إسلام ويب

تفسير سورة النساء (80)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ما زال سياق الآيات في اليهود من أهل الكتاب يبين جرائمهم، ويكشف الستار عن عظائم ذنوبهم، فسجل عليهم أولاً الظلم العظيم، والذي به استوجبوا عقاب الله، حيث حرم عليهم طيبات كثيرة كانت قد أحلت لهم، وذلك بجحودهم الحق وتحريفهم كلام الله، وقبولهم الرشوة في إبطال الأحكام الشرعية، ثم سجل استباحتهم للربا، وأكلهم أموال الناس بالباطل بالسرقة والغش والشعوذة وغيرها.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصد الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم أعطنا هذا يا خير من يعطي، ويا ولي المؤمنين ويا متولي الصالحين.

    وما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الثلاث، فهيا نتغنى بها، إذ يجوز التغني بالقرآن الكريم، والتغني بالقرآن هو تحسين الصوت به، فتدبروا الآيات قبل شرحها لتعرفوا مدى فهمكم وقدرتكم على فهم كلام الله عز وجل، وتلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:160-162].

    الظلم من جرائم اليهود التي كانت سبباً في تحريم طيبات أحلت لهم

    فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا [النساء:160]، والباء هنا سببية، أي: فبسبب ظلم من الذين هادوا، والذين هادوا هم اليهود، وسموا بذلك لأنهم لما زلت أقدامهم وعبدوا العجل وادعوا أنهم قد تابوا قالوا: إنا هدنا إليك، فسموا بذلك اليهود، ولا تقل: لعلها نسبة إلى يهوذا ابن يعقوب، فـيهوذا بالذال، ولو كان كذلك لقال: يهوذيون، لكن الذي عليه أهل العلم الحق: أنهم لما قالوا: إنا هدنا إليك، أي: رجعنا وتبنا إليك، سموا بذلك، وأصبح هذا اللفظ يدل على بني إسرائيل من أولاد يعقوب عليه السلام، وما زال أحدنا يقول: فلان هوَّد من السطح، بمعنى: نزل ورجع.

    فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا [النساء:160]، ماذا فعلنا بهم بسبب ظلمهم؟ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160]، و(طيبات) جمع: طيبة، وقد بين لنا تعالى بعض ما كان حلالاً لهم وحرمه عليهم بظلمهم، فجاء من سورة الأنعام قول ربنا تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا [الأنعام:146] الآية، لكن يوجد غير هذا مما حرمه الله تعالى عليهم عقوبة لهم بسبب ظلمهم.

    ولنذكر أن المسلمين قد حُرِموا، ولا أقول: حُرِّم عليهم، فقد حُرِموا من الطيبات ما شاء الله بسبب ظلمنا، إذ لو أننا أقمنا القرآن والسنة، وعبدنا الله حق العبادة، واستقمنا على منهجه، وسرنا في مواكب الهدى والخير، لكنا أوسع الناس رزقاً، وأطيبهم طعاماً، وأعزهم نفساً، لكن لله سنناً لا تتبدل، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]، إذاً: فالذي يظلم هو الذي يستحق أن يبيت في السجن، والذي يسرق هو الذي تقطع يده، والذي يعق والديه هو الذي يحرم رضا الله، والشاهد عندنا: فبظلم، إذ يحذرنا الله تعالى من أن نظلم فنشقى في دنيانا ونخسر في أخرانا.

    فَبِظُلْمٍ [النساء:160]، أي: بسبب ظلم، وأنواع الظلم كثيرة، وحقيقة الظلم هو وضعك الشيء في غير موضعه، فمن وضع شيئاً في غير موضعه فقد ظلم، وبالتفسير البسيط: الآن الذي يزحزح إخوان عن يمينه وعن شماله حتى ينام فقد ظلم؛ لأن هذا ليس مكاناً للنوم، والذي يدخل أصبعيه في أذنه ويرفع صوته ليغني في الحلقة فقد ظلم؛ لأن هذا المكان ليس محلاً للغناء، وأفظع الظلم وأعظمه هو أن تصرف عبادة الرب الخالق المالك لمخلوق لا ينفع ولا يضر، قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]؛ لأن ذلك يتعلق بحق الله عز وجل، فأنا خلقني ورزقني ورباني وكلأني وحفظني، وبعد أن ننحني ونتمرغ بين يديه ننحني أمام مخلوق من مخلوقاته، ونعفر وجهنا بالتراب ذلاً له وطمعاً فيه، فأي ذنب أعظم من هذا؟!

