أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل:27-31].
أعيد إلى أذهان المستمعين والمستمعات: أن في الآيات السابقة افتقد نبي الله ورسوله سليمان بن داود عليهما السلام الهدهد من بين الطير، وهو في تجمع عظيم لرجاله وجنوده من الإنس والجن والطير، فافتقد الطير لحاجة، أو لأنه أراد أن يعرفه الماء في الأرض، ولا حرج، فقد أعطي الهدهد بصيرة، فكان إذا مر بأرض فيها ماء يضرب بجناحيه، فلعل معسكر سليمان احتاج إلى الماء فطلب الهدهد لمهمته، فلم يجده، كما قال تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:20-21]. فإن جاء بحجة واضحة بينة عذرته وقبلت عذره، وأما أن يغيب بدون إذني ولا يأتي بشيء فلا بد من تعذيبه أو ذبحه والنهاية منه.
فمكث الهدهد فترة من الزمن وصل فيها إلى قرب صنعاء إلى مدينة سبأ وعاد، كما قال تعالى: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:22]. فقال لسليمان: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ [النمل:22] يا سليمان! وسليمان حكم العالم في تلك الأيام، ولكن في بداية الأمر لم يكن قد استكمل حكم العالم كله، بل كان ما يزال يغزو الأقاليم والبلاد حتى تنتظم كلها في سلك مملكة سليمان وتم له ذلك.
فاعتذر الهدهد قائلاً: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:22]. فاعتذر الهدهد على غيبته.
ومن هنا على المسئولين والحاكمين أن يقبلوا عذر المعتذرين إذا عرفوا أنهم صادقون فيما اعتذروا فيه.
إذاً: على المسئولين الحاكمين أن يقبلوا من المواطنين ومن محكوميهم بعد البحث والتحقيق، فإن وجدوهم صادقين غير كاذبين عذروهم، وهذا العذر ممدوح ومرغب فيه، وحسبنا أنه لا يوجد أحد أحب إليه العذر من الله، ولا يوجد أحد العذر إليه أحب إليه من الله، بدليل أنه أنزل الكتب وأرسل الرسل؛ ليعذر الناس إذا لم يعبدوه أو عبدوه، ففي الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس أحد أحب إليه العذر من الله تعالى، ولهذا أنزل الكتب وأرسل الرسل )، أي: لأجل أن يرفع العذر عن الناس؛ لأنهم إذا ما بلغتهم رسالة ولا جاءهم نبي ولا عرفوا الله ما يعذبون، فحتى يرفع الله هذا العذر يبعث الرسل وينزل الكتب إليهم.
وهنا قال سليمان: قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل:27].وأنتم تعرفون أن الصدق شعار المؤمنين، والكذب شعار المنافقين.
وأما سليمان ورسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم يواجهان فقد بدأا باسميهما، فالرسول قال: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم.
وبسم الله الرحمن الرحيم لا خلاف في مشروعيتها، فإذا كتبت كتاباً فقدم فيه بسم الله الرحمن الرحيم، وبذلك يكون الكتاب كريماً. ولذلك قالت بلقيس : أُلْقِيَ إِلَي كِتَابٌ كَرِيمٌ [النمل:29]. فوصفت الكتاب بالكرم، وسبب ذلك: لأن فيه بسم الله الرحمن الرحيم. فبسم الرحمن الرحيم أو على الأقل: بسم الله لابد أن تكون في بداية الكتاب.
ومما هو من مقتضيات كرم الكتاب: الختم على الكتاب، فلكي يكون كتابك حقاً كريماً لا بد وأن تختمه، وحسبنا في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: إن ملوك الغرب ورؤساء الدنيا يختمون كتبهم، قال: ( اصنعوا لي خاتماً ). فصنعوا له خاتماً نقسه هكذا: محمد بن عبد الله رسول الله، وفي بعض الألفاظ: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. فكان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. ولذلك قالوا: لكي يكون الكتاب كريماً محترماً ينبغي أن تختمه يا كاتب الكتاب! بخاتمك، ولهذا اتخذ الناس خواتم يختمون بها كتبهم.
وهنا سليمان قال للهدهد: قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا [النمل:27-28]. وهو كما علمتم: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ. وسبأ قريبة من صنعاء بأميال في ذلك الوقت.
