إسلام ويب

تفسير سورة الصافات (13)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن قصص الأنبياء عليهم السلام التي تزخر بها آيات القرآن الكريم ما كانت لتبلغنا، ولا أمكننا العلم بتفاصيلها لولا أنها وحي من اللطيف الخبير سبحانه وتعالى، ومن قصص القرآن الذي بلغنا علمه قصة سيدنا يونس عليه السلام الذي ترك قومه حين أعرضوا عنه، فابتلاه الله بأن ألقي في البحر فالتقمه الحوت، فلبث فيه ما شاء الله له أن يلبث ثم أخرجه من جوفه، وأنعم عليه بإيمان قومه، فمتعهم سبحانه وتعالى حتى حين.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [الصافات:139-148].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا الذي سمعناه من القارئ هو كلام الله والله، رب السماوات والأرض وما بينهما، ورب كل شيء ومليكه، الذي له تسعة وتسعون اسماً، ومن بينها الله، وهو الذي أنزل هذا الكتاب على مصطفاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وتلك حجرته، وفيها جسده الطاهر، وهذا مسجده، وهؤلاء المؤمنون المتبعون له، وهو الذي أنزل عليه هذا الكتاب.

    وما كان لنا أن نعرف هذا القصص لولا أن الله تعالى أوحاه إلى رسوله ضمن كتابه القرآن العظيم؟

    وهو تعالى يقول في هذه القصص هنا: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات:139]. ويونس عبد الله ورسوله، ويلقب بذي النون، أي: صاحب الحوت؛ إذ ابتلعه حوت وبقي في بطنه العديد من الأيام. وهو يونس بن متى، ودياره في نينوى شرق العراق أو غربه.

    قصة يونس عليه السلام مع قومه

    وقوله: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات:139]، أي: ممن أرسلناهم بعد أن نبأناهم وأصبحوا أنبياء، فقد أرسلناه رسولاً إلى أهل نينوى الذين ضلوا وهلكوا، وفسقوا وفجروا وأشركوا، فبعث الله تعالى إليهم يونس بن متا؛ ليهديهم وليعلمهم، وليهذبهم وليربيهم، ومع الأسف أعرضوا عنه، وكرهوه وردوا كلامه، وما استجابوا له، فطالت عليه المدة عليه السلام، فهرب منهم، وأبق وشرد وأيس منهم، وما كان من حقه أن ييأس، فلما هرب وأبق، أي: شرد، ووصل إلى ساحر البحر هارباً، فوجد سفينة تريد أن تقلع، فركب السفينة؛ ليذهب من تلك الديار بالمرة، فلما توسطت السفينة عرض البحر رأى قبطانها أن الركاب كثيرون، وأن السفينة إذا لم يخفف من شحنها فسوف تغرق، فنادى في الراكبين: إن السفينة لا تستطيع أن تتحمل هذه الشحنة الكبيرة، ولابد وأن يسقط منها رجل، ولم تكن السفينة كسفن اليوم، ولا ربعها أو عشرها. فلم يقبل أحد أن يتفضل ويضحي بنفسه؛ لينقذ غيره، واختلفوا، فما كان منهم إلا أن لجئوا إلى القرعة والاقتراع، ومن خرجت قرعته يلقى في البحر، فاقترعوا والله، ووقعت القرعة على يونس الهارب الآبق. وصدر أمر الله عز وجل من علياء السماء من فوق العرش إلى سمكة عجيبة أن تبتلعه، وما إن ألقوه هكذا حتى فتحت فاها ودخل، ولا عجب، فقد صح عندنا أن سمكة اعترضها أصحاب رسول الله في ساحل البحر الأحمر تسمى العنبر، وهذه السمكة عظامها كالسقف. فابتلعته، فأخذ يسبح ربه قائلاً: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]. فاعترف بظلمه؛ لأنه هرب من الدعوة وما صبر. فسمعت الملائكة صوته تحت العرش، فسألوا ربهم: ما هذا؟ فحدثهم بالقصة كما هي.

    وقد كان يونس من المصلين الذاكرين الداعين، وبهذا أخبر رسول رب العالمين، فقد كان من مكثري الصلاة، ومكثري الدعاء، ومكثري الذكر، ولهذا لجأ إلى ذكر الله فقال: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]. وما من مؤمن يكثر من الصلاة ويعثر فقط عثرة إلا وينقذه الله كما أنقذ يونس بن متى، فأكثروا من ذكر الله، وأكثروا من دعاء الله، وأكثروا من صلاة النوافل..

    لولا هذا ما نجاه الله، فهو نادى قائلاً: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]. قال تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88]. وقال في آية سورة الأنبياء: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87-88]. فإذا بالحوت العنبرية السمكة تتقيأه على ساحل البحر، وليس هناك شجر ولا نخل ولا جدار ولا غير ذلك، وهو كالفرخ إذا أخذت ريشه وبقي لحمه، وقد نضج لحمه في ثلاث ظلمات، ظلمة البحر، وظلمة الحوت، وظلمة الليل، فكان من رحمة الله به أن أنبت الدباء عليه، ويسمى بالقرع، والدباء معروف، وورقه ناعم كالحرير.

    وفيها لطيفة أخرى: وهي أنها لا يقع الذباب عليها أبداً. وإن شككت في هذا فاخرج إلى الفلاحين واسألهم، وستعرف أن الذباب ما يقع على ورق الدباء؛ لأن الذباب لو كان يقع عليها لأكل لحمه وهو ناضج، ولكنه ما يستطيع أن يجتمع الذباب ولا البعوض على الدباء.

    وكانت مجموعة من الغزلان تأتيه في الصباح وتدنو منه، وتنزل هكذا حتى يرضع ويمتص من ثديها ويتغذى، وتروح وتأتي في المساء، فتدنو منه تدنو حتى تدني ضرعها منه، ويمتص ويرضع، حتى شفاه الله في هذا المستشفى الرباني. والذي أقام هذا المستشفى هو الله. فقد أنبت عليه شجرة اليقطين، وهي الدباء والقرع، وكانت الغزالة تأتي إليه فيرضع لبنها صباح مساء، ثم بعد ذلك لما تماثل للشفاء عاد إلى قومه وإلى بلده، فوجدهم مؤمنين ربانيين صالحين، ليس بينهم فاسق ولا فاجر، ولا مشرك ولا كافر أبداً، فازداد فرحه، وارتفع صوته: الله أكبر، هذا فعل الله. وقد كان السبب في هروبه: أنه لما دعاهم ما استجابوا، فدعا عليهم، ما استجاب الله بأن ينزل عليهم بلاء أو نقمة؛ لعلم الله تعالى الأزلي أنهم سيؤمنون، فلما خرج ذو النون عنهم، وإذا بمظاهر العذاب فوق رءوسهم سحاب أسود، فآمنوا كلهم نساءً ورجالاً وأطفالاً وأسلموا، فعاد يونس وإذا بهم مؤمنون ربانيون. هذه هي القصة بكاملها. وهذا تدبير الله العزيز الحكيم، اللطيف الخبير، الرحمن الرحيم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088575395

    عدد مرات الحفظ

    777417074