    مرة أخرى: يا طلاب الهدى! الظلم حقيقته وضع الشيء في غير موضعه، فكل من يضع الأمور في غير مواضعها فإنه يخسر ويهلك في دنياه وفي أخراه، أحب أم كره.

    الصد عن سبيل الله من جرائم اليهود الشنيعة

    وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا [النساء:160]، أي: صدوهم عن سبيل الله وصرفوهم عنه، وذلك لإيتائهم شهواتهم وأطماعهم ودنياهم، كما أنهم صدوا أيضاً كثيراً من الناس بالحيل والأباطيل والفتاوى الكاذبة وصرفوهم عن الإسلام وعن الحق، فنعوذ بالله أن نكون ممن يصد عن سبيل الله، إلا أننا نشهد -اللهم سامحنا- أن المسلمين في هذه القرون قد صدوا عن سبيل الله بسلوكهم المنحرف، وبحياتهم المضطربة، وبمظاهر الفتن، وبالانحراف الكامل عن حدود الله، فصرفوا الناس عن الإسلام، وتأملوا لو أن المسلم استقام عاماً أو أعواماً هو وأسرته استقامة ربانية حقيقية لرغب جاره الكافر المشرك في دينه، ولطلب منه أن يبين له هذا الطريق الحق، فكيف إذا كان المسلم غنياً وجاره المشرك فقيراً؟ فإنه لا شك سيسأل عن سبب فقره ما هو؟ إنه البعد عن الله، وما سبب غنى المسلم؟ وهو القرب من الله تعالى، إذ الله يكرم أولياءه، فإنه سيطلب دينه ويبحث عنه.

    ولذا فلا أشك في أن هبوطنا من أكثر من ألف سنة تقريباً هو الذي صرف العالم عن الإسلام، إذ لو كانت ديارنا كلها أنوار ساطعة، فيغشاها الطهر والصفاء والمودة والإخاء والحب والولاء، فسيتعجب هذا المشرك ويقول: كيف هذه الحياة؟! من أين جاءهم هذا النور وهذه الهداية؟ فيبحث عنها وينالها، لكن يدخل بلادنا فيجد الشرك والفسق والفجور والظلم والفقر والبلاء، ويقول: كيف نصبح كهؤلاء؟ نعم قد صددنا عن سبيل الله، أحببنا أم كرهنا، وأنا لا أعني بني فلان ولا فلان، وإنما وضع العالم الإسلامي بأكمله قد أصبح صارفاً للآخرين عن الإسلام، فما عشقوه ولا طلبوه ولا بحثوا عنه، ولذلك لما تبجحت روسيا بالاشتراكية ورغَّبت الناس في ذلك، هبَّ الناس كلهم يجرون وراء الاشتراكية، حتى كانت أصواتنا تردد: اشتراكيتنا نوالي من يواليها، ونعادي من يعاديها، ولكن خيبهم الله فخابوا، فهل من طريق آخر؟ لو يرفع إمامنا رأسه: الله أكبر، ستتدفق الخيرات والبركات والنور، ولجاء الناس جماعات وأفراداً.

    وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا [النساء:160]، صدوا أنفسهم أولاً، وصدوا غيرهم بسلوكهم المنحرف، وبحيلهم ومكرهم وغشهم وخداعهم، والمراد بـ(سبيل الله) هو: السبيل هو الطريق، وسبيل الله هي الطريق الموصلة إلى رضاه والنزول بجواره في دار السلام، وسبيل الله واضحة، وإليكم صورتها وهي: أولاً: أن تؤمن بالله ولقائه، فهنا آمِن بالله، وهناك بلقائه، وأحل ما أحل الله، وحرم ما حرم الله، وانهض بما أوجبه الله عليك، وتخل عما نهى الله عنه، واستمر في السير حتى تقرع باب دار السلام.

    وطريق الله وسبيله قد بينه الله لنا في كتابه القرآن العظيم، وزاد بيانه رسوله الكريم، وبالتالي فلا حجة لأحد أن يقول: ما عرفنا، من بين لنا سبيل الله وطريقه؟ قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]، وفي كل ركعة من ركعات الليل والنهار نقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، والصراط المستقيم هو الطريق الذي لا يميل يميناً ولا شمالاً، فلا يهودية ولا نصرانيه ولا بوذية ولا اشتراكية، وإنما استقامة إلى دار السلام.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088543474

    عدد مرات الحفظ

    777231491