الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
قال تعالى:
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
[المؤمنون:1-11].
معنى الآيات
من صفات المؤمنين الخشوع في الصلاة
قال: [ وهذه الصفات هي: أولاً: الخشوع في الصلاة، بمعنى: يسكن فيها المصلي فلا يلتفت فيها برأسه ولا بطرفه ]، أي: بعينه، [ ولا بقلبه ]، وذلك ما دام أنه مع الله يتكلم معه ويناجيه، ويطلبه حاجته ويعظمه، فكيف يترك الله ويذهب إلى دكان أو بستان أو طعام أو شراب؟! مع أن هذه ورطة قل من ينجو منها، ولكن نسأل الله ألا تكون غالبة علينا! أما لحظة وترجع فلا بأس، أما أن تبقى بين يدي الله تتكلم معه وأنت في بيتك أو في بستانك أو في مكان آخر، فهذا أمر قبيح جداً،
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ 
[المؤمنون:1-2]، فهذه أول صفة.
قال: [ الخشوع في الصلاة، بأن يسكن فيها المصلي فلا يلتفت فيها برأسه ولا بطرفه ولا بقلبه، مع رقة قلب ودموع عين، وهذه أكمل حالات الخشوع في الصلاة، ودون هذه أن يطمئن ولا يلتفت برأسه ولا بطرفه ولا بقلبه في أكثرها ]، وقد مر بنا يوم أمس أن النبي صلى الله عليه وسلم شاهد رجلاً يعبث بلحيته، فقال: ( لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه )، إذ لا تأتي الجوارح فتمس اللحية وتفتلها.
قال: [ أولاً: الخشوع في الصلاة، بأن يسكن فيها المصلي فلا يلتفت فيها برأسه ولا بطرفه ]، أي: بعينه، لكن قد لا يلتفت برأسه، وإنما يلتفت بعينيه يميناً وشمالاً، ولذا فالمفروض ألا ننظر إلا إلى موضع سجودنا، وإذا ما اضطررنا لحركة فلا نرفع رءوسنا أبداً إلى السماء، ولا نحركها يميناً ولا شمالاً ولا إلى الأمام، ولكن ننظر إلى موضع سجودنا وأيدينا فقط، قال: [ فلا يلتفت فيها برأسه ولا بطرفه ولا بقلبه، مع رقة قلب ودموع عين، وهذه أكمل حالات الخشوع في الصلاة، ودونها أن يطمئن ولا يلتفت برأسه ولا بعينه ولا بقلبه في أكثرها، هذه الصفة تضمنها قوله تعالى:
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ
[المؤمنون:2] ].
من صفات المؤمنين أنهم عن اللغو معرضون
قال: [ الصفة الثانية: إعراضهم عن اللغو ]، فما هو اللغو؟ [ هو كل قول وعمل وفكر لم يكن لله تعالى إذن به ولا رضا فيه ]، أي: ما أذن الله فيه، ولا فيه رضا، قال: [ ومعنى إعراضهم عنه: انصرافهم وعدم التفاتهم إليه، وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى:
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ 
[المؤمنون:3] ]، واللغو هو ما لا يحقق لك درهماً لمعاشك ولا حسنة لمعادك، وما كان يحقق لك درهماً فقد أذن الله فيه، ولذلك أمرك الله بالعمل لتكسب الدينار والدرهم، وما كان يحقق لك حسنة كذكر الله والعبادة والطاعة وفعل الخيرات، فليس ذلك من اللغو،
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ 
[المؤمنون:3].
أداء الزكاة من صفات المؤمنين
قال: [ ثالثاً: فعلهم الزكاة، أي: أداؤهم لفريضة الزكاة الواجبة من أموالهم الناطقة كالمواشي ]، وذلك كالإبل والبقر والغنم، [ والصامتة كالنقدين والحبوب والثمار ]، إذ الزكاة تجب في الناطق والصامت، قال: [ وفعلهم لكل ما يزكي النفس من الصالحات ]؛ لأن مزكيات النفس كثيرة، فكل عمل صالح أذن الله فيه وأمر به فهو من مزكيات النفس، وليست المزكيات فقط أداء الزكاة،
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ 
[المؤمنون:4]، بل تدخل فيها الزكاة أولاً، ثم كل عمل صالح من شأنه تطهير النفس وتزكيتها.
