أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:50-61].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ها نحن مع حوار في دار السلام في الجنة، ووالله لكأننا بأعيننا ننظر إليهم، وكأننا بآذاننا نسمع كلامهم، ولولا فضل الله علينا بهذا القرآن وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم لم نصل إلى هذا المستوى، وليس لنا هذا. وسلوا اليهود والنصارى والبوذيين والمجوس والمشركين فإنهم لا يعرفون شيئاً من هذا. ونحن الآن الحديث في الجنة نسمعه بالحرف الواحد؛ ليزداد إيماننا وصلاحنا، وليقوى بعدنا عن الشر والفساد، والظلم والخبث.
قال تعالى: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الصافات:50]. وعرفنا بالأمس أنهم على الأرائك متقابلون، وأنهم على الأسرة جالسون يتحدثون، فاسمع ماذا جرى بينهم.
قال: فأقبل بعض أهل الجنة وأهل النعيم على بعض من إخوانهم المستقبلين لهم يتساءلون، كيف كنا، وكيف كانت الدنيا، وكيف كنا نؤمر وننهى، وكيف وكان فلان وفلان، ويتحدثون عن أمور الدنيا التي عاشوها والله العظيم، وهم في النعيم على الأرائك وعلى الأسرة متكئون، فيتحدثون يتجاذبون الحديث، ويتكلمون عما كانوا عليه في الدنيا؛ لأنه لا صلاة هنا ولا صيام، ولا جهاد ولا رباط، وليس إلا الأكل والشرب والنكاح فقط، فهم في نعيم أبدي. فهم يتساءلون كيف كانوا في كذا وكذا، ومن كان عدواً لهم، وعن غير ذلك.
وقوله: أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ [الصافات:52] هذا الاستفهام استفهام استسخار، فهو يستسخر ويستهزئ به.
وقد علمنا يا معشر المستمعين! أن هذه الدار دار عمل فقط، وما هي دار جزاء، بل الجزاء في الدار الثانية، ونحن الآن كالشغالين في مزرعة أو في مصنع، ما نتعاطى الأجرة ولا نأخذها حتى ينتهي العمل، وهذه الدنيا ما هي إلا موقوتة بأيام محدودة، والناس يعملون الخير والشر فيها، والجزاء سيأتي في عالم أوسع وآخر، ويدخلهم الجنة أو يدخلهم النار.
وقوله: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات:53]؟ أي: مجزيون مبعوثون. فمدينون: مجزيون بأعمالنا، محاسبون عليها.
فالجنة فوق السماء السابعة، ومع ذلك ينظر أهلها إلى من هو في أسفل الكون، ويتكلمون معه، ومن قال: هذا ما هو بصحيح، ينمسخ ويكفر، ولا يكون مؤمن أبداً. وهذه لم يقلها مؤمن من المؤمنين على عهد رسول الله إلى اليوم؛ لعلمهم أن الله لا يعجزه شيء، وأن الله ما أخبر بهذا الشيء إلا وهو واقع كذلك، والآن هذه الانكشافات التي كشفها الله كلها تقربنا من الدار الآخرة، وتجعل إيماننا ليس بذلك الإيمان القوي.
وقد قلت لكم: لقد كشف الله لنا عجائب الكون؛ ليدل على كل ما أخبر تعالى به، وأنه واقع، فالآن تتحدث مع شخص وتشاهد صورته.
ومن هنا يجب ألا نخالط أهل الباطل، وألا نجالسهم وألا نجتمع معهم؛ حتى ننجو من بلائهم، وإلا فقد يردوننا ويهلكوننا، بل الصالحون يجتمع بعضهم مع بعض، ويتعاملون مع بعضهم البعض، وأما أهل الفسق والفجور فإبعادهم وتركهم أولى وأحق بنا. وقد سمعتم أن هذا المؤمن قال: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ [الصافات:56] وتهلكني. وهو سيهلكه عندما يفعل معه الجرائم التي كان يفعلها، وكان يغريه بها ويقول: نفعل.
وقوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69] سواء كان أبيض أو أسود، أو عربياً أو عجمياً، أو في القرون الأولى أو في الأخيرة، أو فقير أو غني، أو صحيح أو مريض، بل فقط يطيع الله ويطيع الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: يمتثل أمرهما، فيفعل ما أمرا فعله، ويجتنب ما نهيا عنه وحرماه من الأقوال والأفعال والاعتقادات الباطلة. فيكون معهم. والله تعالى نسأل أن يجعلنا مع هؤلاء المذكورين.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: بيان عظمة الله تعالى في إقدار المؤمن على أن يتكلم مع من هو في وسط الجحيم، ويرى صورته، ويتخاطب معه، ويفهم بعضهم بعضاً، والعرض التلفازي اليوم قد سهل إدراك هذه الحقيقة ] فمن هداية هذه الآيات المباركة: بيان عظمة الله تعالى وقدرته على كل شيء؛ إذ جعل هذا المؤمن في الجنة يطلع على من هو في النار وبينهما كما قلت لكم بلايين الأميال، ولا نستطيع أن نحصيه أبداً، ويشاهده ويتكلم معه، ويرد عليه ويجاوبه، وكأنه بين يديه. ولا يقدر على هذه العظمة إلا الله، فهذا مظهر من مظاهر عظمة الله وقدرته، وعلمه وحكمته ورحمته. اللهم اجعلنا بك مؤمنين، ولأعمالك الصالحة عاملين.
[ ثانياً: التحذير من قرناء السوء كالشباب الملحد وغيره ] فمن هداية الآيات يا معشر المستمعين والمستمعات! التحذير والتنبيه من مجالسة أهل الباطل وأهل الفسق والفجور، وخاصة الشبيبة، فلا تتهالك وتتساقط، ويهلك بعضنا بعضاً، فلنحذر هذا كما بيناه في أول الدرس، ولا نجالس الفسقة ولا الفجرة، ولا الظلمة ولا المفسدين أبداً؛ لأننا ربانيون صلحاء أولياء الله، فلا نجالس إلا أولياء الله، ولا نعمل إلا مع أولياء الله، ولا نتخذ أي عمل إلا مع أولياء الله، ولا نزوج بناتنا ولا نعطي أموالنا إلا لأولياء الله، وإلا فسوف يترتب على مجالسة الفساق والفجار البلاء الذي سمعناه في هذه الآيات في قوله: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ [الصافات:56]. وقال: لولا نعمة ربي.
[ ثالثاً: بيان كيف كان المكذبون يسخرون من المؤمنين، ويعدونهم متخلفين عقلياً ] فمن هداية هذه الآيات: بيان كيف كان الملاحدة والعلمانيون والبلاشفة الشيوعيون والملحدون والمكذبون بالبعث والدار الآخرة يسخرون بالمؤمنين ويستهزئون بهم، فهم يقولون: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات:53]. وهذا والله ما يقوله الآن الكفرة الفجرة، فإذا أنت سألت منهم أحداً وقلت له: لم لا تؤمن بالله والدار الآخرة؟ يرد عليك بهذا الرد.
[ رابعاً: لا موت في الآخرة، وإنما حياة أبدية في النعيم أو في الجحيم ] فمن هداية هذه الآيات: أنه لا موت في الدار الآخرة أبداً، لا في الجنة ولا في النار، بل الموت هنا فقط في هذه الدار؛ لننتقل إلى الدار الثانية، وما أن أغمض عيني وانقل إلى البقيع ومنه إلى دار السلام، وأما الجنة فوالله لا موت فيها أبداً، والنار كما قلت لكم يموتون فيها ويحييون بلايين المرات في كل ساعة، والعذاب ملازم لهم، والعياذ بالله.
قال الشيخ في النهر: [ قيل لأحد الحكماء: ما شر من الموت؟ قال: الذي يتمنى فيه الموت، وقال الشاعر:
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً وحسب المنايا أن يكن أمانيا
وكون لا موت في الآخرة صح في الحديث إذ ( يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، ويذبح بين الجنة والنار، وينادي منادٍ: يا أهل الجنة! خلود ولا موت، ويا أهل النار! خلود ولا موت ) ] فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ( إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار يؤتى بالموت في صور كبش أملح، ويذبح بين الجنة والنار، وينادي مناد: يا أهل الجنة! خلود بلا موت، ويا أهل النار! خلود بلا موت ). لأن الموت ذبح أمامهم، فتطمئن نفوسهم، فليس هناك من يموت في الجنة أبداً ولا في النار. اللهم اجعلنا من أهل الجنة.
[ رابعاً ] وأخيراً: [ الحث على كثرة الأعمال الصالحة، والبعد عن الأعمال الفاسدة ] فآخر هداية في الآيات هي: الحث على الأعمال الصالحة، والذي حثنا هو الله في قوله: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61]. فهيا نكثر منها ليلاً ونهاراً ولو بذكر الله ونحن في الطرقات ماشين، ونواصل عملنا الصالح ليلاً ونهاراً؛ لأنها أيام معدودة فقط وساعات محدودة، والله هو الذي قال: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61]. فلنكن من العاملين، ولنعمل الصالحات؛ لنكمل ونسعد، وأما هذه الأيام الباطلة الزائلة فليس فيها من خير أبداً إلا ما كان من ذكر الله، فهيا نعيش على ذكر الله عز وجل بهذه العبادات والطاعات.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر