الآن مع هاتين الآيتين الكريمتين، وقد سمعنا تلاوتهما مرتلتين. قال تعالى:
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ 
[الأنفال:30]، أي: اذكر يا رسول الله! هذا، واذكروا أيها المؤمنون! هذا، فهذه نعمة من نعم الله عز وجل، وهي إنقاذ نبيكم، ونجاة حبيبكم صلى الله عليه وسلم من قبضة الكفرة ومؤامراتهم. وهذه نعمة يجب أن يشكرها كل مؤمن ومؤمنة طول الحياة.
تآمر الكفار على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة
قيل: إنه لما توفي عمه
أبو طالب اشتد كرب المجرمين، وعظم همهم من خوفهم من هذه الدعوة النورانية الربانية، فما كان منهم إلا أن تجمعوا في نادٍ من أنديتهم، وقالوا: ننظر في أمر هذا الرجل، ونحكم بأمر ينهينا من هذه المشكلة، ويخلصنا منها. وإذا بشيخ حسن الطلعة والوجه يدخل عليهم، فسألوه من أين هو، فقال: من نجد؛ لأن رجالات نجد ممتازين في الهيئة، فقالوا: أهلاً وسهلاً، فقال: أنا معكم أشارككم في محنتكم، فقال أحدهم: نربطه ونشده بوثاق متين، ونلصقه بجدار حتى يموت، هذا هو الحل، فنأخذ محمداً صلى الله عليه وسلم، ونوثقه بوثاق متين، ونلصقه بالأرض، ونربطه في منزل حتى يموت، كما فعلنا مع
زهير و
النابغة وفلان وفلان. فقال أبو مرة -وهي كنيته-: أرأيتم لو هاجم أتباعه هذا البيت وأخرجوه منها فسيخرج خارج البلاد، ويؤلب عليكم الدنيا كلها، فهذا ليس برأي، فحبسه وتوثيقه وربطه بحبال متينة وبسلاسل لا ينفع؛ إذ من الجائز أن أنفاره وأتباعه يهجمون ليلة من الليالي على هذا المنزل ويخرجونه، فهذا ليس برأي.
فقال آخر: نخرجه من البلاد ونبعده من ساحة ديارنا بالمرة، وننفيه نفياً كاملاً، ونستريح من فتنته وما نعانيه منه، فقال أبو مرة: هذا الطريق سيعيده إليكم، فكلامه وصوته لا يرد، والناس مقبلون عليه، مجذوبون له، فسيجمعهم ويأتيكم، ويخرجكم من دياركم، ويقتل أشرافكم، فهذا ليس برأي.
فقال أبو جهل: الرأي أن نأتي من كل قبيلة بشاب قوي البدن، سليم الذات، ونعطيهم سيوف مصلتة، ويضربونه ضربة رجل واحد، فيتوزع دمه بين قبائل قريش، وحينئذ لا يسع بني هاشم إلا أن يقبلوا العقل والدية فقط، ولا يطالبون بالقتل؛ لأنهم لا يستطيعون أن يحاربوا أربعين قبيلة أو فصيلة. فقال أبو مرة : هذا هو الرأي الصائب، فانتخبوا أربعين شاباً من شبيبة القبائل، من أصحاب البنية السليمة والقوة البدنية الصحيحة، فيأتونه إلى بيته، فيطوقونه وينتظرون خروجه، فإذا خرج صوبوا عليه سيوفهم بضربة واحدة، فيتوزع دمه في أربعين قبيلة أو فصيلة.
وبالفعل جمعوا أربعين شاباً من خيرة شبيبتهم، وسلحوهم بسيوفهم، وقال: قفوا عند الباب، وأُبلغ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بما صدر في ناديهم من الحكم بالقتل عليه، وسأل الله تعالى أن يأذن له في الهجرة، فقال لـعلي بن أبي طالب : نم أنت على فراشي، أي: فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، وغطاه ببرد أخضر كان له صلى الله عليه وسلم، وهم واقفون، فأخذ حفنة من تراب وقال: باسم الله، شاهت الوجوه، فأخذوا يمسحون أعينهم من التراب حتى نفذ رسول الله، وخرج إلى دار أبي بكر الصديق ، وقد اتفق معه على الهجرة بالفعل.
وهاجر صلى الله عليه وسلم، وعانى ما عانى، ولكن ما إن وصل إلى المدينة حتى لاحت الأنوار، وما هي إلا عشر سنوات ولم يبق في هذه الجزيرة من لا يعبد الله. وهذه نعمة ذكرنا الله تعالى بها فاسمعوها، قال تعالى:
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا
[الأنفال:30] أي: اذكر هذا، واذكر هذا يا مؤمن! ويا مؤمنة!
معنى المكر والإثبات
معاشر المستمعين أقرأ عليكم شرح هاتين الآيتين من الكتاب؛ لتزدادوا معرفة.
معنى الآيات
هداية الآيات
قال: [ هداية الآيتين ] فإليكم ما في الآيتين من هداية:
[ من هداية الآيتين:
أولاً: التذكير بنعم الله تعالى على العبد؛ ليجد العبد في نفسه داعية الشكر ] والذكر [ فيشكر ] الله عز وجل. ووالله لو كنا نذكر النعم ونتفرغ لذكرها لحظة فقط لشكرنا الله عز وجل، ولكن والله تمضي الأيام والليالي ولا نذكر نعمة من نعمه إلا إذا ذكرنا بها آخر، ونحن نتقلب في النعم الليل والنهار، ويكفي منها بقاءنا أحياء وقد مات ملايين غيرنا.
فالتذكير بنعم الله تعالى على البعد توجد في نفس العبد داعية الشكر والذكر، فقد قال لرسوله:
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا
[الأنفال:30]. وقال له هذا الكلام ليذكره ويذكر أمته بنجاة رسوله من الهلكة والقتل والتدمير.
ما زلت أقول: هيا نكون بحيث لا تمضي ساعة من ساعاتنا إلا ونذكر فيها نعم الله علينا، ولا تقل: لا يمكن هذا، بل لما تريد أن تلبس ثوبك فاذكر من ألبسك هذا الثوب، وإذا أردت أن تتناول الماء وأنت ظمآن فاذكر من خلق هذا الماء، ووهبه لك، وإذا أردت أن تركب سيارتك فاذكر من أوجدها، فتذكر نعمة الله عليك، فتقول: الحمد لله والشكر لله.
المؤمنون الذاكرون أحياء، والناسون أموات.
[ ثانياً: بيان مدى ما قاومت به قريش دعوة الإسلام، حتى إنها أصدرت حكمها بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: بيان موقف المشركين من الدعوة الإسلامية، وأنهم بذلوا كل جهد في سبيل إنهائها والقضاء عليها ] وإنهم والله إلى الآن يعملون، فالمؤامرة ضد الإسلام من الثالوث الأسود إلى الآن يعملونها، وإن شئنا كشفنا النقاب، فهم إلى الآن يعملون على إطفاء هذه الأنوار، وهم لا يريدون الإسلام ولا أهله، وهم يقدمون لنا أنواع الطعام والشراب، واللباس والمراتب؛ لينسونا ذكر الله عز وجل.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.