إسلام ويب

تفسير سورة الانشقاق (2)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يقسم الله عز وجل بالشفق، وبالليل الذي يغطي كل شيء، وبالقمر الذي يبدأ هلالاً ثم يتكامل حتى يصير بدراً، فيقسم سبحانه بهذه الظواهر على أن البشرية جمعاء سترجع إلى ربها، فالمؤمنون الذين عملوا الصالحات سيدخلون الجنات، لهم فيها درجات بعضها فوق بعض، أما المكذبون فإلى نار جهنم يساقون، وفي دركاتها أشد العذاب يذوقون، فسبحان من بيده أمر كل شيء وإليه يرجعون.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها يوم أمس سورة الانشقاق.

    وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تلاوتها.. هذه الآيات تضمنت سجدة، ألفت نظركم إلى أنا سنسجد فاسجدوا؛ لأن القارئ إمام المستمعين، إذا سجد فاسجدوا، وإذا لم يسجد لا تسجدوا، وهي من عزائم السجدات.

    وتلاوة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ * فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ * فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [الانشقاق:16-25].

    إقسام الله عز وجل بمخلوقاته

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: فَلا أُقْسِمُ [الانشقاق:16] هل معنى هذا أنه أخبرنا أنه لا يحلف؟ وجائز أن تفهم هذا، إذ الأمر لا يحتاج إلى إقسام ولا يمين، وجائز أن تكون (لا) نافية. ويبقى الخبر: أقسم وحق لي أن أقسم.

    وهذا النفي كما يقدره أهل العلم، أي: فليس الأمر كما تدعون أيها الملاحدة من أنه لا حياة بعد هذه الحياة.. ولا بعث.. ولا جزاء.. ولا حساب، فليس الأمر كذلك، بل لا بد من وقوف بين يدي الله في ساحة عظمى للقضاء العادل بينكم، من يعمل سوءاً يجز به، ومن يعمل حسنة يجز بها، وهذا أليق بالمقام.

    وهل الله تعالى يحلف؟ نعم. الله جل جلاله يحلف.

    وبم يحلف؟ بما يشاء، لا حجر عليه ولا حظر، يحلف بمخلوقاته، وقد حلف في القرآن الكريم عشرات المرات، حلف بالتين والزيتون وطور سينين وبالبلد الأمين.. حلف بالضحى والليل إذا سجى.. حلف بالليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى.. حلف بالفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر.. حلف بالسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود.. حلف بالسماء والطارق.. حلف بحياة نبيه: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72].

    فاعلموا معاشر المؤمنين والمؤمنات! أن ربنا جل جلاله وعظم سلطانه يحلف بما يشاء من مخلوقاته.

    النهي عن الحلف بغير الله

    أما نحن العبيد والإماء لم يسمح لنا أبداً أن نحلف بغيره، ومن حلف بغير الله أغضب الله، والله ما أذن لنا أن نحلف بسواه قط.

    وإن قلتم: ما هي الآية التي تدل على هذا الذي تقول؟

    قلت لكم: هاهم أولياؤه وأنبياؤه في القرآن الكريم نتلو قصصهم، هل وجدنا أحداً منهم حلف بغير الله؟ وفوق ذلك رسوله ومصطفاه وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أناط به أن يبين للناس ما أنزل إليه، على المنبر أعلنها صريحة واضحة بقوله: ( ألا إن الله ورسوله ينهيانكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ).

    ومرة أخرى قال كما في جامع السنن للترمذي : ( من حلف بغير الله فقد أشرك ) أي: المحلوف به أشركه في تعظيم الله، إذ أصل الحلف بالشيء تعظيم له، فمن حلف بشيء عظمه، والله أكبر.

    إذاً: ومن كان من السامعين والسامعات يحلف بغير الله قبل اليوم فليتب إلى الله، فإن باب التوبة مفتوح، فلا تحلف برأسك.. ولا بعينك.. ولا بالطعام.. ولا باليوم.. ولا بالكعبة.. ولا بالمصحف.. ولا.. ولا، ليس عندك إله إلا الله، ألست الذي تقول: لا إله إلا الله؟ فكيف توجد آخر وتحلف به؟

    ولا تقلدوا العوام والجاهلين والمظللين، والله ما جاز لمؤمن ولا مؤمنة أن يحلف بغير ربه، ومن جرى على لسانه ما لا يقصد، تعود لكثرة ما يحلف، لا يشعر حتى يقول: وكذا..

    وعلى سبيل المثال: بعض إخواننا المصرين تعودوا الحلف بالنبي، يتحدث معك يقول: والنبي، يخبرك يقول: والنبي، يأتي يسألني فيقول: يا شيخ! والنبي حصل كذا.. فأقول له: لا تحلف بغير الله، يقول: والنبي لا أزيد!

    إذاً: فهذا الذي تعود علاجه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، الطبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم هو صاحب هذا المسجد، وهذه المدينة، وهذه الأمة.

    شاهد عليه الصلاة والسلام إخواناً لنا وله من المؤمنين يجري على ألسنتهم الحلف بغير الله؛ لأن الرجل عاش أربعين سنة يحلف بالعزى وأسلم اليوم، ممكن ينسى ذلك؟ لا يستطيع، عاش ستين سنة وهو يحلف باللات ودخل في الإسلام من أسابيع أو أشهر ينسى؟ لا يستطيع، تعود. فقال عليه الصلاة والسلام: ( من حلف باللات أو العزى فليقل: لا إله إلا الله. ومن قال لأخيه: تعال أقامرك؛ فليتصدق ) والحديث في الصحاح، في البخاري ومسلم وغيرهما.

