إسلام ويب

تفسير سورة الأنعام (8)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الكفر بالله سبحانه وتعالى هو سبب كل شر على وجه الأرض، والكفار متى ما أبغضوا أنبياء الله وعباده الصالحين فإنهم لن يسمعوا قولهم، ولن يقبلوا الحق منهم، بل وسيبذلون وسعهم في الإعراض عن دعوتهم، وتحذير الناس من قبولها، وصدهم عنها بما أمكنهم، فيهلكون أنفسهم ويهلكون معهم غيرهم، ويوم القيامة لا تنفعهم الأماني في العودة إلى الدنيا إذا عاينوا العذاب، ووقفوا على نار وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، وها نحن مع سورة الأنعام.

    وأعيد إلى أذهان المستمعين والمستمعات أن هذه السورة تقرر المبادئ الثلاثة العظمى: التوحيد، والبعث الآخر والنبوة المحمدية، إذ هذه هي عناصر الإيمان القوية، من ظفر بها فآمن بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن البعث حق، فهذا حي، وأصبح قادراً على النهوض بكل ما يكلفه الله ورسوله من فعل أو ترك، ومن فقد هذه العناصر فهو ميت، ومن فقد بعضها فهو ميت، ومن أصابه ريب فيها أو في بعضها فهو هالك.

    فسورة الأنعام التي زفت بسبعين ألف ملك لهم تسبيح وزجل، نزلوا مع هذه السورة المكية قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، هذه السورة من أولها إلى آخرها وهي تقرر مبدأ: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لا بد من لقاء الله والجزاء على الكسب في هذه الدنيا الخير بالخير والشر بالشر، وها نحن مع هذه الآيات الثلاث أو الأربع، ولنستمع إليها من مجودها، لعل قلوبنا تخشع، ولعل أسماعنا تضطرب وتسمع.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام:25-29].

    معاشر المستمعين والمستمعات! هيا نتدارس هذه الآيات:

    قول ربنا جل ذكره: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الأنعام:25]، الضمير في (إليك) يعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقائل: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الأنعام:25] هو الله جل جلاله، الله يخاطب رسوله في مكة وهو يعاني ويقاسي من آلام الكفر والشرك والعناد والتكذيب والتهديد، يقول له ربه تعالى: وَمِنْهُمْ [الأنعام:25]، أي: من المعاندين العادلين المشركين المكذبين، غلاتهم وطغاتهم، منهم مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الأنعام:25]، يستمع: يصغي بأذنه يسمع، وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الأنعام:25]، هم يسمعون ولكن الله حسب سنته جعل قلوبهم في أكنة، فلا يتسرب إليها علم ولا يصل إليها معنى، والكنان: ما يكن به الشيء ويستر. وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الأنعام:25]، أي: ما تقرؤه من كتاب الله، وما تتلوه من آيات الله، وما تقرره من دعوتك إلى الله لأن يعبد الله وحده ولا يشرك به سواه، جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه، وجعلنا في آذانهم وقراً، والوقر: الثقل، وهو من: وقر الحمل على الناقة، ووقر النخل: إذا كانت قنوانها كثيرة، فهو ثقل في آذانهم.

    سبب جعل الأكنة في قلوب المشركين والوقر في آذانهم

    وإن قلت: لماذا يفعل الله هذا؟ لم يجعل قلوبهم في أكنة ويجعل في آذانهم وقراً حتى لا يفقهوا؟

    فالجواب: حاشاه تعالى أنه يأتي إلى عبده ويجعل في آذانه وقراً، أو يجعل قلبه في كنان يكنه، وإنما سنة الله في الذي يسمع الحق ويتكبر عنه ويتركه، ويعلن الحرب عليه أنه يوماً بعد يوم يصبح لا يعقل ولا يسمع.

    سنن الله دائماً أقررها: شرب السم واحتساؤه يقتل أم لا؟ فإذا شرب العبد السم وقتله نقول: قتله الله بسنة من سنته. والحديد يقطع أم لا؟ فإن ضربت بالسيف لتقتل هذا المخلوق أو الحيوان فالقاتل هو الله، ولكن قتله حسب سنته أن الحديد يقطع.

    فهؤلاء العتاة الطغاة كـأبي جهل وأضرابه منهم بعض يأتي ليستمع حتى يثير الزوابع ويقول الترهات والأباطيل: سمعناه يقول كذا وكذا. بل كانوا يأتون إلى المكان الذي فيه الرسول يصلي ويقرأ وهم يستمعون، لكن ذلك الاستماع ما هو لوجه الله، ما أرادوا أن يؤمنوا وأن يعرفوا الحق، أرادوا أن يثيروا الزوابع والفتن: سمعناه يقول كذا. ويكذبون على رسول الله وعلى ربه.