وقوله: ثُم تَوَل عَنْهُمْ [النمل:28]، يعني: ألق بالكتاب، وارجع وانتظر ماذا يقولون. وبالفعل الهدهد ألقى الكتاب وخرج، وانتظر ماذا يحدث؛ حتى يبلغ سليمان أحداث هذه الحادثة؛ لأنه قال له: فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ [النمل:28].
وهنا قرئ: (فألقِهِ~ إليهم) بالمد، وقرئ: (فألقوه)، أي: أنتم إلى الجماعة، أي: إلى عشيرتها ورجالها. والقراءتان المشهورتان هما الحفصية والنافعية، وهما: فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ [النمل:28]، (فألقِهِ أليهم). فإن شئت قرأت: فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ [النمل:28]، أي: الكتاب، أو قرأت: (فألقِهِ ~ إليهم)، أي: الكتاب، ثم تنظر ماذا يرجعون.
وكان كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم: من محمد بن عبد الله إلى هرقل ملك الروم أو عظيم الروم، ولم يكن في كتابه سب ولا شتم، وكان الكتاب مختصراً، والكتب المختصرة أفضل من المطولة.
وكان كتاب سليمان: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ. فقط.
فقالت الملكة؟ يَا أَيهَا المَلَأُ [النمل:29]، وتعني بالملأ: رجال حكومتها، وأشراف البلاد وأعيانهم وساداتهم. وأما عوام الناس مثلنا فليس لهم قيمة. فالملأ هم الذين يملئون العين إذا نظرت إليهم؛ لكمالهم وقدرتهم ورئاستهم. هؤلاء هم الملأ. فقالت لهم: يَا أَيهَا المَلَأُ إِني أُلْقِيَ إِلَي كِتَابٌ كَرِيمٌ [النمل:29].
وقدمنا أن كتبنا لا بد وأن نفتتحها ببسم الله الرحمن الرحيم، أسوة بنبي الله سليمان، وأسوة وقدوة بنبينا عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
هذه كلمة سليمان في كتابه، وهي: أولاً: أنصح ألا تعلوا علي، ولا تتكبروا ولا تترفعوا، ولا تقولوا: من هذا الذي يكاتبنا ويطالبنا؟ أو: لا تغلوا الغلو الذي لا ينفعكم، بل تواضعوا، وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل:31]. ولا تأتي الأمة كلها، بل الملكة ورجالها الذين هم رجال البلاد والدولة، فهم الذين يأتون، أو من تنيبهم عنها من رجال البلاد؛ حتى يقدم مفاتيح البلاد إلى الملك سليمان؛ لتدخل البلاد تحت إمرته ودولته.
قال: [ معنى الآيات:
قَالَ سَنَنظُرُ [النمل:27]، أي: قال سليمان ] عليه السلام، وهو سليمان بن داود عليه السلام، فكلاهما رسول ونبي. وقد ورث داود ولده سليمان في النبوة والرسالة، والملك والدولة، لا في المال.
فقال سليمان [ للهدهد بعد أن أدلى الهدهد بحجته على غيبته ] قال: [ سننظر باختبارنا لك ] بمعنى: سنختبر ما قلت، أأنت صادق أو كاذب، أي: [ أَصَدَقْتَ [النمل:27] فيما ادعيت وقلت، أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل:27]، أي: من جملتهم. وبدأ اختباره ] أي: بدأ سليمان اختبار الهدهد [ فكتب كتاباً وختمه ] فهذا من الاختبار؛ حتى لا يكون الهدهد وسوس له الشيطان وأعماه، وقال: وجدنا كذا وهو كاذب؛ حتى يحمل سليمان على أن يمشي برجاله، وليس هناك شيء.
