إسلام ويب

تفسير سورة الإسراء (9)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بعد أن أوصى الله عباده المؤمنين بالوالدين، والإحسان إليهما وطاعتهما، ومراعاة كبرهما وضعفهما بالتذلل لهما ورحمتهما، ثنى سبحانه وتعالى بعد ذلك بذكر حقوق أخرى على الإنسان مراعاتها، ومن ذلك حقوق ذوي القربى من الأرحام والأصهار؛ من الصلة والبر، وحقوق الفقراء والمساكين؛ من التوسيع عليهم ومد يد المساعدة لهم، وحقوق الأباعد من مسافر وغيره؛ من بذل المعونة له وإكرامه.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    فما زلنا مع سورة الإسراء مع أخبار الرب تبارك وتعالى، فهيا بنا نسمعها ونتأملها، ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بها، إنه أهل لذلك.

    وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا * وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء:23-27].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!

    الربط بين عبادة الله والإحسان إلى الوالدين

    عرفنا بالأمس أن الله تعالى قضى وحكم وأمر وألزم بأن لا يعبد إلا هو، ويا ويل الذين يعبدون غيره، ويخرجون عن طاعته، ويعبثون بحكمه وقضائه، ولهذا الكفار أهل النار -لا تتردد: الكفار المشركون الملاحدة والله لأهل النار- ما إن يموت أحدهم إلا وتكون روحه في النار -والعياذ بالله تعالى- وعرفنا أن الله يعبد مقابل إنعامه، وهبك حياتك كلها، أما تشكره؟ وهبك كل ما أنت فيه، أما تقول: الحمد لله؟

    ثم هذه الطاعة هي فعل المأمورات وترك المنهيات، ويطلق عليها لفظ العبادة؛ لأنها طاعة لله عز وجل، وهو المعبود بحق، هذه العبادة التي هي شكر الله على إنعامه وإفضاله علينا تؤدي نتائج عجبية؛ تطيب النفس وتطهرها، ترضي الرب عز وجل وتهيئك لسعادة الدار الآخرة، وقد ينالك من بركتها في حياتك هذه، فتعيش مطمئناً طيب النفس لا تخاف ولا تحزن كما يخاف ويحزن الكافرون.

    ثانياً: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، أي: وقضى وحكم وأمر وألزم أن نحسن لوالدينا إحساناً حقاً.

    وبالأمس عرفتم أن إحساننا بوالدينا مقابل نعمتهم السابقة، أما حملتك أمك في بطنها تسعة أشهر من غذاك، من سقاك، من ألبسك، من رباك، أليس والدك؟

    إذاً: كيف تعامل هذه النعم بغير شكرها؟ وعرفنا السر، وهو أن الله أنعم فيعبد، وأن الوالدين أنعما فيحسن إليهما.

    وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، أي: وأحسنوا بالوالدين إحساناً زائداً كاملاً تاماً، وعرفنا أن الإحسان إلى الوالدين معناه: برهما وطاعتهما في المعروف. يحفظ هذا: برهما، وبرهما إيصال الخير إليهما، فأنت مسئول عن إطعام والديك وكسوتهم وإيوائهم وسكنهم ومركوبهم مادمت قادراً وهم عاجزون، ثم الطاعة، ولكن تكون بعد أمر الله بذلك الذي أمرت به، أو نهى الله عن ذلك الذي نهيت عنه، فأنت تطيعهما فيما هو معروف في الشريعة أنه مأذون مباح.

    وهنا مسألة تحصل لكل فرد، وهي: أن المرأة قد تحسن إلى زوجها وقد تسيء، فهذه المرأة إذا قالت لك أمك: طلقها، أو قال لك والدك: طلقها، وهذا يجري حتى فيما بيننا، ما هو المخرج؟ كيف نحقق طاعة الله في قوله: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]؟

    بينت لكم أن هذه المرأة التي أمرك والدك أن تطلقها أو والدتك انظر إلى الذي أمر؛ فإن كان الوالد: هل هو مؤمن مستقيم تقي عالم عارف؟ إذا كان هكذا فطلقها، وإن كنت تحبها وهي تحبك. وهذا من البر والإحسان للوالدين.

    الأم كذلك إذا كانت برة تقية نقية صالحة مؤمنة، وقالت: طلق هذه البنت أو هذه المرأة طلقها، لماذا؟ لأن الأب يؤذيه يؤلمه أن تكون امرأة ابنه فاجرة أو فاسدة، ما يسعد أبداً.

    والأم كذلك إذا كانت ذات بصيرة ونهى وعلم ومعرفة، وعرفت السوء في هذه المرأة، وإن كنت أنت تحبها فهذا لا ينفع؛ لأن الوالدين أعرف بحالك منك، على شرط: أن يكون الوالدان على أحسن حال من البصيرة والهدى.

    ومن أين استنبطنا هذه القضية؟ من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فالمرة الأولى لما زار بيت ولده وجاء بالبراق من فلسطين، سأل الزوجة: كيف حالكم؟ قالت: نحن في شر، نحن في بلاء، ما رأينا خيراً، وهذا تقوله النساء الآن، فحينئذٍ قال: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له: يغير عتبة بابه، هذه كناية جائزة، يغير عتبة بابه، جاء إسماعيل وضع رماحه ووضع ما صاده، وكان يصيد، من زارنا اليوم؟ قالت: زارنا شيخ، أوصاك بشيء؟ قال لي: أقرئيه السلام، وقولي له: يغير عتبة بابه، قال: ذاك أبي وقد أمرني بطلاقك، فالتحقي بأهلك؛ لأنها ما كانت امرأة صالحة.

