قال تعالى:
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ 
[السجدة:16]. ذكر
القرطبي و
ابن جرير الطبري عن الصحابة والسلف الصالح بأن الذين
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ 
[السجدة:16] هم الذين إذا صلوا المغرب لا ينامون حتى يصلوا عشر ركعات. وهذه الفرصة لولا الدرس يربطنا بين المغرب والعشاء لصليناها عشراً. وقد كان المشركون إذا غابت الشمس ناموا، وكان
علي يصلي ست ركعات، فقد كانوا
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ 
[السجدة:16]، أي: تتباعد عن المضاجع،
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا 
[السجدة:16]. وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه (
من صلى العشاء في جماعة كأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة كأنما قام الليل كله ). فلنحافظ على هاتين الصلاتين العشاء والصبح مع المؤمنين في بيوت ربنا سبحانه تعالى؛ لنصبح من الذين قال تعالى فيهم:
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ 
[السجدة:16]. فلولا أنك تركت النوم لما قمت وصليت الصبح، ولكنك تركت فراشك وقمت مع الأذان أو قبله، والعشاء وقت نوم فإذا لم تنم وصليت العشاء فقد تجافيت عن فراشك، ولم تنم عليه.
وقوله:
عَنِ الْمَضَاجِعِ
[السجدة:16]، أي: الفرش، جمع مضجع حيث يضطجع.
فمن استطاع أن يصلي بين المغرب والعشاء في خفية بعيداً عن أعين الناس فليفعل، فقد ورد الحديث في فضل ذلك، وأنه ممن
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ
[السجدة:16]. وقد كان الكافرون في ذلك الزمان قبل وجود الكهرباء وهذه الملاهي ينامون بعد صلاة المغرب مباشرة ولا يصلون، بل إذا غابت الشمس تعشوا وناموا. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن من صلى العشاء في جماعة ؛كأنما قام نصف الليل ) لله تعالى، والصبح أكثر من العشاء؛ لأن وقتها أصعب، فقد قال: ( ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله ). فلنقم الليل كله ونصفه، ونتهجد ما شاء الله أن نتهجد.
معنى قوله تعالى: (يدعون ربهم خوفاً وطمعاً)
قال تعالى:
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا 
[السجدة:16]، أي: في أثناء الذكر والتلاوة والسجود يدعون ربهم عز وجل
خَوْفًا وَطَمَعًا 
[السجدة:16]. فيدعونه خائفين من عذاب النار، فيستعيذون بالله منها، ويسألونه النجاة منها، ويطمعون في رحمته، وهي الجنة، فيسألون الله مواكبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في دار السلام. فهذا حالهم في سجودهم وصلاتهم وتلاوتهم كتاب الله، فهم يدعونه تعالى خائفين طامعين، خوفاً من عذاب الله، وطمعاً في رحمة الله. والعذاب: هو عذاب النار، والعياذ بالله، والرحمة: هي الجنة دار السلام.
معنى قوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون)
مكانة الدعاء في الإسلام
إن (
الدعاء مخ العبادة ). (
والدعاء هو العبادة ). لأن الداعي يقرر معنى لا إله إلا الله، وكثيراً ما ترفع يديك فيدل ذلك على أنك رفعت يديك إلى ربك، وأنه فوق سماواته فوق عرشه، وأنك لم تر في الكون من يعطيك أو يستجيب لك غيره، وعلمت أنه يسمع صوتك، وعلمت أنه يقدر على قضاء حاجتك غيره؛ فناديته يا رب! فلهذا العبادة هي الدعاء.
ومن هنا من دعا غير الله كفر وأشرك، ولم يؤمن بالله، واحذروا مما توارثناه جيلاً عن جيل من عوامنا وجهالنا الذين يدعون يا رسول الله! .. يا فاطمة ! .. يا حسين ! .. يا فلان! فهذا والله شرك وكفر.
والدعاء هو العبادة ؛ لأن العبادة هي الذل والمسكنة بين يدي الله بطاعته، والداعي يحصل منه التذلل عندما يقول: يا رب! يا رب!.
وقد عرف الداعي أن ربه فوقه فوق سماواته وفوق عرشه، لا كما يقول المضللون والضالون هو في كل مكان، بل هو على عرشه.
وقد عرف أن الله يراه، فلهذا رفع كفيه إليه، وعلم أن الله يسمع نداءه، فناداه: يا رب! يا رب! وعلم أن الله يقدر على إعطائه حاجته فقال: يا رب! أعطني. فلهذا الدعاء هو العبادة، وورد في الحديث: ( الدعاء مخ العبادة ).
وإذا نزع المخ من الإنسان مات، والعبادة إذا نزع منها الدعاء تبق عبادة لا تنفع.
وقوله
خَوْفًا وَطَمَعًا
، أي: خائفين من عقابه وعذابه في جهنم، وطامعون في رحمته وعطائه، وفضله وإحسانه، فهذه حالهم يدعون ربهم بين الخوف والطمع.
ثم قال:
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
[السجدة:16]. فهم ينفقون أولاً: الزكاة .
ثانياً: إذا رزقك الله عقلاً فانفع به غيرك، وإذا رزقك الله علماً فانفع به سواك، وإذا رزقك الله جاهاً أو دولة فانفع به من يحتاج إليه، وإذا رزقك الله قوة ووجدت مؤمناً لا يستطيع أن يحمل كيساً فاحمله معه، المهم أن تنفق مما رزقك الله.
لا تعلم نفس من الملائكة ولا من البشر ما أعد الله لهم وهيأ لهم من نعيم مقيم، وفي الحديث الصحيح يقول تعالى: (
أعددت لعبادي الصالحين ). وأعددت: أي: هيأت وأحضرت لعبادي الصالحين (
ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ). وقد ذكر
القرطبي والمفسرون العجب في ذاك النعيم الذي أخبر تعالى عنه، اللهم اجعلنا من أهله. (
أعددت لعبادي الصالحين ). والصالحون: هم ضد المفسدون، وهم الذين أصلحوا أنفسهم، فزكوها وطيبوها وطهروها بعبادة الله تعالى وطاعته بعد الإيمان به والتوكل عليه.
وقوله: ( ما لا عين رأت )، أي: ما لم تره عين إنسان قط، ولا سمعه بأذنه قط، ولا خطر على قلب إنسان قط، وذلك النعيم في الفردوس الأعلى. اللهم اجعلنا من أهله.
ثم قال تعالى:
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
[السجدة:17]. لقد أعد لهم هذا النعيم جزاءاً على عملهم، فقد كانوا صائمين قائمين، متهجدين مجاهدين، مرابطين ذاكرين شاكرين طول حياتهم.
والصالحات يا عباد الله! هي هذه العبادات التي نزل بها القرآن، وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم من إقام الصلاة والحج إلى بيت الله، والرباط والجهاد في سبيل الله، وقول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. فهذه العبادات هي العمل الصالح، وعاملوها هم الصالحون.