إسلام ويب

تفسير سورة المائدة (51)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أفرط النصارى في رفع عيسى عليه السلام حتى اتخذوه إلهاً من دون الله، ويوم القيامة يوقفه الله عز وجل ويسأله -سؤال المبكت للنصارى على فعلهم- عن صحة ما فعلوه من تأليهه وعبادته من دون الله، وموقفه عليه السلام من ذلك، حتى يقيم الحجة على النصارى الكاذبين، ويرفع مقام نبيه الصادق الأمين.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع خاتمة سورة المائدة المباركة، الميمونة، نودعها في ليلتنا هذه وعسى الله أن يردنا إليها إن أطال أعمارنا مرة أخرى، وهو على كل شيء قدير، ومعنا خمس آيات، فهيا نتلوها متدبرين، متفكرين، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:116-120].

    قول ربنا: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ [المائدة:116]، أي: اذكر يا رسولنا، يا خاتم أنبيائنا، يا محمد صلى الله عليه وسلم، اذكر: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ [المائدة:116]، وذلك في عرصات القيامة، ما هو في هذه الحياة، وذلك يوم يبعث الله الخلائق.

    وما قال: وإذ يقول الله، وإنما: اذكر إذ يقول الله، فهذا أمر متحقق مقطوع الوجود يعبر بالماضي عنه لا بالمضارع، ومثله: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1]، وهو قيام الساعة.

    تبكيت الله للنصارى بسؤاله لعيسى عليه السلام عن تأليههم له

    اذكر وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ [المائدة:116]، قال له مستفهماً إياه ليبكت النصارى وليذلهم ولتقوم الحجج أمام العالم الموجود عليهم: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ [المائدة:116]، وحاشا عيسى أن يقول ذلك، ولكنه التوبيخ والتقريع والتأنيب لأولئك الذين ألهوا عيسى وأمه وعبدوهما من دون الله، أما عيسى فقد تقدم خبره: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، هذا فيه تقريع وتأنيب وإقامة الحجة أمام العالم والمخلوقات يومئذ على هؤلاء عبدة المسيح، وعلى الكافرين به من اليهود، ولو كانت الهداية بيد الإنسان لما وجد يهودي ولا نصراني يسمع هذه الآيات إلا قال: آمنت بالله، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لكن الله يدخل في رحمته من يشاء.

    رد مزاعم النصارى في نفي تأليههم لمريم عليها السلام

    أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ [المائدة:116]، من أم عيسى؟ مريم البتول العذراء، ويوجد الآن من يقول: نحن ما ألهنا مريم ، ووالله! لقد ألهها مئات بل ملايين منهم، والله أخبر وهو العليم الخبير، والله! لقد اتخذوها إلهاً مع الله، وإن لم يتخذها هؤلاء الفلانيون فهؤلاء اتخذوها، وهم اثنتان وسبعون طائفة.

    واتخاذهم لها إلهاً بمعنى: أنهم عبدوها، يقدسون اسمها ويرقصون ويدعون ويستغيثون به، هذا هو التأليه، هذه هي العبادة، فالذين ضلوا من أمة الإسلام عندما يقدسون الأولياء ويدعونهم ويستغيثون بهم ويرفعون أصواتهم أليس ذلك هو التأليه والعبادة؟ والله! إنه لهو التأليه والعبادة، يقولون: ما ألهناهم أبداً، ما اتخذنا عبد القادر إلهاً مع الله. ووالله! لقد اتخذتموه إلهاً ما دمتم تستغيثون به، تقولون: يا راكب الحمراء.. يا مولى بغداد.. يا سيدي عبد القادر وأنت في الغرب والشرق، تدعونه دعاء الله وتقولون: ما عبدناه؟ أية عبادة أعظم من هذه؟ وتقول: هذه الشاة لسيدي عبد القادر ، هذه البيضة لسيدي عبد القادر ، والمرأة تريد أن تنتج الدجاجة فتأتي بالبيض الملقح وتضع عشر بيضات تحت الدجاجة وتعلم على واحدة بالفحم الأسود وتقول: هذه لسيدي عبد القادر ؛ حتى يبارك الجميع ويخرج الدجاج، من إندونيسيا إلى موريتانيا هذا هو الحال، هبطت هذه الأمة أكثر من ثمانمائة سنة.

