ثم قال تعالى:
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا *
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ 
[الكهف:23-24]، وقد سبق أن علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكفار قريش: (
غداً أجيبكم )، فأخطأ في هذه وعاتبه ربه ومنع الوحي عنه، والآن علمه كيف يفعل، فقال:
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا 
[الكهف:23]، إلا أن تقول: إن شاء الله، وهذا منهج الرسول وأتباعه، ولذا فما منا من أحد يقول: سأسافر غداً إلا قال: إن شاء الله، أو قال: سأتزوج العام المقبل يقول: إن شاء الله، أو قال: سأسافر يقول: إن شاء الله، ومن نسي وذكر بعد ذلك فليقل: إن شاء الله ولو بعد عام، فإن كان اليمين فلا بد وأن يقول: إن شاء الله، أو إلا أن يشاء الله باتصال، وإلا تجب عليه الكفارة، فمثلاً قلت: والله لا أكلمك، فإن قلت: إلا أن يشاء الله فقد انتفى بهذا الاستثناء، لكن إن قال بعد ساعة أو ساعتين: إلا أن يشاء الله لا ينفعه، وبالتالي يجب عليه الكفارة.
مرة أخرى: إذا أراد أحدنا أن يفعل شيئاً في المستقبل فيجب عليه أن يقول: إن شاء الله، أو إلا أن يشاء الله، فإن نسي وما قالها وتذكر بعد شهر أو بعد عام، وقال: أنا قلت كذا وما قلت: إن شاء الله، فله أن يقولها الآن وتقبل منه، ويستثنى من هذا: الحلف أو اليمين، فإن قلت: والله لا آكل طعامك إلا أن يشاء الله، فلك أن تأكل بعد ذلك، أما إذا قلت: والله لا آكل هذا الطعام وسكت، ثم بعد ساعة أو ساعتين قلت: إلا أن يشاء الله لا ينفع، وبالتالي تجب عليك الكفارة إذا أردت أن تأكل.
ومرة أخيرة: إذا أردت أن تفعل شيئاً في المستقبل فلا بد وأن تقول: إن شاء الله؛ لأن المشيئة لله فقط لا للعبد، ولذلك لما تقول: غداً سأتزوج؛ فهل تملك نفسك حتى تحيا إلى غد؟ فاستح وقل: إن شاء الله، أو إلا أن يشاء الله، ثم إذا نسيت هذا الاستثناء أو غفلت عنه ثم تذكرت، ففي أي ساعة قله يقبل منك، ولو بعد عام، اللهم إلا الحلف، فمن قال: والله لا أقف هذا الموقف، فإن قال: إلا أن يشاء الله فله أن يقف أو لا يقف، وإن سكت وما استثنى ومضت ساعة من الزمن وقال: إن شاء الله لا ينفعه ذلك، ووجبت عليه كفارة اليمين، وهي: إن كان هناك عبيد يعتق عبداً، فإن لم يوجد عبيد يكسو عشرة بالثياب والعمائم أو يطعم عشرة مساكين من قوت أهل البلد، ككيلو دقيق أو كيلو تمر أو كيلو رطب أو كيلو أرز، فإن لم يستطع صيام ثلاثة أيام.
ثم اعلموا أنه لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يحلف بغير الله تعالى، ومن حلف بغير الله والله لقد أشرك، إذ هذا المحلوف به أشركه في عظمة الله وجلاله وكماله، وسوَّاه بالله وحلف به، والحلف بالله أن يقول: والله أو بالله أو تالله لأفعلن أو لا أفعلن، وهذه ثلاث صيغ، فإن استثنيت وقلت: إلا أن يشاء الله نجوت، فإن لم تستثني وحنثت فيلزمك الكفارة، وهي التخيير بين أن تطعم أو تصوم ثلاثة أيام.