    وتزوج إسماعيل جرهمية أخرى، وجاءه أبوه بعد عام أو عامين يزوره، فدخل، فشاء الله أن يكون غير موجود، أين زوجك؟ قالت: ذهب يصطاد لنا، كيف حالكم؟ إنا في خير، إنا في سعادة، إنا في عافية -هذه الكلمات تزن الدنيا وما فيها- ففرح، وقال: إذا جاء زوجك أقرئيه السلام وقولي له: يثبت عتبة بابه، أي: يبقي على هذه الزوجة ويصونها ويحافظ عليها.

    فإذا كان أباك كإبراهيم، وقال لك: طلق هذه! طلقها، وإذا كانت أمك كـخديجة بنت خويلد أو عائشة أما المؤمنين في صلاحها، وقالت: هذه المرأة ما تصلح طلقها.

    وإذا كان أبوك أو أمك مثلي وأمي لا تطلق إذا رأيت المرأة صالحة، هذا العلم أخذناه بالأمس، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] أولاً، وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23] ثانياً.

    الإحسان إلى الوالدين حال الضعف والكبر

    وقوله تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ [الإسراء:23]، قلنا: ما زائدة؛ لتقوية الكلام؛ إذ القاعدة في اللغة: زيادة المبنى تزيد في المعنى، الأصل: حين يبلغ الكبر عندك، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا [الإسراء:23]، كم من إنسان، وأنا منهم أنا عشت مع أمي، أبي مات عام ولادتي، هل أبر والدي؟ مات، أمي نعم. وكم من إنسان تموت أمه وهو يرضع ويبقى مع والده، أليس كذلك؟ وكم من إنسان يعيش مع أبيه وأمه مع بعضهم البعض ويموت قبلهم جائز.

    فمن هنا إذا أدرك أحدهما الكبر وأصبح في حاجة إليك كما كنت طفلاً في حاجة إليهم، هنا انتبه أحسن وبالغ في الإحسان، تستطيع أن تغسل الوسخ من بدن أمك أو أبيك، تستطيع أن تطبخ الطعام وتقدمه، تستطيع أن تحمل أمك على كتفيك، والحمد لله حملت أمي على كتفي، مرضت مع كبر سنها، ونحن نسكن في حديقة كذا درجة، فهبطتها لنذهب بها للمستشفى على كتفي، ووضعتها عند باب الطريق، كلما يجيء تاكسي يقول: ما ننقل هذه ما ننقلها، فرددتها على كتفي، والحمد لله، وتوفيت في ذلك اليوم أو بعده.

    تعرف حمل والدك على كتفيك، تحمل أمك على كتفيك، واذكر دائماً قول الله تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23]، الكلمة التي تدل على عدم رضاك تدل على سخطك وغضبك عنهم لا تقال أبداً، لا يفهمان إلا أنك محب صادق في حبهم.

    أما الانتهار والزجر والصوت العالي أو كلمة: اذهبي. هذا هو العقوق، هذا قطع الصلة بينك وبينهم، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء:23]، ما هو القول الكريم؟ الذي يشعر الوالد معه بالراحة والطمأنينة، الكلمة الطيبة.

    وهنا أذكركم بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يصعد المنبر صعد الدرجة الأولى قال: ( آمين )، الدرجة الثانية قال: ( آمين )، الدرجة الثالثة قال: ( آمين؛ فسألوه: لم أمنت يا رسول الله؟! قال: أتاني جبريل عليه السلام )، من جبريل هذا؟ هذا ملك من أشراف الملائكة المقربين، ( قال لي: رغم أنف امرئ ذكرت عنده ولم يصل عليك، فقل آمين! فقلت: آمين )، ومن أمن عليه عليه الصلاة والسلام يسلم؟ ( وقال لي: رغم أنف امرئٍ دخل عليه شهر رمضان وخرج ولم يغفر له )؛ لأن شهر رمضان شهر المسابقات والجوائز، فإذا انسلخ الشهر وبقي العبد على ذنوبه هلك، ادع عليه بالبلاء والشقاء.. آمين. ثالثاً: ( رغم أنف امرئٍ أدرك أبويه أو أحدهما حياً ولم يدخلاه الجنة ).

    إذاً: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا [الإسراء:23]، على حد سواء، فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23]، تعرفون النهر السائل؟ هذا الانتهار بكلمة قاسية، نهر: فجر وزجر، دائماً كلمتك مع أمك ألين ما تكون، مع والدك أرق ما تكون؛ حتى ما يشعر أبداً أن في نفسك شيئاً من بغضهم أو عدم حبهم.

    وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء:23]، وهو القول الحسن الجميل الذي يتلذذون به ويشعرون بالسعادة معه، ما هو القول النابي القاسي المخالف لما يحبانه أو يريدان، قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء:23].

    وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24]، وقد قلت لكم: لكل منا جناحان، بمعنى: لِن وتطامن وانكسر على جنبك؛ لتكون أقل مستوى من مستواهم، وحتى إن الرجل إذا كان أطول من أبيه ما يمشي أمامه، يمشي الأب هو الأول وهو الآخر، أو يمشي إلى جنبه ويتقاصر، ما يتطاول.

    وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24]، ادع لهما: يا رب! ارحم أبوي مقابل التربية التي ربياني عليها وأنا طفل في حجورهما، كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088547198

    عدد مرات الحفظ

    777254314