إسلام ويب

تفسير سورة الكهف (6)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من سمات أهل الكتاب أنهم لا يكادون يضبطون الأحداث التاريخية، ومن ذلك كلامهم في عدة أصحاب الكهف، ومقدار لبثهم في كهفهم، فذكر بعضهم في عدتهم أنهم ثلاثة فتية والكلب رابعهم، وبعضهم قال: بل هم خمسة وسادسهم كلبهم، ولكن الله عز وجل بين أنهم كانوا سبعة والثامن الكلب، ثم اختلفوا في مدة بقائهم في الكهف، فقال بعضهم أن ما ذكره الله من الثلاثمائة وتسع سنين، إنما هو الوقت بين وجودهم في الكهف وحديث النبي عنهم، فرد الله قولهم مثبتاً أن هذه المدة إنما كانت مدة مكثهم في الغار.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    ها نحن الليلة مع سورة الكهف المكية المباركة الميمونة، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات، وتلاوتها:

    قال تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا * وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف:22-26].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم واحفظوا ما تسمعون: سورة الكهف لها سبب في نزولها، والسبب هو أن كفار قريش بعثوا وفداً من مكة إلى اليهود بالمدينة، وهذا الوفد يقول لليهود: ما تقولون في هذا الذي يدعي النبوة والرسالة في مكة؟ هل هو نبي ورسول؟ ماذا ترون فيه؟ فقال علماء اليهود للوفد: -وفيهم علماء، ومن أفضلهم من أسلموا كـعبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه- سلوه عن ثلاثة أشياء، فإن أجاب عنها فهو نبي ورسول، وإن لم يجب عنها فهو ليس بنبي ولا رسول، وروا رأيكم فيه كما تريدون، وقالوها في صدق، ولذلك لما جاء الوفد اتصلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: نسألك عن ثلاثة أشياء: عن الروح؟ وعن فتية في الزمن الماضي لهم شأن؟ وعن ملك ملك الشرق والغرب؟

    فاستعجل صلى الله عليه وسلم لبشريته فقال: ( غداً أجيبكم عما سألتم )، فمن ثم أدبه ربه فمنع عنه الوحي والله خمسة عشر يوماً، وكان في هم وكرب عظيم، وقد أزال الله كربه وهمه فأنزل عليه سورة الضحى، واسمعوا إلى الصيغة، فهي صيغة عتاب وإزالة العتاب: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1-2]، وهذه يمين، قم قال: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3]؛ لأن أم جميل امرأة أبي جهل أصبحت تقول: مذمماً أبينا ودينه قلينا، ثم قال تعالى: وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:4-11]، فهذه السورة نزلت من أجل مسح دموع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكربه الذي أناله بسبب انقطاع الوحي نصف شهر، وعند ذلك قالوا: إن محمداً يكذب علينا، إذ إنه ما أجاب عما سألناه، وبالتالي ليس هو بنبي ولا رسول.

    ثم أنزل الله تعالى سورة الكهف وفيها الإجابة عن الفتية، وعن الملك الذي ملك الشرق والغرب، كما أنزل من سورة الإسراء قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85]، أي: هو أعلم بها، إذ الروح من أمر الله وشأنه، فماذا تعرف عن الروح في الجسد؟

    ونحن لا زلنا مع الفتية الذين ضايقهم مواطنوهم وشددوا عليهم، ومشوا بهم إلى الملك الحاكم، وأرادوا أن يحملوهم على الكفر والشرك، فعزموا على الهجرة وترك البلاد، إذ الهجرة واجبة وفريضة إذا حيل بينك وبين عبادة ربك، إذ أنت مخلوق لهذه العبادة، فإن حال بينك وبينها من يحول وجب أن تهجر البلد لتعبد الله عز وجل، فخرج الفتية هاربين من ذلك البلد وأهله، فأووا في المساء إلى جبل فيه كهف ودخلوا فيه، وكان معهم كلب يمشي معهم، فأنامهم الله ثلاثمائة سنة وتسع سنين، قال تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ [الكهف:25]، وتسع سنين، وهذا بحساب القمر، وأما بحساب الشمس فثلاثمائة سنة فقط، فالتسع السنين زائدة؛ لأن شهر القمر أكثر، فكل ثلاثين سنة سنة.

    وشاء الله بعد هذه الفترة أن يوقظهم، فاستيقظوا وأجسامهم سليمة كأنهم ناموا من الصباح، وكذلك ثيابهم كما هي، ما أثر فيها الأرض أبداً ولا أكلتها، ومن تدبير الله أنه كان يقلبهم يميناً وشمالاً، فلما استيقظوا بعثوا أحدهم بنقود كانت في جيوبهم، وهذه النقود هي دراهم أو فضة ليأتيهم بالرزق الطيب، ولما دخل أنكره أصحاب البيع والشراء وتعجبوا، فمشوا وراءه فعثروا عليهم، وكان الوضع قد اختلف، فالآن الملك مسلم والشعب أيضاً أكثره مسلم، كما اختلفوا في عددهم وفي المدة التي لبثوا فيها، واسمعوا إلى جواب الله تعالى.

    قال تعالى وقوله الحق: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22]، أي: سيقول المختلفون من أهل البلاد: هم ثلاثة والرابع هو الكلب، والبعض الآخر يقول: هم خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ [الكهف:22]، أي: قول بدون علم ولا يقين، إذ يرمون الكلمة هكذا وليس عن علم.

    ثم قال تعالى: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22]، والقائل بهذا قد أصاب، قال ابن عباس: أنا كنت ممن قال الله: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [الكهف:22]، فأنا من هذا القليل، إنهم سبعة والكلب هو الثامن.

    إذاً: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ [الكهف:22] لا بعلم ويقين، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ [الكهف:22]، يا رسولنا والمبلغ عنا: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ [الكهف:22]، أي: بعددهم، مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [الكهف:22]، ومن القليل رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عباس كذلك، فقد قال: أنا من القليل، والظاهر أنهم كانوا سبعة وكلبهم هو الثامن.

    ثم يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَلا تُمَارِ فِيهِمْ [الكهف:22]، أي: لا تجادل اليهود في هذه القضية، إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا [الكهف:22]، كما هو في الآية، وبالتالي فلا حاجة إلى الجدال مع هؤلاء؛ لأن بعضهم يقول كذا، وبعضهم يقول كذا، وشاع ذلك في البلاد، ولستَ في حاجة إلى هذا.

    ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف:22]، أي: لا تسأل يهودياً في المدينة أو في غيرها مهما كان علمه، إذ ما يعلمون إلا قليلاً، وقد أعلمك الله وعلمك، فهل فهمتم هذا الخطاب الإلهي؟

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088535846

    عدد مرات الحفظ

    777188781