قال: [ ثالثاً: فعلهم الزكاة، أي: أداؤهم لفريضة الزكاة الواجبة من أموالهم، الناطقة كالمواشي والصامتة كالنقدين والحبوب والثمار، وفعلهم لكل ما يزكي النفس من الصالحات ]، أي: من الأعمال الصالحات، [ وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى:
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ
[المؤمنون:4] ]، أي: للفريضة التي هي في الأموال، ولتزكية النفس بالأعمال الصالحة من الذكر والعبادة.
حفظ الفروج من صفات المؤمنين
قال: [ رابعاً: حفظ فروجهم من كشفها ]، وهذا أولاً، وقد بينا هذا يوم أمس فقلنا: لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يكشف فرجه ليُنظر إليه، واستثنينا الزوج مع زوجته، ولكن من الآداب الفاضلة الكاملة ألا ينظر الرجل إلى فرج امرأته وألا تنظر إلى فرج زوجها؛ لقول
عائشة: ما رأيت من رسول الله ولا رأى مني! لكن لو حصلت رؤية مع زوجته فليست محرمة، لكن مع غير الزوجين لا يحل ذلك أبداً، إلا إذا كان هناك ضرورة، وذلك كالطبيب الذي يعالج المريض، إذ قد يضطر إلى كشف عورة المريض.
قال: [ رابعاً: حفظ فروجهم من كشفها، ومن وطء غير الزوج أو الجارية المملوكة بوجه شرعي ]، أي: يحفظونها من وطء غير الزوجة والجارية المملوكة، وقد بينا من قبل فقلنا: ليس هناك اليوم جواري مملوكات؛ لأن هذا مرتبط بالجهاد، والجهاد قد انقطع من قرون، فما بقي جواري ولا مملوكات، لكن إن جدد الله العهد وجاهدنا وأسرنا الكفار فنساؤهم جواري مملوكات.
قال: [ وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى:
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ
[المؤمنون:5-6] ]، فمن يلومهم؟ وهل يلام المرء إذا جامع زوجته؟ الجواب: لا، أو جاريته؟ الجواب: لا، وقد ذكرنا يوم أمس أن نكاح المتعة لا يدخل في هذا الإذن أبداً؛ لأن المتمتع لا يرث زوجته ولا ترثه، وإنما يطلقها بعد شهر أو أسبوع، فليسا بزوجين، وأبلغ من ذلك أن الرسول حرمها تحريماً كاملاً، فأولاً: حرمها في غزوة خيبر، ثم أذن فيها في الفتح، ثم أعلن عن حرمتها أبداً إلى يوم القيامة.
وذكرنا أيضاً الاستمناء، وهو محرم أيضاً؛ لأنه ليس مما قال الله تعالى:
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ
[المؤمنون:6]، وكذلك السحاق بين المرأة والمرأة، فقد تمكن المرأة أختها من نفسها لتتلذذ بذلك، وهو محرم أيضاً كالاستمناء باليد.
قال: [
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ
[المؤمنون:5-6] ] ملومين في ماذا؟ غير ملومين، [ في إتيان أزواجهم وما ملكت أيمانهم، ولكن اللوم والعقوبة على من طلب هذا المطلب من غير زوجته وجاريته ]، أي: من طلب هذا المطلب من غير زوجته وجاريته فهو والعياذ بالله أهلٌ للعقوبة.
قال: [
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ
[المؤمنون:7]، أي: الظالمون المعتدون ]، كيف؟ [ حيث تجاوزوا ما أحل الله لهم إلى ما حرم عليهم ]، وهذا هو الاعتداء، وذلك بأن تأخذ مال فلان أو تضرب فلاناً فقد اعتديت عليه، ومنه والعياذ بالله وطء الرجل غير زوجته، وهو بذلك زان وحده الرجم بالحجارة حتى الموت إن كان محصناً، أو جلد مائة وتغريب عام إن كان غير محصن.
