مع كل ما جاء به محمداً صلى الله عليه وسلم مشركي قريش من الآيات البينات، الشاهدة على صدق نبوته ورسالته، إلا أنهم استمروا على إعراضهم وعنادهم، بل وطالبوه بمعجزات إضافية دالة على صدق ما أتاهم به، فطلبوا منه أن يفجر لهم ينبوعاً من الأرض، ومرة طلبوا منه أن يأتيهم بجنة فيها الأنهار الجارية، أو يكون له بيت من زخرف، أو يرقى في السماء فيأتيهم بكتاب يقرءونه، فأوحى الله سبحانه وتعالى إلى نبيه أن يخبر هؤلاء الناس أن ما يطلبونه منه لا يكون إلا بأمر الله؛ فما هو إلا بشر أرسله ربه ليهدي به من يشاء ويضل من يشاء.
أقول: لم لا تجتمعون يا أبناء الإسلام في بيوت ربكم اجتماعكم هذا، وتدرسون كتاب الله عز وجل، لم؟ من فرض علينا المقاهي والملاهي، من حرمنا من دخول المساجد، من نهانا عن الاجتماع على كتاب الله؟
الجواب: لا. اللهم إلا أيام الشيوعية الروسية في بلاد الروس، ونحن الآن مستقلون أحرار، لم لا نجتمع لندرس كتاب الله؟ هذا العلم الذي سمعتموه ليس بالهين، لو تجتمع البشرية ما تأتي به، من آمن بكتاب الله وعرف يعبد غير الله؟ يذل ويهون لغير الله؟ ولكن الجهل، بم نزيح هذا الستار المظلم؟ بكتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، نجتمع في مسجد الحي يا أهل المدن، في مسجد القرية يا أهل القرى، إذا دقت الساعة السادسة ومالت الشمس إلى الغروب توضأنا وحملنا نساءنا وأطفالنا إلى بيت ربنا في عزة وكرامة، ليلة ندرس آية كما درسناها الليلة، ونفهم مراد الله منها، والليلة الثانية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن قال: ما نستطيع نفهم كتاب الله، فما أنت الذي تفهم، ولكن عالم أو طالب علم يعرف يقرأ ويكتب، وإذا قرأ يفهم.
ومع هذا لتقوم الحجة لله علينا وفقني ربي لكتابة: كتاب المسجد وبيت المسلم، به ثلاثمائة وستون آية وحديثاً بمعدل ليلة حديث وليلة آية طول العالم، اثنا عشر شهراً، ونادينا وقلنا للمسافرين والمقيمين والحجاج والطلبة: لم لا تجمعوا أهل القرية على كتاب الله؛ ليفقهوا ويعلموا ويسودوا ويطهروا؟ وكأنما وزعنا الكتاب على القبور، لا إله إلا الله، ومع الأسف القرآن نجتمع عليه ليالي الموت، إذا مات فلان أو فلان يجتمع أهل القرآن ويقرءون على الميت لا على الحي، حتى لا يفهم الحي ويتوب إلى الله، لا. على الميت، انتكاسة أعوذ بالله منها شر انتكاسة، هل الرسول قال: اقرءوا القرآن على الموتى؟ هل أمر بذلك، هل وصى أصحابه، هل دعاكم إلى هذا؟ هذا الشافعي وأحمد وأبو حنيفة هاتوا كلمة منهم أنهم يتجمعون لقراءة القرآن على الميت.
ولطيفة يعرفها إخواننا الجزائريون رويناها عن كبار السن: جاء حاكم جديد إلى مدينة وهران في بداية الاستعمار، فطوفوا به في المدينة، فمر بكتاتيب يقرئون القرآن فيه للأطفال، فقال: ما هذه الكتاتيب، هل الحكومة عجزت عن إنشاء مدارس تعلمهم؟ وأمر بإغلاق تلك الكتاتيب وأن يدرسوا في المدارس على فهمه، فجاء مؤمن وفقه الله، ولا تخلو الأرض من موفقين صالحين، وقال: يا مسيو! هؤلاء يقرءون القرآن تدري لماذا؟ ليقرءوه على الموتى، لكن في مدارس الحكومة ما في القرآن يقرأ على الموتى، فهم يحفظونه ليقرءوه على الموتى، قال: إذاً دعوهم مادام على الموتى، وإلى الآن حتى في المدينة يقرءونه على الموتى، وهذا شأن أي أمة إذا هبطت لا ينقذها ولا يرفعها إلا الله.
ومن آيات الرفع: أن يجتمع المؤمنون في بيوت ربهم يبكون بين يديه ويصرخون كل ليلة من المغرب إلى العشاء، وقت ينتهي فيه العلم الدنيوي ويتعلمون كتاب الله في صدق وسنة رسول الله في صدق، ويطبقون ما يعلمون، والله ما هي إلا أيام فيرفع الله رأسهم إلى السماء.
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات ].
هذه الآيات لها هدايات، ولكل آية لها هداية قطعاً، فلنسمع هداية الآيات.
[ أولاً: تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ].
أولاً: تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه نبي الله ورسوله، دلت عليه الآية: (قل) من أمره أن يقول؟ أليس الله؟ إذاً: هو عبد الله ورسوله.
[ ثانياً: بيان شدة عناد مشركي قريش، وتصلبهم وتحزبهم إزاء دعوة التوحيد ].
بيان تصلب وعناد رجالات قريش؛ لأنهم لا يريدون أن يقولوا: (لا إله إلا الله)، واللات والعزى وهبل ماذا يصنعون بها؟! وهذه هداية الآية، أبطل الله تلك النعرات الكاذبة والعبادات الباطلة.
[ ثالثاً: بيان سخف عقول المشركين برضاهم للألوهية بحجر، وإنكارهم الرسالة للبشر ].
بيان سقوط عقول المشركين، فهم يعبدون الأصنام والأحجار ويعكفون عليها، ويتركون عبادة الرحمن خالق كل شيء ومليك كل شيء أين العقول، جاءهم من يعرفهم بربهم خالقهم ورازقهم ومدبر أمرهم وحياتهم ليعبدوه، أعرضوا وعكفوا على اللات والأصنام، كما عكف النصارى إلى اليوم على الصليب والمسيح.
[ رابعاً وأخيراً: تقرير أن التفاهم حسب سنة الله لا يتم إلا بين المتجانسين، فإذا اختلفت الأجناس فلا تفاهم، إلا أن يشاء الله، فلا يتفاهم إنسان مع حيوان أو جان ].
كما علمتم عند التفاهم بين اثنين لا بد وأن يكون من جنس واحد، ما هو إنسان وحيوان، ما هو بقرة وكلب، ما هو ذئب وثعبان مستحيل، لا بد من التجانس، فالبشر لا يمكن أن يتفاهموا إلا مع البشر، فلهذا يبعث الله الرسل من البشر، ما يبعث الملائكة، فهم جنس ونحن جنس، دل على هذا قوله تعالى:
قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا
[الإسراء:95]، لا يبعث إليهم بإنسان لا يمكنهم أن يتفاهموا معه.