فهيا بنا نقرأ الآية الكريمة من سورة المائدة المباركة:
فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ
[المائدة:89]، والشاهد عندنا هذه المطلوبة الأربعة: فأولاً: العتق، لكن لا وجود للرقيق عندنا، ثم لو وجد وهو مخير بين هذا وذاك، لكن المهم العتق ثم الكسوة، أي: كسوة الرجل ثوب يستر به جسمه، وشيء يضعه على رأسه، وكسوة المرأة خمار يغطي رأسها، وثياب تستر جسمها، فإن ما استطاع هذا ولا ذاك يطعم عشرة مساكين، فإن ما استطاع يصوم ثلاثة أيام، فهذه هي كفارة اليمين، وسميت كفارة لأنها تكفر، أي: تغطي الإثم وتستره، وذلك لما تجاهل العبد وحلف بالله وحنث إذاً تأثم أو علق بنفسه إثم، وهذا الإثم ما الذي يزيله؟ الماء والصابون؟ والله ما ينفعان، إذاً بم يمحى؟ يُكفَّر بما بين الله تعالى من التخيير بين ثلاثة أمور، فإن لم يستطع صام ثلاثة أيام.
إذاً: يقول تعالى:
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ
[الكهف:23-24]، فعلم الله رسوله كيف يفعل؛ لأنه أخطأ في المرة الأولى.
ثم قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ
[الكهف:24]، فمن نسي الاستثناء وذكر بعد ذلك فليقل: إن شاء الله ولو بعد عام، إلا أن الاستثناء إذا لم يكن متصلاً باليمين فإنه لا ينفع، فلو أنه انقطع بفترة من الزمن واستثنى فله أجر ولكن الكفارة لازمة له.
وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا
[الكهف:24]، فأعلن عن رجائك لله أن يهديك للعلوم والمعارف والهداية الإلهية في رسالتك ونبوتك، وهذه ضربة على وجوه المشركين.
ثم قال تعالى:
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ 
[الكهف:25]، من هم الذين لبثوا في كهفهم؟ أصحاب الكهف السبعة مع الكلب.
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ
[الكهف:25]، فاليهود على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: لا، إنما هذه الثلاثمائة من يوم ما كانوا في الغار إلى اليوم، أي: على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجادلوا رسول الله وقال الله لنبيه: لا تجادلهم، وهم مخطئون في ذلك، إذ إنهم أرادوا أن يبطلوا أنهم مكثوا في الغار ثلاثمائة سنة وتسع سنين، فقالوا: هذه الفترة معناها: من يوم ما خرجوا من الغار إلى اليوم، والآية تنزل.
مرة أخرى: اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -ولعلهم إلى اليوم- لا يؤمنون بأن الفتية مكثوا في الغار ثلاثمائة وتسع سنين، وإنما قالوا: هذه الفترة أو هذا العدد من الزمن من يوم ما دخلوا الغار إلى اليوم الذي نزلت فيه سورة الكهف، وقولهم هذا باطل، والله تعالى يقول:
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا
[الكهف:25]، وهذا بحساب القمر، وأما بحساب الشمس فثلاثمائة فقط، إذ كل ثلاثين سنة فيها سنة زائدة، فثلاثمائة سنة بتسع سنين.
والآن مع هداية هذه الآيات، فما معنى من هداية الآيات؟ إن كل آية لها هداية، فتهدي إلى أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن البعث الآخر حق، فمثلاً: هذه الآية:
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا 
[الكهف:25]، من أنزلها؟ الله، إذاً الله موجود، فهل يعقل أن يوجد كلام بدون متكلم؟ محال، إذاً من تكلم بهذه الآية؟ الله، إذاً هذا كلامه، فهل ادعى مخلوق فقال: إن هذا كلامي؟ والله ما كان لا من الإنس ولا من الجن، إذاً هذا كلام الله تعالى، وبالتالي فالله موجود.
ثانياً: الله عليم حكيم ورءوف رحيم ذو الصفات والكمال، وإلا لمَ يهد الناس بهذا القرآن؟
ثالثاً: هذه الآية على من أنزلت؟ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً: فمحمد والله لرسول الله، إذ كيف ينزل عليه القرآن وما هو برسول؟ هل يعقل أن يقال هذا؟ إذاً كل آية تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، إذاً فلمَ أرسل الله رسوله وأنزل كتابه؟ من أجل أن يعلم الناس، ومن أجل أن يسعدوا في الحياة الآخرة الأبدية الدائمة، إذ لا بد من الحياة الآخرة حتماً، وقد قضى الله عز وجل بذلك.
