إسلام ويب

تفسير سورة الأعراف (3)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • عداوة إبليس لآدم وذريته قائمة منذ أن خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة، إذ إن الله تعالى لما خلق آدم وسواه على صورته أمر ملائكته أن يسجدوا له، فسجدوا كلهم إلا إبليس غلبه الكبر والحسد فأبى أن يسجد، فسخط الله عز وجل عليه وأخرجه من رحمته، فكان أن أعلن إبليس عداوته الأبدية لبني آدم وكيده لهم، حتى يتبعه أكبر عدد منهم ويدخلون في سخط الله كما دخل.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة.

    من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).

    وها نحن مع سورة الأعراف المكية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات فهيا نستمع إلى تلاوتها مجودة مرتلة، ثم نأخذ في شرحها وبيان ما تحويه من الهدى والنور لأهل الإيمان.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ [الأعراف:11-18].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هيا بنا ننتقل إلى الملكوت الأعلى، فقبل أن نكون ولم يكن آباؤنا وأجدادنا، من أين جاءنا هذا العلم؟ من الله، وكيف نعرف هذا العلم، وقد تم في الملكوت الأعلى قبل وجود آدم؟ هذا فضل الله علينا في هذا الكتاب العظيم القرآن الكريم.

    معنى قوله تعالى: (ولقد خلقناكم)

    يقول الحق عز وجل: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ [الأعراف:11] من الخالق لنا؟ الله، فلو تجتمع البشرية هل تستطيع أن تثبت خالقاً غير الله؟ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54] لا خالق إلا هو، والخلق: هو الإيجاد.

    من أوجدنا على سطح هذه الأرض؟ الله. فلنستمع وهو يمتن علينا بهذه النعمة -نعمة الإيجاد- وهي من أجل النعم وأعظمها؛ من أجل أن نشكره على ذلك، فنقول: الحمد لله.

    وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ [الأعراف:11] يعني بقوله: خَلَقْنَاكُمْ [الأعراف:11] خلق آدم عليه السلام؛ إذ لم يكن آدم موجوداً، وأراد الله أن يوجده فأمر ملائكته فجمعت له من طينة الأرض وتربتها، من كل هذه الأرض من حزمها ومن رطبها ويابسها، وجمعها وطيناً وتركها أربعين سنة، ثم خلق آدم منها وصوره.

    فقوله في امتنانه علينا: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ [الأعراف:11] يعني: خلق أبانا آدم ونحن ذريته منه، وصورناكم، أما كان طيناً فقط، ثم صوره فجعل له السمع والبصر والنطق والأذن والجسم كاملاً على صورة لم يسبق لها نظير أبداً إلا في كتاب المقادير؟

    سجود الملائكة لآدم سجود تحية لا سجود عبادة

    ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الأعراف:11] فبعدما نفخ الله فيه الروح وأصبح إنساناً كاملاً -والله هو المنعم المتفضل بإيجاده وخلقه وتصويره- أراد أن يكرمه؛ فأمر ذلك العالم المقدس .. عالم الطهر .. عالم الأرواح، عالم الملائكة أن يحيوا آدم تحية سجود.

    ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الأعراف:11] هذا السجود سجود تحية لا سجود عبادة، وما زال الناس يحيون ويسجدون لمن يحيونه، وإن كان قد منع هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( لو كنت آمر أحداً بالسجود لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لما يرى له من الحق عليها ) لكن لا سجود إلا لله. هذا السجود سجود تحية لا سجود عبادة؛ لأن سجود العبادة ناشئ عن الخوف من المسجود له، والرهبة والطمع، أما سجود الملائكة لآدم فهم لا يخافونه ولا يرهبونه ولا يطمعونه، وإنما هم أطاعوا الله عز وجل وعبدوه، فالسجود لآدم والعبادة لله عز وجل.

    وله نظير أو مثال حي: فإذا طاف المؤمن بالبيت أليس مأموراً بأن يصلي ركعتين خلف المقام؟ فيصلي ركعتين خلف المقام تكريماً للمقام واعترافاً بمزية كانت له، ولكن الصلاة لله عز وجل، فهذا الحجر لما قدم تلك الخدمة الجلة؛ إذ ساعد على بناء البيت، فلما ارتفع البناء احتاج إبراهيم عليه السلام إلى حجر يعلو فوقه ليواصل البناء، فجاءه إسماعيل بهذا الحجر، فارتفع فوقه، وواصل بناءه، وتركه عند باب البيت، ثم زحزحته السيول إلى مكانه هذا، فأراد الله أن يكرمه لما قدمه من خدمة لبيت الله، فشرع الصلاة ركعتين خلفه، فالصلاة لله والتكريم لهذا الحجر؛ لما قدم لله من خدمة، فسجود الملائكة لآدم ليس سجود عبادة وإنما سجود تحية؛ لأن الآمر الله، والذي أمر هو الذي أطيع، وهو الذي عُبِد، حتى لا يقول قائل: يجوز السجود للآدميين.

