إسلام ويب

تفسير سورة المؤمنون (3)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من مظاهر قدرة الله عز وجل وبديع صنعه خلقه لآدم عليه السلام من طين، ثم خلقه ذريته من ماء مهين، حيث قدر لهذه الذرية أن كل واحد منها ينشأ في رحم الأم محفوفاً برعاية الله وحفظه، حتى يكون خلقاً متكاملاً، يخرج إلى الدنيا ويعيش فيها ما شاء الله له أن يعيش، ثم يموت، ثم يوم القيامة يبعث، وبين يدي ربه يوقف، أفلا يستحق هذا الخالق العظيم أن يوحد ويقدس.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:12-16].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:12]، هذه الآيات معطوفة على الآيات السابقة، وهي قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1]، ففي الآيات السابقة بين تعالى ما أعده وهيأه لعباده المؤمنين قبل أن يخلق أباهم آدم، وهي الفردوس الأعلى، ولا ننسى أننا نسأل الله تعالى أن نكون من أولئك المبشرين بالفردوس الأعلى، وفي نفس الوقت نحافظ على إيماننا ونعمل على تزكيته وتقويته، فنحافظ على الصلوات وخاصة الخشوع فيها، ونحافظ على أداء الأمانات، ونطهر أنفسنا من كل الأدناس والأرجاس وخاصة ما يلوثها كالزنا واللواط والربا وما إلى ذلك؛ رجاء أن نمنح هذه العطية الإلهية وهي الفردوس الأعلى.

    وهنا يقول تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ [الحجر:26]، يعني: آدم أبا البشرية جمعاء، فخلق الجنة قبل خلق آدم، وخلق النار قبل خلق آدم، وأوجب بعد ذلك من يسكنهما ويدخلهما فيخلد فيهما، وقد علمتم -وزادكم الله علماً- أن أهل الجنة دار النعيم هم أصحاب الأرواح الزكية، والنفوس الطاهرة الطيبة، وأن جهنم دار الشقاء أهلها وسكانها هم أهل الأرواح الخبيثة والنفوس الشريرة، وذلك كما علمتم هو قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، أليس هذا حكم الله تعالى؟ بلى، والله لهو حكم الله تعالى، فقد أفلح من زكى نفسه، أي: عمل على تزكيتها فزكت.

    كما قد علمتم مواد التزكية للنفس، ومنها: جلستنا هذه نتلو كتاب الله ونتدارسه، بل كل عمل صالح، وكل قول صالح، وكل اعتقاد مشروع، فهو من أدوات التزكية للنفس البشرية، وفي نفس الوقت نحافظ على زكاة أرواحنا، فلا نلوثها بمعصية الله ورسوله، لا بالكلمة ولا بالنظرة ولا بالحركة، وإنما نتجنب كل ما حرمه الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك حتى يبقى ذلك الطهر في النفس إلى ساعة أن تتغرغر وتخرج الروح، وعند ذلك يأخذها ملك الموت وهي أزكى ما تكون، وأطيب وأطهر ما تكون، ويُستأذن لها في السموات سماء بعد سماء فيفتح لها حتى ينتهى بها إلى سدرة المنتهى إلى جنة المأوى، وهذه هي الروح الطاهرة النقية.

    وأما الخبيثة المنتنة بأوضار الشرك والكفر وكبائر الذنوب والآثام فيستفتح لها ولا يفتح لها، فترد إلى أسفل سافلين، واقرءوا: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التين:5-6]، واقرءوا أيضاً هذه الآية من سورة الأعراف: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، وهل البعير يدخل في عين الإبرة؟! مستحيل! فكذلك أصحاب الأرواح الخبيثة مستحيل أن تدخل دار السلام.

    وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ [المؤمنون:12]، يعني: آدم الإنسان الأول، إذ خلقه الله بيديه، وبالأمس عرفتم أن هناك ثلاثة أشياء خلقها الله بيديه، فالأولى: آدم عليه السلام، إذ خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه، والثانية: ألواح موسى عليه السلام، إذ قال تعالى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [الأعراف:145]، والثالثة: الفردوس الجنة العليا، والتي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى )، وقد علمنا أن أنهار الجنة الأربعة تتفجر من تلك الجنة وتنزل على باقي الجنان.

    وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ [المؤمنون:12]، يقال: سلّ الشيء إذا استله سلالة، واستلّ الشعرة من العجين، وسلّ من عيني كذا، أي: انتزعها، فالطينة التي خلق الله منها آدم كانت طينة، فاستل الأصل منها، إذ هي من صلصال من حمأ مسنون كالفخار، فاستل منها الطيب الطاهر الصالح، وصنع منها بيديه آدم عليه السلام، واقرءوا قول الله تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1]؟ إي نعم، فقد أتى على آدم أربعون سنة وهو صورة وهيكل فقط، لكنه إنسان بكامل أجزائه لم ينفخ الله فيه الروح، هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ [الإنسان:1]؟ قد أتى على الإنسان، حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ [الإنسان:1]، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إنه أربعون سنة )، لم يمكن شيئاً مذكوراً.

    ثم قال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [الإنسان:2]، أي: إنا خلقنا الإنسان -غير آدم- من نطفة، وأمشاج بمعنى: أخلاط، أي: أن ماء الرجل يختلط مع ماء المرأة، ومن ثم يتكون الجنين، نَبْتَلِيهِ [الإنسان:2]، أي: نختبره ونمتحنه، نختبره: أيطيعنا؟ أيشكرنا؟ أيعبدنا؟ أم يتكبر علينا؟ أم يكفر بنا؟ ولهذا فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان:2]، أي: جعله الله تعالى يسمع ويبصر، فلو أن الإنسان فقد السمع والبصر فهو غير مكلف، ومن فقد السمع وبقي البصر فهو مكلف، أو فقد البصر وبقي السمع فهو مكلف أيضاً، ووقت التكليف كما تعرفون هو البلوغ، فإذا بلغ الفتى أو الفتاة فقد كلفوا بالتكاليف الشرعية التي يجب أن يقوموا بها؛ ليكملوا ويسعدوا، أما فاقد السمع والبصر، أو الذي لم يبلغ سن التكليف فلا تكليف عليه، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3]، وهداية السبيل هو إنزال الله للكتب، وإرسال الله للرسل، وإيجاد علماء يبينون للناس الطريق إلى السبيل، فمن اهتدى نجا، ومن ضل فقد خسر وخاب وهلك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088844175

    عدد مرات الحفظ

    779415792