فضل النبي صلى الله عليه وسلم على المؤمنين عظيم، فبه أخرجهم الله من الظلمات إلى النور، فكان أولى بهم من أنفسهم، ومن قدره صلى الله عليه وسلم عندهم كان قدر أزواجه رضوان الله عليهم، فهن أمهات المؤمنين، لهن عند المؤمنين الكرامة والصيانة، فلا يتطلع إليهن بعد رسول الله أحد من الرجال، ولا يسألن إلا من وراء حجاب.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هيا نقضي هذه الساعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه؛ ليزداد إيماننا بالله ورسوله، ويزداد حبنا في الله ورسوله.
قال تعالى هذا النداء المبارك الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الأحزاب:53]، أي: يا من آمنتم بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً، ويا من آمنتم بالله ولقائه! فأنتم أحياء تسمعون النداء، وإذا أمرتم فعلتم، وإذا نهيتم فعلتم؛ وذلك لكمال إيمانكم، فالمؤمن كامل الإيمان حي، يسمع ويبصر، ويعطي ويمنع.
فقال تعالى: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ [الأحزاب:53]، أي: تأكلونه، ووليمة من الولائم، سواء بعد الظهر أو بعد العصر أو بعد المغرب. وهذا حال كونكم غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ [الأحزاب:53]. والإناه هنا الوقت. ومعنى هذا: إذا دعيت إلى الغداء ما تأتي من الضحى فتجلس في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، بل تأتي بعد صلاة الظهر وتدخل. وكان بعض البهاليل يقولون: ما دامت الدعوة موجودة فهيا نمشي نتنفس، فيجلسون قبل الوليمة الساعة والساعتين، وفي هذا مضايقة على أهل البيت، والرسول ما أطاق هذا، ولكنه ما استطاع أن يصرفهم، ولكن الله كفاه وبين لأوليائه ماذا يفعلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ألا يدخلوا حتى يوجد الطعام، وأما وهو يطبخ أو ما زال ما وصل البيت فلا يذهبون إلى البيت ويضايقون أهل البيت، فهذا لا يجوز، وفعله بعضهم، فنهاهم الله عن ذلك، ومنعهم منعاً باتاً، وهذا عام في بيوت المؤمنين أجمعين.
وكذلك قال لهم: غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا [الأحزاب:53]. فلا تأتون بدون إذن، وإذا دعيتم فتفضلوا ادخلوا، كما قال تعالى: إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا [الأحزاب:53]، أي: اخرجوا، هذا إلى بيته وهذا إلى بيته، وهذا إلى دكانه وهذا إلى عمله؛ لأن جماعة من البهاليل أيضاً كانوا يجلسون بعد الأكل، وزينب في جانب الغرفة ساكتة، وهم يتكلمون ويستأنسون بأحاديثهم، وهذا ما ينبغي. فإذا طعمت وفرغت فاخرج. والرسول دخل عليهم وما استطاع أن يقول: اخرجوا، ودخل والله مرتين أو ثلاثاً، حتى نزلت الآية، فاستحى أن يقول: قوموا، فقد أكلتم فاخرجوا. ونحن الآن نقولها، فنقول: لقد تغديتم فمع السلامة اخرجوا. ولكن الحبيب صلى الله عليه وسلم أخلاقه فوق مستوى أخلاق البشر، فدخل عليهم وما قال: اخرجوا، ولكنه لم يكن راضياً ببقائهم، فدخل مرتين أو ثلاثة.
إذاً: معشر المستمعين والمستمعات! من دعاه أخاه إلى غداء أو عشاء أو وليمة إذا فرغ يخرج، ولا يبقى ساكتاً أو يستأنس بالأحاديث، ويؤذي أهل البيت. وهذا سهل والحمد لله.
النهي عن سؤال النساء من دون حجاب
قال تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]. فإذا كنت في الغرفة أو في الحجرة واحتجت إلى إناء .. إلى ماء .. إلى ملعقة .. إلى كذا فاسأل من وراء الحجاب، ولا تزيل الحجاب وتقول: يا فلانة! أعطني. وهذا في زوجات الرسول أمهات المؤمنين، وهو من باب أولى في غيرهن. فمن كان في بيت أخيه وقد دعاه إلى وليمة واحتاج إلى شيء ما يكشف الحجاب عن النساء، بل يسألهن من وراء الحجاب، ويقول: أعطوني ملعقة .. أحضروا لنا الماء مثلاً؛ لقوله تعالى: فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]. والحجاب: الستار الذي يستر، سواء كان باباً أو رواقاً أو ما إلى ذلك.