    والشاهد عندنا في تأليههم لعيسى ومريم ، ولا يقل قائل: ما ألهنا مريم ؛ فقد عبدتموها، ما قلتم فيها: إله، بل قلتم: أم الإله، ولكن دعاؤها والاستغاثة بها والذبح لها والركوع والانحناء وتعليق صورتها هذه هي العبادة، هذا هو التأليه. والشاهد عندنا أنه قد يقول قائل: ما ألهنا مريم. والله يقول -وقوله الحق- في عرصات القيامة: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة:116].

    جواب عيسى عليه السلام عن سؤال ربه عز وجل

    فقال عيسى: سُبْحَانَكَ [المائدة:116]، تنزيهاً لك وتقديساً عن أن يعبد معك غيرك، ما يكون لي أبداً وليس من شأني أن أقول ما ليس لي بحق، وهل لي من حق في أن أعبد أنا؟ فهل أنا خلقت، هل أنا رزقت، هل أنا أمت، هل أنا أحييت؟ كيف يكون لي حق العبادة، إذ العبادة تكون بالحق؟ فالذي خلقك ورزقك وحفظ حياتك وأوجد الكون كله هذا يستحق عبادتك، أما الذي لا دخل له فيك أبداً فكيف تعبده؟

    مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة:116]، كوني أقول للناس: ألهوني أو ألهوا أمي ما عندي حق بهذا، إنما يعبد الله عز وجل بحق إيجادنا وحفظنا وامتداد حياتنا وخلق الحياة كلها من أجلنا، هذا يستحق أن يعبد، أما الذي ما خلق ولا رزق ولا أمات ولا أحيا ولا أصح ولا أمرض فكيف يعبد؟ بأي حق؟

    ثم قال: إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [المائدة:116]، من باب الفرض والتقدير، والعالم كله يسمع في عرصات القيامة، إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ [المائدة:116]، أي: هذا القول، وهو أني قلت للناس: ألهوني ووالدتي، إن كنت قلته فأنت تعلمه، وزيادة أنك تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي [المائدة:116]، إن كنت أخفي شيئاً ولا أظهره فأنت تعلم ما في باطن نفسي، وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116]، فسرك لا أعرفه وأما سري أنا فإنك تعرفه، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:116]، هذا التذييل: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:116]، الغيوب كلها أحاط بها علم الله عز وجل، وكيف لا وهو خالقها، من النملة إلى كوكب السماء، كل الخلق مخلوق لله، ألا يعلم من خلق؟ أيخلق الشيء ولا يعلمه؟ كيف يقع شيء ويقال: غاب عن الله وهو خالقه؟

    مَا قُلْتُ لَهُمْ [المائدة:117] يا رب إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ [المائدة:117]، الذي أمرتني أن أقوله لهم قلته، والذي ما أمرتني أن أقوله ما قلته، أنا عبدك ورسولك، والذي أمره الله أن يقوله هو: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة:117]، (أن) التفسيرية، أي: اعبدوا الله ربي وربكم، هذا الذي قلته، هذا الذي أمر الله به عيسى وأمر به رسوله محمداً وكل المرسلين، كل رسول يقول للناس: اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة:117]، فكيف نعبده؟ أي: عظموه وأطيعوه وأحبوه وخافوه وارهبوه، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ [المائدة:117]، وهو: اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة:117]، اعبدوه بتعظيمه وإجلاله وإعظامه والرهبة منه والخوف، وطاعته فيما يأمر وفيما ينهى.

    وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة:117]، لما كنت حياً بينهم موجوداً فيهم كنت شاهد على ما يقولون وما يعملون، فلما توفيتني توليت أنت ذلك، هذه التوفية هي توفيته الأيام التي كتب له أن يعيشها في الدنيا، ثم رفعه إلى الملكوت الأعلى، تقول: وفيت فلاناً دينه: أعطيته حقه، وفيته ما وعدته به، فالله عز وجل وفى عيسى ما كتب له أن يعيش في الدنيا آمراً ناهياً رسولاً في بني إسرائيل ثلاثاً وثلاثين سنة ثم رفعه، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي [المائدة:117] وفيتني أيامي التي كتبتها لي. وسوف ينزل عما قريب ويعيش إن شاء الله ثلاثين سنة أخرى، وهو الذي يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، هذه الأخبار شاهدة صادقة والذي ينكرها يكفر، وفي القرآن الكريم: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ [الزخرف:61]، ذكر أن عيسى علم على الساعة، ساعة نهاية هذه الحياة، وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا [الزخرف:61].

    إذاً: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ [المائدة:117] بعد ذلك أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة:117]، هو مطلع وعالم بحالهم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088552233

    عدد مرات الحفظ

    777283858