يوم القيامة تشقق السماء بالغمام وتنزل الملائكة مع الرحمن، عندها يشعر الكافرون بعسر الموقف وصعوبة الحال، ويعض الظالم على يديه حسرة وندامة؛ لأنه في حياته الدنيا أعرض عن دين الله ولم يسلك سبيل رسول الله، وإنما اتبع سبيل أخلائه من أهل الدنيا، ممن كذبوا الرسول وأوغلوا في العصيان، وتنكبوا طريق الرحمن.
ثم قال تعالى:
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ 
[الفرقان:27] في هذا اليوم يعض الظالم على يديه.
كيف يعض على يديه؟ لو رأيتم الناس يعضون! لما يشتد به الكرب يعض يديه.. فطرة غريزة بشرية إذا هاله الأمر وأفزعه وضاق به يعض يديه.
وَيَوْمَ يَعَضُّ
[الفرقان:27] من هذا الذي يعض؟ الظالم نعوذ بالله أن نكون من الظالمين.
من هو هذا الظالم؟ ما اسمه؟ عربي أم عجمي؟ من الظالم؟
أنواع الظلم
تأملوا! واحفظوا أن الظلم ثلاثة أنواع:
الأول: ظلم للرب تبارك وتعالى، وهو سلب -أي: أخذ- حق الله وإعطاؤه للأصنام والأحجار والبشر والملائكة والناس، وهو الشرك بالله، والله يقول:
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
[لقمان:13].
تظلم ربك.. تأخذ حقه وتعطيه للمخلوقات، فبدل أن تركع وتسجد لله الخالق تركع وتسجد وتنحني لصنم أو حجر أو قبر أو إنسان!
بدلاً من أن ترفع يديك إلى الله: يا رب! يا رب! تقول: يا سيدي فلان! ويا فلان!
تأخذ حق الله وتعطيه لمخلوق! فالشرك ظلم عظيم وهو سلب حق الله وإعطاؤه لعباده من الملائكة أو الأنبياء أو الرسل أو الأولياء والصالحين فضلاً عن الأحجار والتماثيل والأصنام.
فاحذر عبد الله الظلم الذي هو الشرك والعياذ بالله، قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ
[النساء:48].
يا عباد الله! حققوا معنى لا إله إلا الله، وذلك بأن لا نعترف أبداً بوجود إله يعبد مع الله، فلا ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا عبد صالح فضلاً عن التماثيل والأحجار والشهوات، فلا إله إلا الله!
وألفت النظر هنا إلى أن الجهلة ما زالوا إلى اليوم في بلاد المسلمين ينادون: يا رسول الله المدد! يا سيدي فلان! أنا في حماك! يا عبد القادر أنا في جوارك!
ينادون غير الله فهل يسمعونهم؟ وإذا سمعوا هل يستجيبون لهم؟
لا والله. إذاً: عبث وباطل، ولكن يغضب الرحمن عز وجل!
أتترك خالقك ومالك أمرك ورازقك ومميتك ومحييك وتلتفت إلى غيره فتناديه؟!
كيف يصلح هذا؟ هذا ظلم من أفظع أنواع الظلم. وهذا هو النوع الأول من أنواع الظلم.
النوع الثاني: ظلمك لعباد الله بأخذ أموالهم، بنهش أعراضهم، بأذاهم والتسلط عليهم!
ظلمك لإخوانك ظلم، بل هو لكل إنسان، حتى ولو كان كافراً لا يحل ظلمه لا بأخذ ماله ولا بانتهاك عرضه ولا بأي شيء!
ظلمك لغيرك من الناس من أنواع الظلم العظيمة، فالمؤمن الحق لا يظلم أبداً، يعطي كل إنسان حقه ولا يظلم أحداً لا في ماله ولا في عرضه.
النوع الثالث: ظلمك لنفسك. وهل النفس تظلم؟ إي نعم، فبدلاً من أن تطيبها وتطهرها وتعطرها تنتنها وتعفنها بالذنوب والآثام، فإذا لطختها فقد أفسدتها ووالله إنك لظالم لها، قال تعالى:
وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
[البقرة:57].
نفسك لما نفخها الملك في جسمك في رحم أمك كانت كهذا النور في الإشراق، وتبقى مشرقة إلى أن يبلغ الغلام العشرة والحادية عشرة، وحينئذ إذا أذنب ذنباً ينعكس أثره عليها، فإذا بلغ سن الرشد فإذا كذب كذبة تلطخ لطخة، إذا نظر نظرة متعمدة إلى امرأة محرمة فيقع في قلبه نكتة سوداء.. وهكذا، وإنما من فضل الله أننا إذا تبنا ينمحي ذلك الأثر
وهذا كهذا الثوب الأبيض لو نلطخه بالتراب أو بالخراءة أو بالبول ينتن ويعفن فإذا جئنا على الفور بالماء والصابون وغسلناه ينظف، هذه سنة الله عز وجل. هذه أنواع الظلم الثلاثة فاللهم لا تجعلنا منهم!
معنى قوله تعالى: (يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً)
وقوله تعالى:
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي 
[الفرقان:29].
هذه كلمات من؟ هذا الهالك في جهنم.
ماذا يقول؟
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ
[الفرقان:29]. والمراد بالذكر: القرآن. والقرآن ذكر، والله ما تسمع آية إلا ذكرت الله.
القرآن اسمه الذكر، فلما تسمع آية تسأل: كلام من؟ الله، فتكون قد ذكرت الله -سبحان الله العظيم- ولهذا سماه الله الذكر الحكيم!
لما تسمع قارئاً يقرأ القرآن والله تذكر الله، أو يخطر في بالك كلام من هذا؟ القرآن كلام الله. أي: ذكرت الله، والقرآن يذكر بالله عز وجل وبالدار الآخرة، فهو علم ما فوقه علم، ونور ما فوقه نور، ولكن مع الأسف حولناه إلى المقابر والموتى.
