وإن آمنوا بالبعث، وإن آمنوا بتوحيد الله، والذين آمنوا بالبعث ولقاء الله وشرع الله ثم أشركوا بربهم غيره هل ينفعهم ذلك؟ لا ينفع.

    يقول تعالى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنعام:12] ليجمعنكم ليوم القيامة، ليجمعنكم في يوم القيامة، ليجمعنكم إليه من القبور إلى المحشر، لماذا؟ للجزاء على الكسب الدنيوي الإرادي الاختياري.

    وقوله: لا رَيْبَ فِيهِ [الأنعام:12]، الريب الشك، والريب أعظم من الشك.

    معنى قوله تعالى: (الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون)

    ثم قال: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:12] هذه حقيقة علمية، الذين خسروا أنفسهم وأضاعوها، وحطموها وهشموها، ولوثوها وأخبثوها، هؤلاء لا يؤمنون بالله وتوحيده ولا بالبعث والجزاء ولا بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    احلف بالله! إن الذين خسروا أنفسهم لا يؤمنون، وهنا نظرتان أو وجهان: خسروا أنفسهم بهلاكها يوم القيامة، وهو الخسران الأعظم، هؤلاء مضى قضاء الله وقدره عليهم بأنهم لا يفلحون في يوم القيامة بالنجاة من النار ودخول الجنة، هؤلاء والله لا يؤمنون اليوم.

    وفي هذا الوجه تسلية للرسول والمؤمنين والدعاة، لا تتألم ولا تحزن، فالذي مضى في قضاء الله وقدره أنه لا يعبد الله ولا يزكي نفسه ولا يطهرها، وحكم عليه بالخسران في الدار الآخرة؛ والله لا يؤمن، ولو نزل الملك أمامه فلن يؤمن، إذاً: فارحم نفسك ولا تكرب ولا تحزن.

    الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ [الأنعام:12] لوثوها، أخبثوها، أفرغوا عليها أطنان الذنوب والآثام، لا يؤمنون، الذين توغلوا في الشر والخبث والفساد، عرض عليهم الإيمان فكانوا يسخرون ويضحكون، وهذا الذي نبهنا عليه غير ما مرة، يا أمة الله! يا عبد الله! لا تتبع المعصية المعصية، عجل بالتوبة، فإن سنة الله في الإنسان إذا مشى في طريق الضلال وتوغل فيه أنه لا يرجع أبداً، تعرض عليه الإيمان فيسخر، ما يستطيع أن يتخلى عن تلك الأخلاق والصفات التي تمكنت من نفسه أبداً، ولهذا وجبت التوبة على الفور، وقد بينا ذلك بمثال: فأنت إذا كنت تريد أن تذهب إلى الشام فذهبت إلى الجنوب، فمشيت يومين أو نحو ذلك فممكن أن ترجع إذا قيل: ضللت الطريق. لكن إذا توغلت في المشي فإنك لا تستطيع أن ترجع، انتهى زادك وانتهت قوتك، فالضلال البعيد صاحبه لا يرجع، وسر ذلك: أن من رغب في المعاصي وأقبل عليها واشتهاها وعملها يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام يصعب عليه جداً -بل يستحيل- أن يرجع، وضربنا المثل بالذين توغلوا في الدخان وشربوا الدخان عشرات السنين، ما استطاعوا أن يتخلوا عنه، مع أنه لا ينفعهم في شيء، والذي تعود على الكذب وأصبح لا يلذ حديثه إلا بالكذب ما يستطيع أن يرجع، فالذين خسروا أنفسهم لا يؤمنون، فلا تكرب يا رسولنا ولا تحزن، هل عرفتم هذا الكلام الإلهي؟

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088570236

    عدد مرات الحفظ

    777385090