إسلام ويب

تفسير سورة الأنعام (7)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يخبر الله عز وجل عن أهل الكتاب أنهم كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه في كتبهم، ولما أن بعث برسالة الإسلام تأكد لهم أنه رسول آخر الزمان، بصفاته المكتوبة في التوراة والإنجيل، وصفاته الظاهرة من أحواله وخصاله وخصائصه، ولكنهم لخبث سرائرهم وسواد قلوبهم أنكروا أن يكون النبي الموصوف، فكذبوا على الله وعلى رسوله، ومن أظلم ممن يكذب على الله وهو خالقه، فمثل هذا لن ينال فلاحاً، ولن يدرك نجاحاً، وهو في الآخرة من الخاسرين.
    الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله، راجين أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع سورة الأنعام، وإليكم تلاوة الآيات التي نتدارسها إن شاء الله بعد تلاوتها:

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام:20-24].

    تقرير معرفة علماء أهل الكتاب لنعت رسول الله صلى الله عليه وسلم دحضاً لفرية المشركين

    معشر المستمعين من المؤمنين والمستمعات من المؤمنات! قول ربنا جل ذكره: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [الأنعام:20] يعني: علماء اليهود وعلماء النصارى؛ إذ تقدم لنا في الآيات السابقة: أن المشركين احتجوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرية افتروها، وهي: أن أهل الكتاب لم يعترفوا بنبوة محمد ورسالته وهم أعلم أهل الأرض بالنبوة والرسالة، فلو كنت رسولاً لاعترف برسالتك أهل الكتاب. فرد الله تعالى عليهم في الآيات السابقة وما زال السياق في الرد عليهم، فقال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [الأنعام:20]، بل قال عبد الله بن سلام : والله إني لأعرف أنه رسول الله أكثر مما أعرف ولدي؛ إذ من الجائز أن تخونني امرأتي فيكون الولد ليس لي، أما نبوة محمد ورسالته فوالله لا أشك فيها.

    وهذا إخبار الله عز وجل: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [الأنعام:20] أي: يعرفون محمداً رسول الله ونبي الله كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [الأنعام:20].

    علة عدم إيمان أهل الكتاب برسول الله صلى الله عليه وسلم مع معرفتهم صدق رسالته

    والسؤال: لماذا لا يؤمنون؟ ما داموا قد وجدوا نعوته وصفاته واضحة جلية في الكتابين العظيمين في التوراة والإنجيل وهما بين أيديهم؛ فلماذا -إذاً­- لا يؤمنون؟

    الجواب: قال الله تعالى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:20]، وهنا معنيان: الأول: خسروا أنفسهم؛ لأنهم أخبثوها ولوثوها ودرنوها وعفنوها بأكل الحرام وغشيان الذنوب والآثام، وقد كان هذا صنيع علماء الكتاب، يسيطرون على الأمم ويستغلون جهلهم وضعفهم ويسودون عليهم ويؤثرون شهواتهم ودنياهم على آخرتهم، وأي خسران أعظم من هذا؟ لو لم يخسروا أنفسهم ويحافظوا عليها طاهرة نقية لكانوا سيفرحون بوجود النبي الخاتم والرسالة العالمية، لكن ظلمة النفس وخبث الروح، وهذا قد أصبح عندنا من الضروريات، فالذي يتوغل في الفساد ويكثر من الفساد ويعيش عليه دهراً لو تعرض عليه آيات كالشمس لا يستجيب، فهو محجوب؛ لأن نفسه خسرها.

    والمعنى الثاني: أن هؤلاء لا يؤمنون لأن الله قضى وحكم بخلودهم في عذاب النار، وأنهم من أهلها، فلهذا لا يستطيعون أن يؤمنوا، لا أنهم يريدون أن يؤمنوا ويحال بينهم وبين الإيمان، لكن بما ران على قلوبهم لا يستطيعون الإيمان ولا يقبلونه، فيمضي حكم الله فيهم، فهم خسروا أنفسهم، قال تعالى فيهم: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].

    هذا معنى الآية الأولى، وأعيدها: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [الأنعام:20]، قولوا: صدق الله العظيم، هذا خبر الله أم لا؟ يخبر تعالى بأن الذين هم من أهل الكتاب العلماء بالتوراة والإنجيل يعرفون نبوة محمد ورسالته وصدقه وشريعته كما يعرفون أبناءهم، وهل الرجل يجهل ولده؟ لا يجهل أبداً، وإن قلت: لماذا لم يؤمنوا؟ فالجواب: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:20] وإلى الآن الذين خسروا أنفسهم لا يتوبون والله، ولا يقرعون باب التوبة، ولا يطلبونها، ولا يسلكون سبيلها؛ لأمرين:

    الأول: قضاء الله وقدره فيهم بأنهم أهل النار.

    والثاني: الجرائم والموبقات والآثام التي أخبثت نفوسهم وقتلتها، ما أصبحت تقبل الحق والخير أبداً، ولو عرض عليها بأطنان الذهب لا تقبل، وهذا الذي ينبغي ألا ننساه، وهو: أن العبد إذا فجر، إذا فسق، إذا أذنب ثم واصل الذنب، واصل الفجور، واصل الشر؛ يأتي زمان يصبح فيه لا يقبل التوبة بحال من الأحوال، وذلك مثل المريض إذا انتشر فيه المرض واستولى على كل جسمه يقول الأطباء: إنه ميئوس منه، اتركوه في المستشفى ليموت، لا يقبل العلاج أبداً. وهو كذلك، فالعبد إذا فجر وواصل الفجور -وهو الخروج عن طاعة الله ورسوله- يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام فإنه يصل إلى حالة إذا قلت له فيها: اتق الله يضحك، إذا قلت: لم تشرب هذا الحرام يستهزئ بك ويرفع رأسه، ومثل هذا لا يتوب.

    كيف عرفنا هذه الحقيقة؟ اسمع كلام الله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [الأنعام:20] أنه رسول الله حقاً وصدقاً كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [الأنعام:20]، ثم ما العلة في عدم إيمانهم؟ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:20] بالوجهين: الأول: أنه قضى الله وحكم عليهم بالخلود في عالم الشقاء بسبب ذنوبهم وآثامهم، فلا يتوبون، فلا بد أن يمضي حكم الله فيهم.

    الوجه الثاني: أنهم أقبلوا على الدنيا وزخارفها وباطلها، وعاشوا على الظلم والخبث فاسودت نفوسهم وخبثت أرواحهم، فلا يقبلون التوبة ولا العودة إلى الله أبداً، فلهذا هم لا يؤمنون.

    التحذير من عاقبة الإيغال في الذنوب

    وهنا حذرنا مما حذر الله منه ورسوله المؤمنين: مواصلة الذنب بعد الذنب، أذنبت -يا عبد الله- لأنك ضعيف ومعك أعداء أكرهوك على الإثم فيجب أن تقلع وأن تستغفر الله وتتوب، أما أن تواصل الذنب بعد الذنب فمن يضمن لك أنك تستطيع أن تتوب؟ والله لا أحد إلا الله، فمن هنا كانت التوبة واجبة على الفور، لا تجد من يفتيك أنك تؤخر توبتك إلى العام المقبل أو إلى الحج أو حتى يأتي كذا، لا يصح، بل لا تقول: حتى تطلع الشمس.

    هل عرفنا الحكمة أم لا؟ يعرفون نبوة رسول الله وصدقه وصورته وصفاته كما يعرفون أبناءهم، ولكن لا يؤمنون، لماذا؟ لأنهم توغلوا في الشر والفساد، وهكذا عندنا مبطلون وجدوا في هذه الأمة ودجالون كذابون، يدعون الصلاح والولاية والعلم وهم ضلال، ومثلهم لن يتوب، وما تابوا أبداً حتى هلكوا؛ لأنهم تورطوا، هذا ما دل عليه قول ربنا جل ذكره: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:20]، فهذه الآية ذات فائدتين عظيمتين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088518798

    عدد مرات الحفظ

    777082011