ثم قال تعالى:
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا 
[الكهف:46]، إذ المال تحبه القلوب وتتعلق به النفوس؛ لأنه نافع، وكذلك البنون عدة وقدرة يدفع بها عن نفسه، ولكن مثل هذا كالزينة، فهل الزينة تبقى؟ تغسل ثوبك أسبوعين أو أسبوعاً وينتهي، أو تطيب جسمك وفي ساعات ينتهي، فالزينة دائماً تزول وتنتهي، إذ ليس هي بأصل فتبقى أبداً، وصدق الله العظيم:
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا 
[الكهف:46]، فلا نغتر بها، ولا نطلبها بدون رضا مولانا، ولا نعشقها ونتكالب عليها؛ لأنها فانية زائلة، وما هي إلا كالزينة، والزينة ليست أصلاً، ولا تبقى لأحد أبداً، وكذلك الدنيا، فهل أرباب المال يبقى لهم أموالهم؟ وهل السلاطين والحكام يبقون لهم حكمهم وسلاطينهم؟ أبداً.
ومعنى هذا: يا أولياء الله! أقبلوا على الآخرة واستدبروا الدنيا، فإن الآخرة باقية خالدة، والدنيا فانية زائلة، فلا تتكالبوا على الفاني وتتناسوا الباقي وتتجاهلوه، بل لو عرف المؤمنون هذا والله لما أصبح يوجد بينهم من يمد يده ويسأل أبداً، إذ ماذا يفعلون بهذه الأوساخ؟ يبحثون عمن يأخذ عنهم، وقد مرت على الصحابة والتابعين حال والله يخرجوا بالصدقة فلا يجدوا من يأخذها أبداً، وإذا بنا نجد السرقة والتلصص والخيانة والربا والباطل، وكله من أجل المال، والله يقول:
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
[الكهف:46].
ثم قال تعالى مقابل هذه الزينة الفانية:
وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا
[الكهف:46]، معاشر المستمعين والمستمعات! لفظ (الباقيات الصالحات) لفظ عام يشمل كل ما تسمعون، فمثلاً: الصلوات الخمس من الباقيات الصالحات، وقولك: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، من الباقيات الصالحات، فاحفظوا هذا الذكر واتخذوه ورداً لكم في الصباح أو المساء، فإنه من الباقيات الصالحات، والله لمن الباقيات الصالحات، وقد جاء هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله )، وقد أخرج هذا مالك في موطئه، فاتخذوه ورداً لكم إما في الصباح أو المساء، فترده نفوسكم فتطمئن وتسكن وتعرضون عن أوساخ الدنيا وأوضارها، فالقلب الذي يتقلب واللسان ينطق: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهذه الباقيات الصالحات.
ثم كل عمل صالح من ذكر أو دعاء أو تسبيح أو صدقة أو صلة رحم أو معروف أو إحسان، بل كل الأعمال الصالحة باقيات صالحات، فيشملها هذا اللفظ، أي: كل عمل صالح هو باقي أجره لصاحبه يوم القيامة، وهو خير عند ربك ثواباً وخير أملاً.
وورد أيضاً أن الذي ينجب بنات صالحات يبقون بعده هن الباقيات الصالحات، إذ روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أُخذ رجل بين يدي الله إلى النار، فتعلق بناته الصالحات وقلن: يا ربنا! يا ربنا! هذا والدنا كان وكان، فاستجاب الله للصالحات وأنجى والدهن من النار )، ولا حرج، ألسن الباقيات الصالحات؟
وهكذا نبدأ بالصلوات الخمس، ثم نثني بالتسبيح الوارد، ونثلث بالعبادات والصالحات مطلقاً، حتى السلام عليكم، والابتسامة في وجه المؤمن، إذ هي باقية وصالحة، إلى أن نربي بناتنا تربية إسلامية ربانية ليكن صالحات ويشفعهن الله فينا.
فهكذا يقول تعالى وقوله الحق
وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ
[الكهف:46]، مقابل ماذا؟ و
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
[الكهف:46]، أما الباقيات الصالحات فخير عند ربك ثواب وجزاء وعطاء، وخير أملاً يأمله العبد ويرجوه ويطلبه، وليست الباقيات الصالحات الأموال وأوساخها، ولا الحكم والسلطان والدولة وما إلى ذلك من أوضار الدنيا.