ودائماً نقول: هذه الدار دار عمل، أو هذه الحياة حياة عمل خيراً أو شراً، والدار الآخرة دار جزاء خيراً بالجنة أو شراً بالنار، وثقوا واطمأنوا بذلك، فمن عمل صالحاً ورث دار السلام الجنة، ومن عمل سيئة ورث دار النار الوبار والخسران والعياذ بالله، وهذه الدار تنتهي لأنها دار عمل، فتشتغل أربع وعشرين ساعة أو ستة أشهر أو سنة وتأخذ أجرتها، فهل هناك من يطالب بالأجرة قبل نهاية العمل؟ لا يعقل أبدً، فلهذا اعملوا، والجزاء المقابل هو في الدار الآخرة لا في هذه الدار، فهل عرفتم ما معنى الهداية؟ إن كل آية تهدي إلى أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وفي القرآن ستة آلاف ومائتين وأربعين آية.
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات: أولاً: بيان اختلاف أهل الكتاب وعدم ضبطهم للأحداث التاريخية ]، بيان اختلاف اليهود والنصارى، وبيان ضعفهم وجهلهم، وأنهم لا علم سليم لهم، وإنما يتخبطون، فهذا يقول كذا وهذا يقول كذا، ويكذب بعضهم بعضاً؛ لأن العلم الصحيح نتلقاه من الله بالوحي الإلهي، أما اجتهاد المؤرخين وكلامهم فدائماً فيه الزيادة والنقصان والتقديم والتأخير، وأخذنا هذا من قول الله تعالى:
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا 
[الكهف:26].
قال: [ ثانياً: بيان عدد الفتية أصحاب الكهف وأنهم سبعة وثامنهم كلبهم ]، فالآن نحن نوقن أن فتية أصحاب الكهف كانوا سبعة والثامن هو الكلب، ولا نقبل القول بأنهم ستة والسابع الكلب، أو أنهم خمسة والسادس الكلب، أو أنهم ثلاثة والرابع الكلب، إذ إن هذا كله من ترهات اليهود وأباطيلهم، وقد وقرر تعالى أنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
قال: [ ثالثاً: من الأدب مع الله تعالى ألا يقول العبد سأفعل كذا مستقبلاً إلا قال بعدها: إن شاء الله ]، فنعيش عليها يا أبناء الإسلام ويا أمهات المؤمنين! فإذا كان الشيء مستقبلاً فإياك أن تنسى كلمة: إن شاء الله، فمثلاً: أقول: الآن سنصلي العشاء، بعدها مباشرة أقول: إن شاء الله، إذ لو ما شاء والله ما صلينا، ومن نسيها وتذكرها يقولها ولو بعد عام، فيعترف بخطئه ويقولها، لكن في كفارة اليمين لا تنفع قولها بعد فترة؛ لأنها ما اتصلت، فمثلاً: أقول: والله لا أقول كذا إلا أن يشاء الله، فإنها تنفع، أما أقولي: والله لا أقول كذا، ثم بعد ساعة قلت: إن شاء الله، لا ينفع ذلك.
قال: [ رابعاً: من الأدب من نسي الاستثناء أن يستثني ولو بعد حين، فإن حلف لا ينفعه الاستثناء إلا إذا كان متصلاً بكلامه ]، فنحن معاشر المؤمنين والمؤمنات! دائماً نستثني بتعليم الله لرسولنا؛ إذ قال له:
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ
[الكهف:23-24]، ونحن أتباعه، فكل قول أو عمل في المستقبل نستثني، ومن استثنى نفعه استثناؤه، ومن نسي الاستثناء وتذكر بعد حين ينفعه فيقول: إن شاء الله، اللهم إلا في اليمين، فلا بد من الاستثناء المتصل مع الكلام، إذ لو سكت لحظة لأجل أن يتنهد أو عطس أو سعل فمعفو عنه، لكن إذا كان هادئاً وما قال: إن شاء الله، لزمه الكفارة.
وصلى الله على نبينا محمد وآله.