إسلام ويب

تفسير سورة الأعراف (48)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يخبر الله سبحانه وتعالى أنه قد خلق لجهنم كثيراً من الجن والإنس، علماً منه سبحانه بأنهم يرفضون هدايته، ويتكبرون عن عبادته، ويحاربون أنبياءه ورسله، وبسبب كفرهم وإعراضهم وتكبرهم فإن قلوبهم لا تفقه، وأعينهم لا تبصر، وآذانهم لا تسمع، فأصبحوا كالأنعام بل وأضل من الأنعام، فهم مستمرون في ضلالهم بسبب غفلتهم عن آيات الله الكونية والتنزيلية.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

    وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) .

    وها نحن ما زلنا مع سورة الأعراف المكية المباركة الميمونة، تلكم الصورة التي تعالج العقيدة:

    أولاً: تقرير أنه لا إله إلا الله.

    ثانياً: تقرير أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ثالثاً: تقرير أن هذه الدار دار عمل والدار الآخرة دار جزاء.

    رابعاً: التشريع حق الله، ليس لأحد من خلق الله أن يقنن أو يشرع؛ إذ الله الخالق لعباده الرازق لهم المدبر لأمورهم هو الذي يعرف ما يضرهم وما ينفعهم، فهو الذي يشرع فيحلل ويحرم كما شاء وهو العليم الحكيم.

    وها نحن مع هذه الآيات الثلاث، فهيا بنا نستمع إلى تلاوتها مجودة مرتلة ثم نأخذ في شرحها لما فيها من الهدى.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:179-181].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ [الأعراف:179] هذا خبر من أخبار الله تعالى وكلها صدق وحق، هذا خبر من أخبار الله تعالى في كتابه العزيز العليم، والله لا يخبر إلا بالصدق، وكيف لا وهو الخالق وبيده كل شيء وهو منزه عن الكذب؟

    هذا الخبر ذو شأن عظيم هو عبارة عن حكم أعلنه الله عز وجل لتعي هذا البشرية والجن أيضاً: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا [الأعراف:179] أي: خلقنا لِجَهَنَّمَ [الأعراف:179] لذلكم العالم الذي لا حد له، فكلمة جهنم هذه الكلمة دالة على دركة من دركات النار، وهي سبع دركات، ومن أراد أن يتأمل جهنم فليرفع رأسه فقط إلى الشمس في ضحى النهار ويذكر كم حجم هذا الشمس، قال علماء الإسلام قبل علماء الكفر: إن حجمها أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، وكلها جحيم ونار ملتهبة، وليس أدل على ذلك من حرارتها في الصيف، فبيننا وبينها ملايين الأميال، فلو جمع العالم من إنس وجن ما سدوا ثلثها، فكيف إذا بعالم آخر ليس الأرض ولا هذه السماوات، اسمه النار وله دركات منها جنهم، وكان الحبيب صلى الله عليه وسلم في كل صلاة يستعيذ بالله من عذاب جهنم.

    توجيه معنى خلق بعض المكلفين لجهنم

    وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأعراف:179] كيف خلقهم لهذه النار؟ نعود إلى القضية من أولها وتأملوا، والله يفتح على من أراد أن يعلم.

    نظر الرب تبارك وتعالى إلى الأرواح نظرة فعلم الذي يستجيب لدعوة الله ويعبده وحده ويتقيه فكتب ذلك له أنه من أهل الجنة، والذي نظر إليه فعلم أنه يتمرد على دعوته ويخرج عن طاعته وطاعة رسله كتب أنه من أهل النار، والمثل القريب لنقرب لإخواننا، المثل لهذه القضية: أن الفلاح يمسك بيده بذر الحبحب أو البطيخ وبذر الحنظل، فقبل أن ينبت وقبل أن يكون يعرف أن هذا حلو وهذا مر، أسألكم بالله: كذلك أم لا؟

    الفلاح يعرف هذه البذرة ستنبت الحلو أم المر قبل أن تكون، فالله عز وجل وتعالى عن صفات المحدثين قبل خلق الأجساد علم الروح التي تطيع الله وتعبده فكتب لها الجنة، وعلم الروح التي تتمرد وتعصي باختيارها فكتب لها جهنم.

    فقال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأعراف:179] وقدم الجن لأنهم كانوا قبل الإنس، والإنس المراد بهم بنو آدم، وتقدم لنا قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ [الأعراف:172]، مسح ظهر آدم واستخرج كل ذريته واستنطقها فنطقت واستشهدها فشهدت أن لا إله إلا الله، فقولوا: آمنا بالله.

    امتناع العذاب بغير موجب

    إلا أن عدل الله عز وجل وغناه ورحمته أنه لا يعذب كائناً من الإنس أو الجن بغير موجب التعذيب، وحاشاه أن يظلم أحداً، وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، فلو أن امرءاً ولد أعمى ولا يسمع فهو غير مكلف لا يعذبه ولا يدخله النار أبداً، لو أن شخصاً في الخامسة من عمره في السابعة في العاشرة قبل بلوغه جن وأصبح مجنوناً فوالله! ما يعذب، مع أنه ما صام ولا صلى؛ لأنه غير مكلف.

    أهل الفترة الذين وجدوا بين رسولين، مات الأول وانقطع العلم وأهله ووجدت أمة وأجيال لا يعرفون الله، هؤلاء أهل الفترة يسألهم الله يوم القيامة ويستنطقهم، فإن هم أجابوا واستجابوا لأمر الله لأنه يقول لهم: ادخلوا النار، فمن كان مستعداً لطاعة الله ورسوله لو عاصرهم وعاش في ذلك الوقت فإنه يقول: سمعاً وطاعة ويمشي إلى النار، فيخالف به إلى الجنة، ومن كان متمرداً لو بعث الرسول وأدركه وعلم وكفر وكذب ففي عرصات القيامة يقول: كيف ندخل النار؟ فيلجأ إليها إلجاءً .

    معنى قوله تعالى: (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها)

    إذاً: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأعراف:179] من هم يا رب؟ صفهم لنا؟ فقال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف:179] الضمائر تعي وتفهم وتفقه، لكن هؤلاء قلوبهم لا يفقهون بها، إليكم مثالاً حياً صادقاً: علماء الكون اليوم من غير المسلمين أليسوا يحللون الكون تحليلاً؟

    عالم الطب يعرف الشرايين بأسمائها وتدفقات الدم بدقة، ولا يذكر أبداً أن هذا مخلوق وأن خالقه عليم عظيم حكيم يجب أن يبحث عنه ليطيعه، والله! ما يفكر في هذا، يصنع العجب بالآلاف، يشاهد آيات الله في الكون فما يفكر أبداً أن لهذه الآلات صانعاً صنعها، أن لهذا الوجود موجداً أوجده، كيف يوجد بنفسه وهو يشاهد كل الذرات مربوطة بأسبابها؟!

    إذاً: أين الفقه والفهم؟ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا [الأعراف:179] لو كانوا يبصرون لرفع أحدهم رأسه إلى السماء وقال: من نصبها قبة زرقاء؟ من ملأها بالكواكب المنيرة؟ من ساق فيها الرياح والأمطار والسحب؟ ما يسأل أبداً؛ حتى لا يقال: الله، فيقول: أعبد الله.

    يغرس الشجرة، وينظر كيف تنبت، كيف تعلو، كيف تزهر، كيف تثمر، ما يقول: من خلقها؟ ما يرى هذا أبداً. وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا [الأعراف:179] آيات الله في الكون أبداً، وهذا شأن كل الكفار، كل من أعرض عن الله وذكره وكتابه، وحارب دينه ورسوله من هذا النوع.

    وَلَهُمْ آذَانٌ [الأعراف:179]، ولكن لا يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف:179]، يسمع نداء الباطل فيجيب ويسرع، ونداء الحق ما يسمعه أبداً، آمنا بالله!

    معنى قوله تعالى: (أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون)

    بِهَا أُوْلَئِكَ [الأعراف:179] البعداء كَالأَنْعَامِ [الأعراف:179]، الأنعام: الإبل والبقر والغنم، تعمل، تأكل، تشرب، على نظام خاص بحياتها، فهؤلاء في هذا الباب كالأنعام لا يعقلون، لا يفكرون إلا في المنكح والمطعم والمشرب والملبس فقط، والأنعام أفضل؛ لأنها ماشية مع سنن سنها الله لها، لا تخرج عنه أبداً، وهذا الإنسان أو هذا الجان أسوأ من الأنعام في هذا الباب، بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179]، نعم أضل، الأنعام ما وضع لها قانون وخرجت عنه، بل غرز الله غرائزها وطبع طبائعها على ما هي عليه، فهي لا تخرج عن ذلك أبداً حتى تموت.

    وأما هذا العالم من الإنس والجن الذين أعرضوا عن ذكر الله، وكفروا به وبرسله ورسالاته، فشأنهم شأن الأنعام، بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179].

    ثم قال تعالى: أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]، والغفلة ما هي؟ شيء أمامه وراءه بين يديه لا يعرفه، معرض عنه، غافل عنه، فهم الغافلون، أنفاسهم التي يرددونها لولا الله ما كانت، غفلة كاملة، يأكل هذا الثمار فما يدري من أين، يشرب هذا الماء وما يدري من أين هذا الماء، ينظر إلى نفسه ولا يقول: أنا من أوجدني وكيف وجدت وإلى أين أصير؟ غفلة كاملة: أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]، والعياذ بالله، وكم عددهم؟ إن نسبة أهل الإيمان إليهم كواحد إلى ألف في عالم الجن وعالم الإنس.

    وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأعراف:179]، ما سبب دخولهم في جنهم؟ لقد خلقهم لجهنم؟ فما السبب؟ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].

    فلنحذر يا أبناء الإسلام من الغفلة، يجب أن نكون مستيقظين واعين بصراء، في كل حركاتنا وسكناتنا، في كل ما يدور في الكون حولنا، ننظر إليه لنعرف من أوجده، وما مصيره وإلى أين نهايته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088538408

    عدد مرات الحفظ

    777202114