    فقال تعالى: وَمِنْهُمْ [الأنعام:25] أي: من أولئك العادلين بربهم مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الأنعام:25]، ولكن ما يستفيدون، لم؟ قال: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً [الأنعام:25] أغطية، وجعلنا في آذانهم وقراً وثقلاً، فهم لذلك لا يفهمون ولا يفقهون.

    قلت: إن قيل: لم جعل ربي هذا؟ قلنا: هذا حسب سنته، الذي يكثر من العناد والمكابرة لن يرجع أبداً، ويصبح ما يسمعه من الكلام لا يفقهه، يفهمه حسب مراده، وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الأنعام:25] أي: حتى لا يفقهوه، وجعلنا في آذانهم وقراً، أي: ثقلاً، فهم لا يستفيدون مما يسمعون، وليسوا كلهم يأتون ويسمعون، بل منهم من يستمع.

    معنى قوله تعالى: (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها)

    ثانياً: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأنعام:25]، كإحياء الموتى، انشقاق القمر، نزول الملائكة.. ما شاء الله من الآيات، لو شاهدوها والله ما آمنوا، فهذا النوع من هؤلاء الطغاة: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ [الأنعام:25] ما هي بآية أو عشر، والآية -كما علمتم-: المعجزة الدالة على قدرة الله، الخارقة للعادة، أما انشق القمر وهم يشاهدون فما آمنوا؟ وأية آية أكبر من أن أمياً يعيش بينهم أربعين سنة، ثم يتكلم بعلوم الأولين والآخرين؟ هل هناك آية أعظم من هذه، لكن هؤلاء الذين كتب الله شقوتهم وهم الخاسرون هذا شأنهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأنعام:25].

    معنى قوله تعالى: (حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين)

    ثم قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ [الأنعام:25]، يسمعون الآيات ويذهبون بعيداً ويقولون الترهات والأباطيل، وإذا جاءوا للجدال اسمع ماذا يقولون، كانوا يأتون يجادلون الرسول صلى الله عليه وسلم: حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنعام:25]، إن هذا الذي تسمعونه من محمد يقوله إلا أساطير وحكايات وأقاصيص تقص عليه من شئون الأولين وأحداث الآخرين السابقين، وهو يقصها، ليس بالوحي ولا من الله، ولا تثبت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولا نبوته، وهذا الذي يقول أساطير. وكان النضر بن الحارث قد تعلم بعض الأساطير من بلاد الروم، وجاء يقصها على الناس في مجالسهم الخاصة، وقال: أنا أتفوق على محمد، أنا أقص عليكم مثلما يقص. ولهذا كانت فتنة عظيمة، وكان الرسول يتحمل ما لا يطاق.

    وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الأنعام:25]، الذين لا يستمعون عشرات، لكن بعضهم كان يحاول أن يستمع، ولكن لا يفقه شيئاً؛ لأن الله طبع على قلبه، كتب شقاوته وهلاكه: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأنعام:25]؛ لأن بعض المؤمنين كـبلال والجماعة المؤمنة كانوا يودون لو أن الله يعطي محمداً صلى الله عليه وسلم آية فيؤمن عليها أهل مكة وينتهي الصراع، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب هذا، فأعلمه الله بأنهم وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأنعام:25]، ووالله لا يؤمنون، والذين كتب الله سعادتهم ما احتاجوا إلى آية أبداً، دخلوا في الإسلام وعرفوه وآمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فالآية ليست ضرورية للإيمان، وكم من أمة شاهدت الآيات وما آمنت، وهل هناك أعظم من آية صالح: الناقة تخرج من جبل، وتشرب ماء البلاد وحدها في يومها؟ ثم بعد ذلك حاولوا قتلها وقتلوها، فأي الآيات -إذاً- توجد إيمانهم؟

    فلهذا قال تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ [الأنعام:25] يأتون أحياناً للجدال والخصومة، يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنعام:25]، وهنا تسجيل كلمة الكفر، ما قال: يقولون، بل قال: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنعام:25]؛ لأن علة هذا المرض هي الكفر، لا داء أكبر منه، فإذا كفر الإنسان ربه وجحده، وجحد آياته، وجحد لقاءه، وجحد شرائعه فكيف سيصبح هذا؟ كيف يخاطب، كيف يعيش مع الإنسان؟ وقد علمنا بكتاب ربنا أن هذا المخلوق شر ما خلق الله عز وجل: أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6].

    قال تعالى: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا [الأنعام:25]، أي: ما هذا الذي يقرؤه محمد ويقول: إنه كتاب الله إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنعام:25] جمع أسطورة، أساطير الأولين الماضين من الأمم، فهو يحكيها ويقصها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088914394

    عدد مرات الحفظ

    779842858