وا أسفاه! القرآن حولناه إلى المقابر وإلى ليالي الموت، من إندونيسيا شرقاً إلى الدار البيضاء غرباً أكثر من سبعمائة سنة والقرآن لا يجتمع عليه إلا ليلة الموت أو في المقبرة!
من صرفنا هذا الصرف؟ أذكركم حتى لا تنسوا: إنه الثالوث الأسود. ما الثالوث؟ هذا العدو المكون من ثلاث حيات: وهم المجوسية، واليهودية، والصليبية.
هؤلاء الذين كربوا وحزنوا وتألموا من انتشار نور الله.. انتشار الإسلام في الشرق والغرب، فقالوا: ما سبب هذا الانتشار؟
كيف انتشر هذا الدين من أقصى الدنيا إلى أقصى الدنيا؟ قالوا: سبب ذلك القرآن. إي والله لهو القرآن!
القرآن روح، فمن آمن به وقرأه وعمل بما فيه حيي، وقد حييت أمة الإسلام من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب بسببه.
قالوا: إذاً: ماذا نصنع؟ قالوا: نأخذ القرآن منهم؟ اجتمعوا في مؤتمرات على أن يأخذوا حرفاً واحداً والله ما استطاعوا.. عجزوا.
قالوا: كيف نصنع؟ نصرفهم عنه، فوضعوا قاعدة أكررها وهي: (تفسير القرآن صوابه خطأ، وخطؤه كفر). فما بقي من المسلمين من يقول: قال الله!
أي: اسكت، لا تفسر كلام الله فتكفر.
إذاً: ماذا نصنع بالقرآن؟ قالوا: اقرءوه على الموتى، فالميت إذا كان غنياً سبع ليال إلى واحد وعشرين ليلة، إلى أربعين ليلة فقط.
وفي المقابر أيضاً هات عشرة ريال أقرأ لك على ميتك، ومن ثم هبطنا.
هبطنا أم لا؟ أما كنا سادة حاكمين فأصبحنا أذلة مستعمرين محكومين؟! بلى.
ما سبب هبوطنا؟ السبب أننا متنا بسلب الروح منا!
والقرآن روح، قال الله تعالى:
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا
[الشورى:52] سماه روحاً لأن فيه الحياة.
وإلى الآن إذا لم نجتمع في بيوت ربنا اجتماعنا هذا كل ليلة وطول العام بين المغرب والعشاء نتلقى كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والله ما نكمل ولا نسعد أحببنا أم كرهنا.
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي
[الفرقان:29] أي: كتاب الله. جاءنا كتاب الله فأضلنا وصرفنا عنه اليهود والنصارى والمجوس واستجبنا ومددنا أعناقنا.
وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا
[الفرقان:29] الشيطان هو الذي يخذلنا والعياذ بالله، يصرفنا عن الحق إلى الباطل، عن الخير إلى الشر، عن الإيمان إلى الكفر، عن الاستقامة إلى الاعوجاج، عن الصلاح إلى الفساد. هذه مهمته:
وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا
[الفرقان:29] هو الذي خذل المسلمين وسلط أولياءه عليهم.
هداية الآيات
قال: [من هداية الآيات:
أولاً: تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر البعث والجزاء وبذكر أحوالها وبعض أهوالها ].
أول هداية الآيات التي درسناها: تقرير عقيدة البعث والجزاء، والله إنها الحق، والذي ينكر ذلك والله ما هو بمؤمن، والله ما هو بمؤمن، والذي ينكر البعث والجزاء والله لا يوثق فيه ولا يعول عليه أبداً، فإنه شر الخلق! الذي لا ما يؤمن بأنه سيسأل يوم القيامة ويجزى على كسبه لا خير فيه، وهو شر الخلق.
[ ثانياً: إثبات مجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء يوم القيامة ].
إثبات مجيء الرب تبارك وتعالى ونزوله في ساحة فصل القضاء في مواكب الملائكة، نؤمن بهذا إيماناً قطعياً؛ لأن الرسول أخبرنا به؛ ولأن الله أخبرنا عن نفسه فقال:
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا
[الفجر:22].
[ ثالثاً: تندم الظلمة وتحسرهم على ما فاتهم من الإيمان والطاعة لله ورسوله ].
تندم الظلمة -والعياذ بالله- وتحسرهم على ما أصابهم يوم القيامة بسبب ظلمهم في هذه الحياة.
وقد عرفتم الظلم وأنه ثلاثة أنواع: ظلم تظلم ربك فتأخذ حقه وتعطيه لغيره وهو الشرك والكفر والعياذ بالله.
وظلم للناس في أموالهم وأعراضهم، وظلم لنفسك تخبثها وتدسيها بأنواع المعاصي والذنوب.
[ رابعاً: بيان سوء عاقبة موالاة شياطين الإنس والجن وطاعتهم في معصية الله ورسوله ].
من يجاري الفسقة الفجرة الظلمة المعرضون عن الله ويصاحبهم ويجالسهم يهلك معهم أحب أم كره.
[ خامساً: ] وأخيراً [ تقرير مبدأ: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ]. لأن الآية وإن كانت نزلت في عقبة بن أبي معيط وأبي بن خلف لكنها عامة إلى يوم القيامة، فكل من يطيع زميله ويستجيب له يهلكه [ إذ عقبة بن أبي معيط هو الذي أطاع أبي بن خلف حيث آمن، ثم لامه أبي بن خلف وارتد عن الإسلام، فهو المتندم المتحسر القائل: يا ليتني لم أتخذ فلانا خليلاً، لقد أضلني عن الذكر ].