    قال: فَسَجَدُوا [الأعراف:11] كم عددهم؟ لا يعرف عددهم إلا الله، فكلمة الملائكة اسم جنس لكل الملائكة، ولهم أن يسجدوا في لحظة واحدة، وامتثلوا أمر الله وسجدوا.

    أصل إبليس وحقيقة العوالم الأربعة وتكليفها

    إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الأعراف:11] إبليس هو المكنى بأبي مرة، وقيل فيه إبليس بعدما أبلسه الله، أي: أيأسه من الخير، ومسحه من كل خير، فأصبح مبلساً آيساً، وأصبح يعرف بإبليس عليه لعائن الله. هذا المخلوق من عالم الجن.

    والعوالم -كما علمنا غير ما مرة- أربعة: عالم الملائكة، وعالم الجن، وعالم الإنس، وعالم الحيوان. وكلها مخلوقة لعبادة الله عز وجل، ولكن التكليف تناول الجن والإنس فقط، فالملائكة فطرهم الله وطبعهم على طاعته، لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] فطرتهم التي فطرهم عليها لا تخرج عن دائرة عبادة الله، والعالم الثاني عالم الجن وهم كعالم الإنس منهم من يشكر ومنهم من يكفر، ومنهم المؤمنون ومنهم الكافرون، وهم الذين يجزون بإيمانهم وبكفرهم، فالمؤمنون في دار السلام -الجنة- فوق الملكوت الأعلى، والكفار في العالم الأسفل في النار.

    وعالم الحيوانات كل ما في الأمر أنهم يسألون يوم القيامة؛ حتى يقتص الله للظالم من المظلوم ويعطيه حقه، ثم بعد ذلك يقول لهم: كونوا تراباً فيكونوا، ويبقى الإنس والجن في الجنة وفي النار.

    كبر إبليس وفساد قياسه في تفضيله النار على الطين

    فقوله تعالى: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الأعراف:11] أي: رفض إبليس أن يسجد، وحمله على ذلك الكبر والعياذ بالله، رفض أن يسجد لآدم من بين الملائكة الذين هم بالبليارات، كلهم سجدوا إلا هو أبى أن يسجد.

    قال له الحق عز وجل: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف:12] ما منعك من السجود لآدم بعدما أمرتك؟ استفهمه وهو يعلم ما في قلبه، فأجاب قائلاً: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف:12] كيف أسجد لمن هو دوني وأنا أفضل منه وخير؟ وبين وجه الخيرية التي انخدع لها، فقال: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12] ففهم أن النار أشرف وأفضل من الطين، وهو قياس فاسد وباطل، الطين فيه سكون، وفيه بركة، وفيه منافع، وأما النار ما فيها إلا الخفة والطيش والاحتراق والعلو، أما السكون والاستقرار والطيب والثمرة الطيبة فتوجد في الطين، فهذه الخضر والفواكه والثمار كلها من الطين وليست من النار، فالنار تحرق فقط، ولها رائحتها ودخانها، فهذا القياس باطل.

    مصادر التشريع الكتاب والسنة والإجماع والقياس

    ولهذا يقولون: القياس جائز في الإسلام، وقد أجمع عليه أهل العلم من هذه الأمة، فالكتاب والسنة والإجماع والقياس هي مصادر التشريع. فالقياس على ماذا؟ على ما في الكتاب والسنة، إذا تلاءم الشيء وأصبح كمراد الله في الآية أو في الحديث يعمل به.

    يذكر أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لـعلي : أقيلوني .. أقيلوني من الخلافة. فقال علي : لا نقيلك ولا نستقيلك. فكيف نقيلك أو نستقيلك وأنت استخلفك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين في الصلاة، فكيف لا نستخلفك في الدنيا؟ فلاحظ معنى القياس، إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد استخلفك في الدين، لما مرض وخرج ليصلي وما استطاع قال: ( قدموا أبا بكر يصلي ) فصلى بالناس، استخلفه في الصلاة في الدين وإلا لا؟

    إذاً فلنقس استخلافك في الدنيا على استخلافك في الدين، وهذا هو المعقول، فإذا رضيك الله خليفة للمؤمنين في الصلاة التي هي العبادة فمن باب أولى أن يرضاك في الدنيا.

    فالقياس على الكتاب والسنة والإجماع جائز، ولكن من أهله؟ أهل العلم والبصيرة، إذا حدثت حادثة ماذا يصنعون فيها؟ هل تجوز أو لا تجوز؟ ينظرون إلى الكتاب والسنة والإجماع، فإن وجدوا ما يجمع بينهما قاسوا هذا على ذاك، فإبليس قياسه فاسد؛ لأنه رأى أن النار أفضل من الطين، فلهذا رفض أن يسجد لآدم المخلوق من الطين، وهو قياس فاسد؛ لأن الطين أفضل، والتربة أفضل من النار، فغذاؤكم من أين من النار وإلا من التربة؟

    قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088521623

    عدد مرات الحفظ

    777102641