مراعاة الأمانات وحفظها من صفات المؤمنين
قال: [ خامساً: مراعاة الأمانات والعهود، بمعنى: محافظتهم على ما ائتمنوا عليه من قول أو عمل ]، فإذا ائتمنك أخوك على قول فلا تسمعه غيرك، وإنما هو أمانة عندك يجب أن ترعى هذه الأمانة، ولا تتلفظ بهذا القول أبداً، أو وضع أمانة بين يديك في جيبك أو في بيتك، وطلب منك حفظها حتى يأتيها، فيجب عليك أن تحفظها،
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ 
[المؤمنون:8]، وأما العهود فهي المواثيق، وهي أيضاً كالعقود، كعقد الشراء والنكاح وغيرها، فكل العقود يجب الوفاء بها ولا يجب الإخلال بها، والأمانات كذلك، [ بمعنى: محافظتهم على ما ائتمنوا عليه من قول أو عمل، ومن ذلك سائر التكاليف الشرعية، حتى الغسل من الجنابة ]، فسائر التكاليف الشرعية كلها أمانة ائتمننا الله عليها، بل حتى الغسل هو أمانة في عنقك، إذ إنك تستطع ألا تغتسل وتدعي أنك قد اغتسلت، فمن يعلم أنك ما اغتسلت؟ الله، فلهذا المؤمن يغتسل من الجنابة، ولا يبالي أعرف الناس أو لم يعرفوا؛ لأنه يراقب الله تعالى في هذه الأمانة، وعليه فكل هذه العبادات والطاعات أمانة في أعناقنا يجب أن نحفظها حتى الموت، ولا نضيعها ولا نفرط فيها، وذلك في حدود الطاقة البشرية.
قال: [ خامساً: مراعاة الأمانات والعهود، بمعنى: المحافظة على ما ائتمنوا عليه من قول أو عمل، ومن ذلك سائر التكاليف الشرعية ]، كالصيام والزكاة والحج والعبادات الأخرى، [ حتى الغسل من الجنابة ]، فإنه والله أمانة عندكم، [ وعلى عهودهم وسائر عقودهم الخاصة والعامة، فلا خيانة ولا نكث ولا خلف، وقد تضمن هذا قوله تعالى:
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ
[المؤمنون:8] ] والراعون جمع: راعي، وسمي الراعي راعياً لأنه يرعى الغنم حتى لا يأكلها الذئب أو يختطفها الذئب، فهم راعون يرعون هذه ويحافظون عليها أشد حفاظ.
المحافظة على الصلوات في أوقاتها من صفات المؤمنين
قال: [ سادساً: المحافظة على الصلوات الخمس بأدائها في أوقاتها المحددة لها، فلا يقدمونها ]، عن وقتها، [ ولا يؤخرونها ]، عن وقتها، [ مع المحافظة على شروطها من طهارة الخبث وطهارة الحدث ]، وهناك فرق بين طهارة الخبث وطهارة الحدث، فطهارة الخبث يكون من النجاسة، وذلك في الثوب والبدن ومكان الصلاة، فيجب أن يكون ثوبك طاهراً، وجسمك طاهراً، ومكانك الذي تصلي فيه طاهر، وأما طهارة الحدث بأن لا تكون منتقض الوضوء، كأن تكون جنباً أو أحدثت.
قال: [المحافظة على الصلوات الخمس بأدائها في أوقاتها المحددة لها، فلا يقدمونها ]، على وقتها، [ ولا يؤخرونها ]، عن وقتها، [ مع المحافظة على شروطها من طهارة الخبث، وطهارة الحدث ]، فطهارة الخبث شرط في صحة الصلاة، وطهارة الحدث كذلك شرط في صحة الصلاة.
قال: [ وإتمام ركوعها وسجودها، واستكمال أكثر سننها وآدابها ]، إذ كيف يقال: إن فلاناً محافظاً على صلاته؟ لا بد وأن يؤديها بشروطها وأركانها وسننها، وذلك في أوقاتها المحددة كما بين الله والرسول، وإلا فلا يقال فيه: محافظ على الصلاة؛ لأن الله قال:
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ
[المعارج:34].
قال: [ فهذه ست صفات إجمالاً، وسبع صفات تفصيلاً، فمن اتصف بها كمل إيمانه وصدق عليه اسم المؤمن ]، فتأملوا! هذه الصفات الست أو السبع مجملة ومفصلة، فمن اتصف بها كمل إيمانه، وأصبح المؤمن الحق الذي يفلح، وصدق عليه اسم المؤمن بحق، قال: [ وكان من المفلحين الوارثين للفردوس الأعلى، جعلنا الله تعالى منهم ]، قولوا: آمين.
هداية الآيات