ثم يقول تعالى: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]. وافهموا هذا أيها الشبان! بل أيها الفحول! وثقوا أن من تكلم مع امرأة أجنبية غير محرم لابد وأن يقع في نفسه شيء، أحب أم كره، فمن تكلم مع أجنبية كلاماً مشافهة يسمع كلامها وتسمع كلامه فلابد وأن يقع في قلبه شيء من الزيغ. والزيغ هو أن يتذكر الشهوة، ويتذكر الجماع، ويتفكر النساء، ويذكر هكذا، ولابد أن يقع له هذا. والله عز وجل يقول: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ [الأحزاب:53]. فإذا سألتموهن فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]. وهذا السؤال من وراء الحجاب أطهر لقلوبكم وقلوب المؤمنات أيضاً، فالمؤمنة تتأثر بكلام الرجل والله العظيم، فلهذا لا يحل لمؤمن أن يتكلم مع مؤمنة من غير محارمه إلا من ضرورة. ولا تقولوا: يا شيخ! إنها تغني في الإذاعة، وإنها تفتي وتسأل وتجيب، ولا يحدث هذا، بل والله إنه يحدث لهذه النصوص الكريمة. فلا يحل لمؤمن أن يستمع إلى صوت أجنبية إلا من ضرورةو وحاجة تدعو إلى ذلك، وأما يسمع ويريد أن يتلذذ فوالله ما يجوز هذا. وهذا النص واضح، وهو قوله: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]، أي: المؤمنات اللائي تتكلمون معهن. فإن كان هناك ضرورة فلا بأس، كما تقدم، كأن تقرع الباب فتقول: من؟ وما تزيد كلمة على هذه، فإذا قلت: أين أبو إبراهيم؟ فتقول: لا أدري أو في المسجد، ولا تزيد كلمة ثانية. ولا تقل ما سمعناه وتبنا منه من قول: مين وإمالتها. والقولة معروفة كلمة واحدة، كأن تقول: في المنزل .. لا أدري، وهكذا. لأن كلامها لا يحل لذلك الرجل أن يتلذذ به ويسمعه، وهي كذلك.
قال تعالى: لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ [الأحزاب:55]. فرفع الحرج عن أزواج الرسول وأمهات المؤمنين، وعن المؤمنات كلهن. فلا حرج على المؤمنة في أن تنظر إلى أبيها أو جدها، وتكشف الحجاب عن وجهها أمامه، ولا أبنائها ولا أولادها ولا أولاد أولادها. فلا حرج أبداً بأن تكشف وجهها أمامهم، وكذلك وَلا إِخْوَانِهِنَّ [الأحزاب:55] من الأب أو من الأم أو أشقاء، وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ [الأحزاب:55]. فابن أختها ينظر إليها، وتكشف الحجاب أمامه ولا حرج. وَلا نِسَائِهِنَّ [الأحزاب:55]، أي: من المؤمنات. وسبحان الله! فالمؤمنة لا تكشف وجهها للكافرة، وكما لا يحل لمؤمنة أن تكشف وجهها لمؤمن من غير محارمها لا تكشف وجهها لكافرة؛ حتى لا تمشي تتحدث وتقول: رأيتها كذا وكذا.. وتخبر زوجها بذلك. وهذا معنى قوله: وَلا نِسَائِهِنَّ [الأحزاب:55]. فلا حرج عليهن أن يكشفن وجوههن لنسائهن؛ لقوله تعالى: نِسَائِهِنَّ [الأحزاب:55]، أي: المؤمنات لا الكافرات. وكذلك وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ [الأحزاب:55]. فالمؤمنة إذا كان عندها عبد أو عندها أمة تكشف عليه ويكشف عليها؛ لأنه خادمها، وهي تملكه ولا حرج.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [الأحزاب:55]، أي: حاضراً عالماً، عارفاً به، ويجزي بحسب علمه وقدرته. ألا فلنتق الله عز وجل! فنحن الفحول لا ننظر إلى نساء المؤمنات إلا محارمنا فقط، والمؤمنات عليهن ألا يكشفن وجوههن إلا لمحارمهن فقط. هذا نظام حياتنا حتى نلقى الله عز وجل، وهذا كلام الله.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات ] الآن مع هداية الآيات:
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: بيان ما ينبغي للمؤمنين أن يلتزموه من الآداب في الاستئذان، والدخول على البيوت لحاجة الطعام ونحوه ] فهذا كما علمتم فيه بيان ما يجب علينا من الآداب والأخلاق إذا دعينا إلى طعام أو إلى وليمة، وإذا فرغنا كيف نخرج، فلا ننظر إلى نساء البيت، وما نكشف وجوههن وهكذا. فهذه آداب عظيمة في هذه الآية لنا.
[ ثانياً: بيان كمال الرسول صلى الله عليه وسلم في خلقه في أنه ليستحي أن يقول لضيفه: أخرج من البيت، فقد انتهى الطعام ] والله أكبر! فليس هناك كمال أعظم من هذا الكمال الخلقي، ووالله لا أحد أكمل الخلق من خلق الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكفيك من كمال خلقه أنه ما يستطيع يقول للضيف: أخرج، فإذا دعاه ليأكل ما يقول له: أخرج، بل يستحي، والله لا يستحي، وقال ما قال فيهم.
[ ثالثاً: وصف الله تعالى نفسه بأنه لا يستحي من الحق أن يقوله ويأمره به عباده ] فنفى تعالى عن نفسه الحياء في أن يقول الحق، ويدعو إليه ويأمر به، وما يستحي. سبحانه لا إله إلا هو! ومعنى هذا: أن نقتدي بربنا ونأتسي به، وما نستحي أن نقول الحق.
[ سابعاً: حرمة نكاح أزواج الرسول بعد موته ] صلى الله عليه وسلم [ وحرمة الخاطر يخطر بذلك ] بالبال، كما وقع لبعض الأصحاب عندما قال: إذا مات أتزوج. فهذا الخاطر محرم، والعمل بهذه الآية.
قال الشيخ في النهر: [ روي أن رجلاً من المنافقين لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بـأم سلمة وحفصة بعد خنيس بن حذافة قال: فما بال محمد يتزوج نساءنا؟ والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. فحرم الله نكاح أزواجه من بعده، وجعل لهن حكم الأمهات، وقال صلى الله عليه وسلم: ( زوجاتي في الدنيا هن زوجاتي في الآخرة ). وهذه علة من علل التحريم أيضاً ].