[الروم:59].
بالأمس كانت الآية مثل هذه، وعلمنا منها أن الذين لا يعلمون يطبع على قلوبهم فلا يفقهون، ولا يفهمون، ولا يعرفون، ولا يعلمون؛ لأن ذنوب أهل الكفر والشرك والباطل والمعاصي والجرائم غطت القلوب وغشتها حتى ذهب النور عنها فبقيت في ظلمة، وصاحب هذه الظلمة والله لا يؤمن، كالأعمى.
والآية دليل على وجوب طلب العلم!
العلم الذي هو معرفة الله بأسمائه وصفاته!
العلم بمعرفة محاب الله ومكارهه!
العلم بمعرفة كيفية فعل المحاب وكيفة ترك المكاره!
العلم الذي يرغبك في الدار الآخرة فتعمل ليل نهار وتستصغر عملك، ولا تكل، ولا تمل؛ لأنك مقبل على الدار الآخرة؛ لتدخل الجنة دار النعيم!
وقد عرفنا وشاهدنا الجهلة الذين ابتعدوا عن القرآن وما عملوا به كيف حالهم:
أرأيتهم أطهاراً، أصفياء، أنقياء؟ والله ما كان.
والأمة الإسلامية لما كانت تعلم سادت الشرق والغرب، وعلت وارتفعت وبلغت عنان السماء، فلما جهلت هبطت، واستعمرها الشرق والغرب.
وما زال الجهل هي العقبة الكئود التي تحول بين المسلمين وبين كمالهم وسعادتهم، فالفسق، والفجور، والظلم، والإجرام، والزنا، والربا، وقتل النفس البشرية.
كل هذه الجرائم والله الذي لا إله غيره ناجمة عن ظلمة القلوب وعدم البصيرة لجهل أصحابها، وحسبنا قول الله تعالى:
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
[فاطر:28].
فمن هم عباده؟ بنو هاشم؟ الأغنياء؟ البيض؟ السود؟ من هم يرحمكم الله؟
الجواب:
الْعُلَمَاءُ
[فاطر:28] بم؟ لا بالصناعة، والزراعة، والفلاحة.. ولا بالتدجيل والتضليل.. ولا بالشعر، ولكن بمعرفة الله معرفة حقيقة تملأ قلوبهم بحب الله والخوف منه، ويعيشون على الحب والخوف، الحب الذي يحملهم على الطاعات .. على عمل الصالحات والخوف منه، فيبعدهم من معاصي الله.
وها هي أمة الإسلام مع انتشار العلم -كما يقولون- ما زلنا هابطين؛ الفسق، والربا، والزنا، والفجور، والكذب، والخيانة، والشح، والبخل، كل هذه المظاهر موجودة في أمتنا، وسبب ذلك الجهل.
كيف نخرج من هذه الظلمة؟ كيف نصبح عالمين عارفين؟
ليس عندنا طريق يمكن سلوكه إلا طريق واحد، أسهل ما يكون: إمام المسجد في القرية أو في الحي يقول: أيها الناس! إخواننا! معاشر المؤمنين والمؤمنات! من يومنا هذا لا نصلي المغرب إلا في هذا المسجد، بنسائنا وأطفالنا، وذلك كل ليلة وطول العام، فإذا صلوا المغرب جلس لهم المربي العالم ليلة آية من كتاب الله يتلوها ويرددها، وهم يرددونها سراً ويعيدونها في أنفسهم ربع ساعة فتحفظ سواء النساء.. الأطفال.. الرجال.. الجهال، كلهم حفظوا تلك الآية!
ثم يشرحها لهم، ويبين مراد الله منها، ويدلهم على ما فيها من الهدى، فيعرفون ذلك، ويصممون على أن يفعلوا بما علموا، ويطبقوا ما عرفوا.
وفي الليلة الثانية حديث من أحاديث المصطفى الصحاح كالموطأ والبخاري ومسلم وغيرهما، يردد الحديث على مسامعهم نساءً ورجالاً وهم يرددونه في أنفسهم ربع ساعة ويحفظونه، ثم يشرح لهم الحديث، ويبين لهم مدلوله، وما يريد الرسول منه، فيعلمون ويفهمون، ويعملون ويطبقون.
وهكذا يظلون في مزارعهم.. في مصانعهم.. في متاجرهم يعملون يعملون، فإذا جاء الليل وغابت الشمس وقف العمل وأتوا بيت ربهم في صدق، يريدون أن يعلموا ليعملوا، النساء وراء ستائر، والأطفال صفوفاً بين أيدهم، والرجال أمامهم فليلة آية وليلة حديث طول العام!
أنا أحلف بالله ما يبقى جاهل أو جاهلة سواء يكتبون أو لا يكتبون، يقرءون أو لا يقرءون، فالعلم لا يتوقف على الكتابة والقراءة، بل على الفهم والعمل والتطبيق.
حينئذٍ يكونون قد تهيئوا للكمال والسيادة البشرية، فتتحد كلمتهم، فلا يبقى خلاف بينهم؛ لا حزبية، ولا جمعية، ولا طائفية، ولا مذهبية، أهل القرية أمة واحدة؛ لا يموت فيهم رجل بجوع، ولا بمرض، ولا بهم، ولا كرب، متعاونين تعاوناً كاملاً كأنهم أسرة واحدة!
والله العظيم بغير هذا لا يمكن أن يحصل العلم، وإذا لم يحصل العلم فلابد من ظهور الفسق، والفجور، والتلصص، والإجرام، والمقت، والبغض... وقل ما شئت، والحياة شاهدة.
هذا تعليل الله، اسمع ماذا يقول:
يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ
[الروم:59] من؟
الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
[الروم:59] فلابد وأن نعلم.
كيف نعلم؟
كما قلت لكم: لا طريق أيسر، ولا أسهل، ولا أحق أبداً من هذه الطريق، التاجر يشتغل، الفلاح يشتغل، الصانع يشتغل، عادة البشرية في الغرب والشرق، فإذا دقت الساعة السادسة وقف العمل، ليس هناك غرابة أبداً.
نحن نقول: إذا مالت الشمس إلى الغروب وقف العمل، وتوضأ عباد الله بنسائهم وأطفالهم وأتوا المسجد في الحي والقرية فكل قرية فيها مسجد.
ولكن مع الأسف ما نهض بهذا العلماء ولا الحكام ولا أحد، ونحن نكرر هذا من عشرات السنين ولكن لم يتحقق.
ونقول على علم: الذين جلسوا هذا المجلس ودرسوا كتاب الله ما رأينا بينهم أبداً فسقاً، ولا فجوراً، ولا ظلماً، ولا شركاً، ولا باطلاً، ولا ولا.
من مسح قلوبهم؟ من طهرها؟ من..؟ كيف؟ العلم، علموا وعرفوا بالسماع، والذين لا يلازمون يجلس يوماً أو يومين ويشرد، لا ينتفع أيضاً، فلابد من الملازمة، ثم هذه الملازمة -كما قلت لكم- ضرورة من جهة، ولا تكلف شيئاً، فصاحب الدكان يغلق دكانه مع المغرب ويأتي يصلي المغرب، والعشاء ويعود إلى دكانه إن شاء، أو يكفيه طول النهار، وهكذا كل ذي عمل.