    ما معنى: ( من حلف باللات أو العزى )؟ من قال: واللات ما أفعل -كما كانوا في الجاهلية يفعلون- والعزى، جرى على لسانهم هذا بدون قصد؛ لأنه أسلم.. وحد، ما أصبح مشركاً، فالعلاج لتلك الكلمة المنتنة العفنة كلمة الشرك والكفر تقضي عليها وتمحوها كلمة النور والتوحيد: لا إله إلا الله فتزيل أثرها على الفور.

    ما معنى: ( من قال لأخيه: تعال أقامرك؛ فليتصدق

    أهل مكة كانوا يعيشون على القمار -أستغفر الله- قمارهم شريف، نعم. كفار قريش أشراف الكفار يقامرون، لكن لا على طريقة هذه البشرية السافلة.

    كيف يقامرون؟ يجتمعون حول الكعبة، عند الصفا.. عند المروة اجتماع، وبعير -جزور- مربوط هناك، فالذي يغلب يسدد قيمة هذا البعير؛ ليذبح للفقراء والمساكين.

    هل جماعتنا يقامرون هكذا؟ لا. على براد الشاي. بعير كامل الذي ينهزم في اللعب يذبحه ويأكله فقراء الحرم.

    شريفة هذه أو لا؟ فهذه خصلة شريفة، ومع هذا نزل فيهم القرآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90-91] قالوا: انتهينا يا رب!

    لكن يبقى ذاك المعنى في الذهن، لا يشعر فيقول: تعال أقامرك كما كنا. هذه سيئة غير مقصودة، ذنب غير متعمد، والعلاج كما قال رسول الله: ( فليتصدق )، من قالها يتصدق بأية صدقة ولو حفنة تمر، بل ولو قطعة من خبز، المهم أن يتصدق، فينمحي ذلك الأثر الذي علق بالنفس بهذا الحلف أو بهذه الدعوة إلى القمار.

    والحمد لله! القمار انتهى بين المسلمين، فلا أدري هل هم أصيبوا بفقر أم عرفوا الطريق إلى الله!

    الحمد لله. عرفنا الطريق!

    ويبقى الحلف، ونسبة الذين كانوا يحلفون بغير الله في الأمة أكثر من خمسة وسبعين في المائة من إندونيسيا إلى المغرب، والآن هبطت النسبة ممكن نسبة خمسة وعشرين في المائة يحلفون بغير الله، خمسة وسبعين يحلفون بالله.

    احمدوا الله!

    علة إقسام الله عز وجل بمخلوقاته

    وربنا تعالى لما يقسم بالأشياء لاحظ: إما أنه بإقسامه بها يعلن عن شرفها ومكانتها، فهنيئاً لمن أقسم به، كما حلف برسول الله صلى الله عليه وسلم: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72].

    وقد يحلف بالشيء لما فيه من الخير والفوائد والمنافع لنحمد الله على ذلك ونشكره كما حلف بالتين والزيتون فقال: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التين:1].

    قد يحلف بالشيء؛ لأنه من مظاهر علمه وقدرته وحكمته، كحلفه بالملكوت الأعلى.. بالسماء ذات البروج.. بالشمس وضحاها.. بمخلوقات عظيمة خالقها أعظم منها بلايين المرات، فهو يلفت نظرنا إلى قدرته التي لا يعجزها شيء، وإلى علمه الذي تغلغل في كل شيء، وإلى حكمته التي لا يخلو منها شيء، ارفعوا رءوسكم إلى السماء، وهكذا لا يحلف عبثاً تعالى الله علواً كبيراً.

    أما نحن نحلف من أجل أن نؤكد الخبر بأن القضية صحت وتمت، انزع من ذهنك الوسواس، الخبر صحيح، فليس لنا أن نحلف إلا بالله. فإن قلت: والنبي.. والحسين؛ والله ما يجوز، ما عندنا أبداً إلا بالله ( من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ) لأننا عبيد.

    إقسام الله عز وجل بالشفق

    إذاً: وهنا أقسم الجبار جل جلاله بماذا؟ قال: بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ [الانشقاق:16-18] أقسم بثلاثة أشياء:

    الشيء الأول: الشفق. ما الشفق؟ حمرة تعقب غروب الشمس وتملأ الجو الغربي حمرة، يشاهدها كل ذي عينين، وتستمر شيئاً فشيئاً إلى أن ينقضي وقت صلاة المغرب فيدخل وقت صلاة العشاء. هذا الشفق، وليس من الإشفاق بمعنى: الرحمة بالمخلوق، هذا مظهر من مظاهر قدرة الله عز وجل، الآن الشمس نقية بيضاء، أليس كذلك؟ بلى. تسقط هكذا في البحر أمامنا، تغيب، وإذا بالحمرة تملأ المنطقة، وتزول شيئاً فشيئاً ساعة وربع أو ساعتين، هذا الشفق من أوجده؟ من أوجد الشمس ذات الشفق؟ من أوجد الأفق الحامل للشفق؟ انظر يا عبد الله! أفعال ربك العزيز الحكيم، آمن بالله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088534232

    عدد مرات الحفظ

    777181392