ونذكر هنا هذه اللطيفة وكنا نسيناها، فنقول: شك سليمان في الهدهد؛ أنه خاف أن يكون الشيطان سول للهدهد وزين له أن يقول: رأينا كذا وكذا؛ حتى يتعب سليمان ويشقى برجاله وجيشه، وأنه لا وجود لهذه المرأة ولا لهذه الدولة، فمن هنا قال: سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل:27]. ولذلك كتب كتاباً وختمه بخاتمه [ اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُم تَوَل عَنْهُمْ [النمل:28]، أي: تنح جانباً مختفياً عنهم ] حتى يشاهد ماذا يفعلون ويقولون. ونعم الرسول هذا الهدهد! ويا ليت من البشر مثله! [ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ [النمل:28] من القول في شأن الكتاب ] واسمع ما يقولون [ أي: ما يقول بعضهم لبعض في شأنه. وفعلاً ذهب الهدهد بالكتاب، ودخل القصر ] قصر الملكة [ من كوة فيه ] أي: نافذة صغيرة، وقد قلت لكم: كانت الشمس تدخل منها؛ لأنها شرقية، وهي تعبد الشمس [ وألقى الكتاب في حجر الملكة بلقيس ، فارتاعت له وقرأته. ثم قالت: يَا أَيهَا المَلَأُ [النمل:29]! ] فبعد الارتياع والفزع قرأت الكتاب فأهالها؛ لأنه يطالبها أن تتخلى عن الملك، وتأتي هي ورجالها وبلادها، فارتاعت وفزعت وكربت؛ فلهذا صاحت: يَا أَيهَا المَلَأُ [النمل:29]! [ مخاطبة أشراف قومها إِني أُلْقِيَ إِلَي كِتَابٌ كَرِيمٌ [النمل:29]. وصفته بالكرم لما حواه من عبارات كريمة؛ ولأنه مختوم، وختم الكتاب كرمه، ونص الكتاب كالتالي ] فاسمعوه [ من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ، بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فلا تعلوا علي، وأتوني مسلمين ] هذا كتاب سليمان نقرؤه كأنه بين أيدينا. وقد أخر بسم الله الرحمن الرحيم خشية أن تهينها، فقدم اسمها أولاً، ثم ليفزعها أيضاً ورجالها.
وقوله: السلام على من اتبع الهدى هو دين الله الحق الإسلام. وقوله: أما بعد، أي: بعد هذا الذي قلته أو سمعتم. وقوله: فلا تعلوا علي، وأتوني مسلمين، أي: منقادين خاضعين ذليلين.
قال: [ ومضمونه ] أي: ومضمون هذا الكتاب الذي سمعنا [ ما ذكرته الملكة بقولها: إِنهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنهُ بِسْمِ اللهِ الرحْمَنِ الرحِيمِ * أَلا تَعْلُوا عَلَي وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل:30-31]. ومعنى: إِنهُ مِنْ سُلَيْمَانَ [النمل:30]، أي: صادر منه، وأنه مكتوب ومرسل بسم الله الرحمن الرحيم، أي: بإذنه وشرعه. أَلا تَعْلُوا عَلَي [النمل:31]، أي: لا تتكبروا على الحق، فإني بسم الله أطلبكم، وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل:31]، أي: خاضعين منقادين ] متذللين. هذا هو الكتاب، وهذه بلقيس عليها السلام. فهي أفضل منا ألف مرة، وقد أسلمت كما سيأتي. وإن شاء الله تكونوا قد فهمتم، وأن تبقى في أذهانكم وفي قلوبكم.
[ من هداية الآيات:
أولاً: مشروعية الاختبار وإجراء التحقيق مع المتهم ] وقد أخذنا هذا من قوله تعالى في الآية: سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل:27]. وبالأمس قال: لَأَذْبَحَنهُ [النمل:21]. وقد قدمنا أن الاعتذار ضروري، والله اعتذر إلى الخلق.
[ ثانياً: مشروعية استخدام السلطان أفراد رعيته لكفاية المستخدم ].
[ ثالثاً: مشروعية إرسال العيون للتعرف على أحوال العدو وما يدور عنده ] وهو ما يعرف بالجواسيس والعيون، فهذا مشروع في الكتاب والسنة، والرسول كان يبعث رجاله ليتعرفوا إلى المدينة وما فيها. ففي هذا مشروعية إرسال العيون. والمراد بالعيون الجواسيس. وهذا للتعرف على أحوال العدو وما يدور عنده؛ حتى يعرفوا كيف يقاتلونه أو يحتلون بلاده.
[ رابعاً ] وأخيراً: [ مشروعية كتابة بسم الله الرحمن الرحيم في الرسائل والكتب الهامة ذات البال؛ لدلالتها على توحيد الله تعالى، وأنه رحمن رحيم، وأن الكاتب يكتب بإذن الله تعالى له بذلك ] فالكاتب لما يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فمعناه: أني كتبت بإذن الله عز وجل، أي: بسم الله كتبت، أي: بإذنه.
والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر