ثم قال له الآن لما لطف الجو، وما أصبح الرسول يكرب ولا يخاف ولا يحزن، قال له مواجهة:
[عبس:1-6] وأصل تصدى تتصدى وأدغمت التاء في الصاد تصدى، والتصدي هو الإقبال للشيء والتوجه إليه.
ومعنى هذا: أن على الداعي أن يقول كلمته ولا يكرب ولا يحزن إذا لم تستجب الدعوة ولم يقبل عليها، إذ لسنا مأمورين بأن نهدي الناس، إذ لو كلفنا بهداية واحد فقط ما استطعنا، إذ الهداية يملكها الله، من أراد أن ينزله في جواره في الملكوت الأعلى هداه، ومن أراد أن يبعده لعلمه بخبثه وشره وعدم صلاحيته للملكوت الأعلى يضله.
الآن يقع في نفوس بعض السامعين: إذا كانت القضية هكذا فهيا نمشي إلى السوق إذاً، ومن أراد الله هدايته هداه، ومن لا يريد هدايته فلن يهديه، فهيا بنا نمشي ونفرفش. يخطر في بالكم هذا؟ يخطر نعم. ولكن يهدي من يشاء، مشيئته تابعة للحكم العالية.
باختصار أجيب عن هذا التساؤل وهو في باب القضاء والقدر، وما أحوج السامعين والسامعات إلى مثل هذه الحقائق العلمية.
أقول: لما خلق الله تعالى الأرواح أولاً، فنظر إليها فعرف وعلم الروح التي إذا دعيت إليه أجابت، والروح التي إذا دعيت إليه أعرضت وأدبرت.
نظر إلى الروح فعرف الروح التي متى دعيت إليه أجابت الداعي وآمنت وأطاعت واستقامت رغبة فيما عنده وحباً فيه، فهذه الروح كتب سعادتها، وهذه التي يشاء هدايتها، والروح التي عرف أنها تعرض عنه، وتبغضه وتبغض أولياءه، ولا تريد أن تؤمن به ولا تعبده في الخلق، هذه الروح إذاً كتب شقاوته، وهذه لا يشاء هدايتها.
مثال: الفلاح يحمل في كفه بذر الحنظل وبذر البطيخ وبذرهما سواء، لا تفرق بين بذرة هذا وهذا، وشجرهما لما ينبت سواء، والثمر أيضاً، إلا أن الحبحب يكبر والحنظل لا يكبر وإلا هو هو، فالفلاح لما يأخذ البذرة في كفه يعرف مسبقاً ويحلف بالله على أن هذه تنتج حبحبة وبطيخة حلوة، وهذه تنتج حنظلة مرة، يعرف ذلك يقيناً. عرفتم هذا المثل، فالله لما خالق الأرواح عرف الروح التي تقبل دعوة الله، وتهاجر إلى الشرق والغرب طالبة لها، وتجاهد دونها، وتخرج من مالها ودارها ومن أهلها. هذه تستحق إذاً الهداية، هذه يشاء هدايتها، والتي عرف أنها لو جاءتها الرسل تترى ما جاء رسول إلا كذبوه وأعرضوا عنه، ولا يريدون دعوة الله كتب ذلك.
فمن هنا إذا جاء ملك الأرواح .. الملك المختص بنفخ الروح في الجنين في بطن أمه، هذا الملك المكلف يأتيه لما يبلغ الجنين الطور الرابع؛ لأن الرسول أخبر فقال: ( إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ) فقط قطرة مني ( ثم يكون علقة مثل ذلك ) في أربعين يوماً أخرى فيصبح علقة كمح البيضة يعلق بالأصبع ( ثم يكون مضغة مثل ذلك ) في أربعين يوماً أخرى يصبح لحماً بقدر ما يمضغ الإنسان بفمه. تسمى: مضغة ( ثم يأتي الملك فينفخ فيه الروح ثم يؤمر الملك بكتب أربع كلمات ) لن تقوى يد البشر والجن على محو كلمة منها ولو أجمعوا.
( أربع كلمات: بكتب رزقه ) كم يأكل من قنطار بر أو شعير أو تمر، والله ما ينقص جرام ولا يزيد جرام، فلهذا اقتلوا أو لا تقتلوا أولادكم، فهذا رزقه، كل شيء مقدر فإذا أكل كذا.. كيلو لحم وكان عمره ثمانين سنة، والله لا يزيد بجرام لحم، ولهذا كل شيء بمقدار، لا يزيد شيء أبداً ولا ينقص، كما كتب.
( عمله خيراً كان أو شراً ) كما كتبه، يقوم وكأنه آلة يشتغل طول حياته حتى يفرغ مما كتب.
( وشقي أو سعيد ) أربع كلمات، يكتب شقياً إن كان في ديوان اللوح المحفوظ شقياً، أو سعيداً إن كان سعيداً.
ثم يخرج من بطن أمه فلا يكلف السنة الأولى والثانية والثالثة والرابعة.. إلى السابعة فيصبح قادراً على أن يتحمل التوجيهات والتعليمات والتأديبات، فعلى أبويه أن يأخذا بتعليمه، فإذا بلغ السابعة علم طفلك، فإنه مهيأ لأن يحفظ القرآن كله، واستمر في تعليمه سبع سنوات، وإياك أن تفرط في صيفه أو شتوه -كما يقولون- سبع سنين كاملة وأنت تملؤه بالآداب.. الأمثال.. الحكم.. الفقه، كل العلوم.
فإذا بلغ الخامسة عشر صاحبه، اجعله صاحبك، لا يفارقك ولا تفارقه أبداً، إلا عندما يأخذه النوم فأدخله الغرفة لما ينام وأغلق عليه الباب حتى لا تختطفه الشياطين، اجعله صاحبك، يحبك وتحبه، فإن هذه الفترة التي عرفها علماء النفس و.. وبسن المراهقة هذه معناها تحتضنه الشياطين احتضاناً، فإذا أنت فرطت فيه وأهملته وتركته فعليه السلام.
ما معنى لا يفارقني يا شيخ؟! أنا تاجر.. أنا فلاح.. أنا موظف؟
نعم. إن كنت تاجراً لا تطلب له إلا وظيفتك، يشتغل معك في الدكان أو في الرحلات البرية أو البحرية، حتى يكون مثلك، فلاح المزرعة البستان هو معك ليكون خليفتك لا يفارقك، صانع بيدك الحديد المنشار هو معك، موظف اطلب له وظيفة معك. قالوا: ما عندنا، قل لهم: مع السلامة. يا حاكم وظفونا! قال: لك وظيفة أما ابنك فليس عندنا.
إذاً: مع السلامة، كيف أترك ولدي؟ واطلب عمل مع ولدك، وكن فقط بطلاً، إلى الواحدة والعشرين، فإذا بلغ الواحدة والعشرين فقد نسخك وأصبح هو أنت وأنت هو، أتركه يبني المنزل ويتزوج ويولد له ويربي الأولاد.
قل فينا من أخذ بهذا المنهج؟ نادر.
من وضع هذا المنهج؟ أي فيلسوف تربوي؟ من وضعه علماء اليونان والإغريق.. علماء من؟
هذا المنهج من فتوحات الله على عبده عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
ولك أن تأتي بعلماء الاجتماع.. علماء النفس.. علماء الكون، والله ما ينقضون هذا المخطط، ولا يمكنهم نقضه بما هو فساد أو شر، مستحيل. لم؟ لأن عمر كان ربانياً، حارب الشيطان فقهره وأذله وأخافه وأفزعه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: ( ما سلك عمر فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجه ) الشيطان ترتعد فرائصه ويخاف فلا يمشي في شارع مع عمر ، الشارع ليس ضيقاً بل فج، لكنه لا يقوى.
وبلغ من صفاء روحه ما أخبر به عبد الله ولده رضي الله عنهما، قال عبد الله : ما قال والدي في شيءٍ كذا.. إلا كان كما قال. أي: ما قال أبي في شيء أظنه كذا إلا كان كما ظن. وهذه هي الفراسة.
الآن عند السحرة والدجالين، هذه الفراسة هي صفاء الروح.. طيبوبة النفس، زالت الحجب التي تمنع دون الوحي والإدراك والفهم، فكان إذا نظر إلى الشيء، وقال: أظنه كذا.. ينكشف الغطاء ويرى كما ظن عمر .
وكم من ماكر جاء ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم والسيف قد تأبطه تحت ثيابه فينظر إليه فيقول له: جئت لقتل محمد ألق السيف؛ فيطرحه من يده.
وهل فيكم من يرجو أن يكون مثل عمر؟
وإليكم هذا العرض السريع لتعرفوا عمر :
أولاً: عمر في تواضعه وهو خليفة يحمل اللحم في ثوبه، من السوق يلفه في رداء ويأتي به إلى بيته، فهل تفعلون أنتم هذا؟ عيب! لا تستطيعون.
عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه دعاه أحد الولاة أيام خلافته إلى طعام وضيافة فوضع بين يديه سفرة ملونة من المطاعم فنظر كالأسد ثم قام ترتعد فرائصه، فخاف الوالي قال: ما لك يا خليفة رسول الله؟! اطعم. قال: إني خشيت أن أكون ممن قال الله عز وجل فيهم:
أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ
[الأحقاف:20] .
فهل عرفتم عمر؟ لا يجمع بين أكلتين أبداً، إما رز وإما خبز، هذا الذي وضع هذا المنهج الذي نتحدى به البشرية أن توجد منهجاً يضاهيه أو ينازعه، ومع الأسف لم يعمل به المسلمون في أيام الهبوط والسقوط والموت، أما أيام ما كان المسلمون مسلمين فهذا المنهج الذي وضعه عمر هو منهجهم.
الآن مناهجنا مستوردة من أوروبا والله العظيم!
مناهج التعليم مأخوذة من الغرب حرفياً!
سمعتم عمر يقول: لاعب ابنك سبعاً، وأدبه سبعاً، واصحبه سبعاً، ثم اتركه يذهب حيث شاء.
إذاً: نعود إلى قضية القضاء والقدر، يهدي من يشاء ويضل من يشاء فبعدما عرفنا هذا: اعلم يا عبد الله! أن الله عز وجل كلفك وأعطاك الحرية الكاملة في اختيار الصالح أو الطالح.
لما بلغت الخامسة عشر أصبحت مكلفاً، ليس هناك ضغط قط إن شئت تتناول كأس اللبن أو كأس الخمر، والله لا ضغط أبداً، إلا إذا كان هناك ضغط من الإنسان بيده عصا قال: اشرب لو شربت الخمر ما تعلق بنفسك شيء؛ لأنك معذور.
جاء دور الاختيار والإرادة الحرة، جالس العباد والزهاد، أو جالس الفساق والمجرمين، أنت حر.
ثانياً: ما تركك فقط لإرادتك الحرة وعقلك، بل بعث إليك رسولاً يعرفك بربك ويهديك إليه كما بعث أمس موسى إلى فرعون
وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى
[النازعات:19]. أما إذا ما جاءتك رسالة ولا رسول فلست بمكلف.
ثالثاً: أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم الكتاب الذي به تعرف الله معرفة يقينية معرفة كاملة، فترهبه وتحبه، ثم بعد ذلك أنت وما تختار، إن اخترت الهداية يسر الله أسبابها، وأعانك عليها؛ لأنك مسوق لها، كتبت لك، وإن اخترت الضلالة والشقاوة يسرت لك أسبابها وأنت طالبها فتنتهي إليها.