إسلام ويب

تفسير سورة المائدة (47)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شرع الله عز وجل لعباده الوصية في الحضر والسفر وحث عليها ورغب فيها، ومن كان موصياً بشيء فلابد أن يشهد على وصيته أثنان ذوا عدل من المسلمين، فإن كان في سفر أو في أرض غير أرض المسلمين، ولم يجد مسلمين يشهدان فله أن يشهد كافرين على وصيته، فإن حصلت ريبة في شهادتهما فيحلفان عليها، فإن عثر على أنهما كذبا في الشهادة فيؤتى بشاهدين آخرين يقومان مقامهما ويردان شهادتهما ويعيدان الحق إلى أصحابه.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن ما زلنا -والحمد لربنا- مع سورة المائدة المباركة، الميمونة، ومعنا هذه الآيات الثلاث، وهن من أعظم الآيات في القرآن الكريم، احتار لهن العلماء وكبار الصحابة والتابعين والأئمة، فهيا نتلو ونستمع ونتدبر ونتأمل، فإذا جاء الشرح وجدنا أنفسنا على علم.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المائدة:106-108].

    سبب نزول الآيات

    أذكر لكم ما قيل في سبب نزولها أولاً لتتفهموا معنى الآية: كان تميم الداري رضي الله عنه وعدي بن بداء في الجاهلية تاجرين يتجران من مكة إلى الشام، فخرجا وهما على كفرهما ومعهما رجل آخر، فحضرته الوفاة في الشام ومعه أحسن ما يملك، معه جام من الذهب أراد أن يبيعه لملوك الشام، وهو ذو قيمة كبيرة، فلما حضرته الوفاة قدم إليهما أمواله ومنها الجام هذا وأوصاهما أن يبلغا أمواله إلى أهله بمكة، فلما وصلا إلى مكة قدما ما ترك من مال وأخفيا الجام، وقالا: هذا الذي تركه وليكم.

    إذاً: فماذا يصنع أهل الميت؟ سكتوا، لكن قالوا: إن لولينا جاماً من ذهب يبلغ كثيراً، فأين ذهب؟ قالا: هذا الذي تركه. وتمضي الأيام ويدخل تميم الداري في الإسلام، قال: فأسلمت وتأثمت، أي: خفت من الإثم، فرددت نصف الذي أخذته من المال، إذ باعا الجام بألفي دينار أو درهم، فدفع خمسمائة لأهل الميت خوفاً من الله عز وجل، والآخر ما زال على كفره، ابن بداء، فرفعت القضية إلى رسول الله بالمدينة، فأنزل الله تعالى هذه الآيات في هذه القضية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ [المائدة:106]، فيما بينكم، إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [المائدة:106]، أشرف عليه في سياقاته، ليس معناه: شاهد الموت.

    معنى قوله تعالى: (اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم)

    اثْنَانِ [المائدة:106]، اثنان يشهدان على ما ترك ووصى هذا الميت، ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:106]، وهذا قاعدة إلى يوم القيامة: لا تشهد إلا صاحب العدل، كتبت وصيتك فأشهد عليها من هم معروفون بالعدل، أما المعروفون بالحيف والظلم والجور فلا يحق لهم ذلك، ولا يجوز استشهادهم، والآن المحكمة لا تقبل شهادة أي شخص، لا بد أن تثبت عدالته ولو بشاهدين يزكيانه.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [المائدة:106]، أي: من غير المسلمين كأهل الكتاب، وهذا القول الراجح، ومنهم من يقول: من قبيلة أخرى أو ناس آخرين، لكن الذي قال به إمام أهل السنة الإمام أحمد هو هذا، وهو أصح ما قيل وإن خالفه الجمهور، (مِنْ غَيْرِكُمْ) أي: من أهل الكتاب.

    معنى قوله تعالى: (إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ...)

    إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [المائدة:106]، أما في بلد الإسلام فما يجوز أن تستشهد كافراً من أهل الذمة اليهود والنصارى، تترك المسلمين وتأتي لتوصي وتشهد كافرين! ما يجوز هذا، لكن إذا كنت في بلاد الكفر في بريطانيا أو أمريكا فإنك تشهد، إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [المائدة:106]، ما معنى الضرب في الأرض؟ الضرب بالرجل، فالمسافر يضرب الأرض، ما يرفع رجلاً حتى يضع الثانية، عجب هذا القرآن الكريم! والماشي كم يضرب الأرض مرة؟ ألف مرة أو آلاف المرات، والمراد من الضرب هنا: السفر للتجارة وغيرها، إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ [المائدة:106]، والموت أكبر مصيبة وأعظمها لا مصيبة أجل منها، تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ [المائدة:106]، تحبسون الشاهدين إذا شك فيهما أو اتهما، ما اقتنع أهل الميت بشهادتهما، فماذا تفعلون بهما؟ تأتون بهما إلى المسجد بعد صلاة العصر، أولاً: المسجد لأنه مكان مقدس ما يستطيع يهودي ولا نصراني ولا مسلم أن يكذب فيه، بل يرهب وترتعد فرائسه، وبعد صلاة العصر بالذات؛ لأن هذا الوقت -كما تعملون- ينزل فيه ملائكة الليل ويعرج ملائكة النهار بأعمال العبد في نهاره وليله، وعند المحراب.

    إذاً: تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ [المائدة:106]، أي: يقولان: بالله الذي لا إله غيره! ما ترك فلان إلا كذا، أو ترك فلان كذا، فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ [المائدة:106]، هذا كله إذا شككتم، أما إذا ما شككتم في الشاهدين على الوصية فما هناك حاجة إلى هذا، لكن إذا شككتم فلا حيلة إلا هذا، إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [المائدة:106]، أي: الشاهدان يحلفان يقولان: لا نشتري بعهدنا وميثاقنا وأيماننا ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ [المائدة:106]، لماذا؟ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ [المائدة:106]، كيف نرضى أن نأثم؟

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088454810

    عدد مرات الحفظ

    776833950