إسلام ويب

تفسير سورة الإسراء (24)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مع كل ما جاء به محمداً صلى الله عليه وسلم مشركي قريش من الآيات البينات، الشاهدة على صدق نبوته ورسالته، إلا أنهم استمروا على إعراضهم وعنادهم، بل وطالبوه بمعجزات إضافية دالة على صدق ما أتاهم به، فطلبوا منه أن يفجر لهم ينبوعاً من الأرض، ومرة طلبوا منه أن يأتيهم بجنة فيها الأنهار الجارية، أو يكون له بيت من زخرف، أو يرقى في السماء فيأتيهم بكتاب يقرءونه، فأوحى الله سبحانه وتعالى إلى نبيه أن يخبر هؤلاء الناس أن ما يطلبونه منه لا يكون إلا بأمر الله؛ فما هو إلا بشر أرسله ربه ليهدي به من يشاء ويضل من يشاء.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    فما زلنا مع سورة الإسراء، فهيا بنا لنستمع تلاوة هذه الآيات المباركة، ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس.

    وها نحن مع سورة الإسراء، ويا لها من سورة، وهنيئاً للمؤمنين بهذه السورة المباركة، نتلو الآيات، ثم نتدارسها لنقف على أسرار هذه الآيات وأحكامها الشرعية.

    وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [الإسراء:90-95].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!

    هذه السورة المعروفة بسورة الإسراء أو بني إسرائيل، وفاتحتها: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، هذه السورة مكية، ومعنى مكية: نزلت بمكة، وتوجد سور أخرى مدنية نزلت بالمدينة، فاعرفوا هذه الحقيقة، والمصاحف كلها تكتب في أول السورة مكية أو مدنية، فلنعلم أن السور المكية تعالج العقيدة، ليس فيها بيان الحلال والحرام، ولا بيان أنواع العبادات، وإنما هي فقط من أجل أن توجد في الإنسان عقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله والبعث الآخر، تقرير التوحيد والنبوة والبعث الآخر، أي: والإيمان بيوم القيامة.

    وكثيراً ما أوجه المستمعين والمستمعات إلى أن تقوية عقيدتنا بهذه الثلاثة لأن لها شأنها، فالذي اعتقد أنه لا إله إلا الله لا يمكنه أن يعبد غير الله، ولو بطأطأة رأسه هكذا أو بكلمة يقولها؛ إذ هو آمن واعتقد جازماً أن لا يعبد إلا الله، فمن هنا هو لا يعبد غير الله أبداً، ومن لا يعرف هذه الحقيقة ويقول كما يقول الناس: لا إله إلا الله، فهو يعبد الصالحين، وشاهدناهم بأعيننا يدعونهم، يستغيثون بهم، يذبحون لهم، يحلفون بهم، يعكفون حول قبورهم؛ لأنهم والله ما عرفوا معنى لا إله إلا الله، وإلا كيف يفهم أنه لا يوجد على الإطلاق في الملكوت كله علوه وسفله من يستحق العبادة إلا الله؛ لأنه هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت، ويسمع قول الله عز وجل في كتابه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، كل الذنوب تحت نظر الله إن شاء غفر وإن شاء لا، اللهم إلا الشرك، فقد أعلن الرب تعالى أنه لا يغفره لأهله إذا ماتوا عليه، فلهذا لا نحلف بغير الله أبداً، لماذا؟ لأن الحلف تعظيم للمحلوف به وإجلال وإكبار، معناه عبادة له، وإلا كيف تحلف به، وعلى المنبر هذا كان يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( ألا إن الله ورسوله ينهيانكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )، ومرة قال: ( من حلف بغير الله فقد أشرك )، ومرة قال: ( من حلف بغير الله فقد كفر ) أي: كفر الله وغطاه وستره ولم يؤمن به، وإلا كيف يحلف بمخلوق من مخلوقاته؟!

    إذاً: العقيدة كلها تحت كلمة: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله مؤمناً بأنه حقاً، لا يوجد من يستحق أن يعبد لا في السماء ولا في الأرض إلا الله، ما يستطيع أن يعبد غير الله ولو بإشارة برأسه أبداً، ومن آمن بأن محمداً رسول الله ونبيه وعرف أنه رسوله والله لا يمشي إلا وراءه، ولا يخالفه لا في قول ولا في عمل، لا يتقدمه ولا يمشي عن يمينه ولا شماله -أي: أن يوازيه- بل يمشي وراءه، يقول ما يقول، ويتوضأ كما يتوضأ، ويصلي كما يصلي الرسول، ويحسن كما يحسن الرسول، ولا يتقدمه أبداً، بل يمشي وراءه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1].

    فعلينا يا معشر من آمن بأن محمداً رسول الله ألا نخرج أبداً عن طاعته في حدود قدرتنا وطاقتنا؛ فإن عجزنا فالله ولينا، أما أن نخالف هدي رسول الله وسنة رسول الله عمداً، والله ما نقدر على هذا وما نستطيعه، وإلا كيف آمنا بأنه رسول يقودنا إلى الجنة دار السلام، يقودنا إلى الجنة متى؟ إذا زكت نفوسنا، إذا طابت أرواحنا، إذا طهرت قلوبنا.

    وقد أقسم الجبار بقوله: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]، ثم قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، أفلح وفاز ونجا من النار ودخل الجنة دار الأبرار، عبد أبيض أو أسود في الأولين أو الآخرين زكى نفسه طيبها وطهرها، لا بالماء والصابون، ولكن بالإيمان وصالح الأعمال، وأبعدها عما يخبثها ويدنسها ويلوثها من أنواع الشرك والذنوب والمعاصي. هذا الذي يمشي وراء رسول الله إلى دار السلام.

    والإيمان بالبعث الآخر؛ فالذي يؤمن أنه سيدخل القبر حتماً، وسيسأل ويستنطق وسيرى مكانه في الجنة أو النار، هذا المؤمن ما يمكن أن يبيت على الفجور والذنوب والآثام، الذي آمن أنه سيقف بين يدي الله في ساحة فصل القضاء ويسأله لا يقدر على أن يبيت ويموت على معصية الله، بمجرد ما تزل القدم ويشعر بأنه أذنب يقول: أستغفر الله وأتوب إليه ويقلع عن المعصية ولا يلازمها أبداً. آمن بالبعث الآخر.

    هذه الأركان الثلاثة المهمة للعقيدة: التوحيد، النبوة، البعث الآخر.

    والسورة المكية كلها تعالج هذه، من قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] إلى قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088453919

    عدد مرات الحفظ

    776830566