إسلام ويب

تفسير سورة الأنفال (8)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لما كان صلى الله عليه وسلم يتلوا آيات الله على مسامع المشركين كانوا يسخرون منه، زاعمين أنهم لو أرادوا لأتوا بمثل ما أتى به من البيان، وإن ما يأتي به إنما هو أساطير الأولين، ثم لم يكتفوا بهذا الكفر والجحود وإنما تمادوا عازمين على إسكات صوت الحق، المتمثل في شخص النبي صلى الله عليه وسلم، فتآمروا على أن يفعلوا به أحد ثلاثة أمور؛ إما أن يحبسوه فلا يخلص إليه أحد من الناس، أو يخرجوه من مكة، أو يقتلوه، ثم أجمعوا أمرهم على الخيار الثالث، ولكن الله عز وجل أخرجه من بين أظهرهم سالماً غانماً محاطاً بعناية الله وتأييده.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم يوم السبت ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع سورة الأنفال المدنية المباركة الميمونة، ومع هاتين الآيتين، فلنستمع إلى تلاوتهما مجودتين مرتلتين، ثم نأخذ في درسها وبيان ما فيهما إن شاء الله.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنفال:30-31].

    هداية الآيات

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! سبق هاتين الآيتين ثلاث آيات، وبينهما ارتباط، فلنشر أو فلنذكر ما جاء في هداية تلك الآيات السابقة:

    قال: [ هداية الآيات:

    من هداية الآيات:

    أولاً: تحريم الخيانة مطلقاً، وأسوأها وأقبحها ما كان خيانة لله والرسول ] إذ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].

    وخيانة الله تكون بأن تتخلى عما أوجب عليك في الباطن، وتظهر أمام الناس أنك تؤديها، فتلك هي الخيانة، وكذلك الحال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتدعي أنك مؤمن به وأنك تحبه وتؤثره على نفسك ومالك وإذا بك لا تمشي وراءه ولا تتبعه إلا أمام الناس. هذه هي الخيانة لله والرسول.

    والأمانات هي: كل ما استودعته وقيل لك: احفظه حتى القول، فهو أمانة يجب أن تحفظها. وقد قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]. والأمانة هنا هي هذه العبادات التي تعبدنا الله بها، ومنها: الوضوء، فيجب ألا تخون الله تعالى فيه كأن فتغسل بعض جوارحك وتترك البعض. فكل هذه العبادات ائتمننا الله تعالى عليها، وحرم خيانته وخيانة رسوله بهذا النداء الإلهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].

    [ ثانياً: في المال والأولاد فتنة قد تحمل على خيانة الله ورسوله، فليحذرها المؤمن ] فهذه الفتنة في المال والأولاد قد تحملنا على أن نخون الله ورسوله بأن نقصر فيما أوجب وننتهك ما حرم؛ لقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:28]. فالمال إذا فتن صاحبه حمله على أن يكذب ويخون ويأكل الحرام، وحمله على أن يمنع ما أوجب الله فيه من زكوات، وعلى أن يغش ليربح ويزيد ماله.

    والأولاد كذلك، حبهم وتعلق القلب بهم قد يحول بينك وبين أداء الفرائض، فقد ينادى للصلاة: حي على الصلاة والأولاد بين يديك فيعز عليك أن تقوم وهم يبكون، فيفتنوك، وأيام الجهاد أيضاً يفتنون والدهم عن الجهاد، ويقولون: لمن تتركنا يا والدنا؟! وكيف تسافر عنا وتتركنا؟

    [ ثالثاً ]: من ثمرات التقوى: [ تكفير السيئات، وغفران الذنوب، والفرقان، وهو نور في القلب يفرق به المتقي] أي: صاحبه [ بين الأمور المتشابهات، والتي خفي فيها وجه الحق والخير ] وبين الحق والباطل؛ لأن الله تعالى قال في الآية: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:29].

    فيا عباد الله! ويا أيها المؤمنون! اسمعوا ربكم تعالى يقول: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:29]. فلا يرغب عن هذا الخير إلا محروم جاهل به لم يعرفه. فهذا وعد الله الصادق. وليس هناك من اتقى الله ثم لم يظفر ولم يفز بهذا الموعود الإلهي، فهذا والله ما كان.

    وإن تقوى الله -يا عباده!- هي خوف منه يملأ قلب العبد، ويحمله على ألا يعصيه وألا يعصي رسوله لا بترك واجب وجب، ولا بفعل محرم حرم.

    العلم طريق التقوى

    هنا لطيفة نذكر بها، وهي: أن الذي لا يعرف محاب الله ومكارهه، ولا يعرف ما أوجب الله ورسوله، ولا ما نهى الله عنه ورسوله لم يمكنه أن يتق الله. ولذلك تجدنا مضطرين اضطراراً كاملاً إلى أن نقول: العلم أولاً، وقد بدأ الله تعالى به في قوله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19]. فقد أمرنا بأن نتقيه ليثيبنا وليجزينا، وليعطينا عطاء عظيماً، وهو: أن يجعل لنا فرقاناً في قلوبنا نفرق به بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الضار والنافع، في الحال والمستقبل ويغفر ذنوبنا ويكفر سيئاتنا، مقابل تقواه، فهيا نتقي الله، حتى نصبح نخافه، وترتعد فرائصنا عند ذكره، ويقشعر جلدنا. فنحتاج إلى معرفته أولاً بصفات الجلال والكمال، فضع رأسك بين ركبتيك وفكر: من خلقك؟ ومن وهبك سمعك وبصرك؟ وانظر إلى هذا الكون وفكر: من أوجده؟ ومن يديره؟ ومن يحيي ويميت؟ ويعز ويذل؟ وستجد نفسك تقول: الله. فإذا عرفته طلبت حبه، وخفت من غضبه وسخطه، فترشد إلى أن تعرف كل ما يحب، وأن تعرف كل ما يكره، وإذا عرفت ما يحب فعلته، وإذا عرفت ما يكره تركته، وبذلك تكون قد اتقيت الله، وأنت من المتقين، والمتقون لهم قيمتهم ودرجتهم ومنزلتهم، فهم الوارثون لدار السلام، وهم أولياء الله عز وجل، فالمتقون هم ورثة الجنة، تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]. وقال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] من هم؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].

    فهيا نعمل على أن نتقي ربنا، فنكثر من ذكره، والنظر في الكون، وسماع كلامه؛ حتى تزداد معرفتنا به، ويزداد خوفنا ورهبتنا منه، وبذلك يسهل علينا أن نسأل أهل العلم عن ماذا يحب ربنا من الأقوال ومن الأفعال، ومن الاعتقادات ومن النيات، فنعلم ونعمل، ونسأل أهل العلم عن الذي يبغضه الله ويكرهه من قول أو اعتقاد، أو عمل أو صفة أو ذات، فنعرف ونترك ما يكره الله عز وجل، وبذلك تتحقق ولاية الله عز وجل، ومن والاه الله لا خوف عليه ولا حزن يلقاه، لا في هذه الحياة ولا في الدار الآخرة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088521392

    عدد مرات الحفظ

    777100252