وها نحن ما زلنا مع سورة يس المكية، فهيا بنا نتدارس هذه الآيات المباركة ونتأمل ونتدبر معانيها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس وما نسمع.
بسم الله الرحمن الرحيم: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ * وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ [يس:60-68].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قال ربنا جل ذكره: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يس:60]، وهذا القول يقال لأهل النار؛ إذ تقدم في الآية الكريمة: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59]، وقد امتازوا عن المؤمنين والمؤمنات ودخلوا جهنم، والآن يخاطبهم الله موبخاً لهم مقرعاً، فقال: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس:60] أي: ألم أوص إليكم وصايا بواسطة كتبي ورسلي وأنبيائي وعبادي الصالحين؟
فقد أنزل كتبه وأرسل رسله، والكل يدعو إلى أن يعبد الله تعالى وحده ولا يعبد معه غيره، ولكن عبدوا الشيطان، فكل من خرج عن طاعة الله ورسوله بوسواس الشيطان وتزيينه وتحسينه ودفعه الإنسان إلى ذلك، فكان الشيطان هو المطاع، والمطاع هو المعبود، فمن أطاع الشيطان عبده، ومن أطاع الرحمن عبده؛ إذ الطاعة هي العبادة.
إذاً: يوبخهم تعالى ويقرعهم ليزداد كربهم وحزنهم فيقول: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يس:60]، أي: كيف تعبدونه؟! وهكذا يوبخهم ويقرعهم.
هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:61] وهذا الصراط المستقيم هو عبادة الله وحده، وهو الصراط الموصل إلى رضا الله ودخول الجنة دار السلام، وعبادة الشيطان بطاعته بالشرك والفسق والفجور هو صراط الضلال والطغيان والبغي -والعياذ بالله-، فصاحبه لن ينجو أبداً ولن يسعد، ويميل به الصراط ويصله إلى جهنم، وهكذا يقول تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي [يس:60-61]، أي: عهدت إليكم ووصيتكم بعبادتي، هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:61] وهو عبادة الله وحده وصاحب هذا الصراط لن ينتهي به إلا إلى الجنة.
ثم قال تعالى: أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس:62] أي: أين عقولكم حتى تعبدوا الذي لا يملك شيئاً ولا يعطي شيئاً ولا يضر ولا ينفع، وتتركوا عبادة الذي خلقكم وأكرمكم ويعلم حالكم ويعطيكم ويمنعكم؟
وأقرب معنى: تترك عبادة الحي وتعبد الميت؟! أيعقل هذا؟!
وأي عقل يعبد قبراً لا يستجاب له ولا يسمع نداءه ولا يعطي شيئاً، ويترك عبادة الحي القيوم؟!
حقاً والله! ما له عقل.. يعبد ميتاً ويترك خالق الميت وخالقه الحي الدائم، يترك عبادة الرحمن الذي خلقه وخلق كل شيء من أجله، وهو يسمع كلامه ويرى وجوده ويعطيه ويمنعه، ويتبع الشيطان ويعبده فيعصي الرحمن، والشيطان إنما يدعو إلى الشرك والفسوق والفجور، ولا يدعو إلى عبادة الله أبداً، بل يدعو كذلك إلى ترك الصلاة، وإلى شرب الخمور، وإلى فتح أبواب الربا، وإلى الزنا، وإلى اللواط، وإلى قتل النفس، وإلى الظلم والاعتداء.. وهذه كلها دعوة إبليس الذي يدعو إليها ويزينها ويحسنها، وفي نفس الوقت يكره عبادة الله ويبغضها للإنسان؛ حتى يصرفه عن عبادة الله ويعبده هو عليه لعائن الله.
يقول تعالى: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ [يس:62] يا بني آدم جِبِلًّا [يس:62] أي: خلقاً كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس:62] حينما عبدتم الشيطان ولم تعبدون.
إذاً: الكفر هو الجحود وعدم الاعتراف وعدم الإقرار بما أمر الله بالإيمان به وبوجوده.
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ [يس:63-64] وهم فيها بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [يس:64] أي: بسبب كفركم بالله ولقائه، وكفركم بكتبه، وكفركم برسله، وكفركم بالله ووعده ووعيده.
وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ [يس:67] أي: لمسخهم وهم على مكانتهم موجودون، سواء موجودون في بيوتهم، أو في طرقهم أو في أسواقهم، فإذا هم حجارة لاصقة بالأرض، وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتخفيفاً من آلامه وأتعابه وكربه وحزنه من كفرهم وعنادهم وشركهم وحربهم.
قوله تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ [يس:66] أي: نحن رب العزة لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ [يس:66] أي: يذهب الله بأبصارهم، فلا يرون الطريق التي يريدونها.
ثم قال تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ [يس:67] أي: لمسخناهم قردة أو خنازير أو كلاب أو حجارة عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ [يس:67] أي: يبقون في أماكنهم لا يذهبون ولا يجيئون.
أَفَلا يَعْقِلُونَ [يس:68] لِم ما يعبدوننا؟ ولِم يكفرون بديننا؟ ولِم يحاربون رسولنا وأولياءنا؟
وهذه الآيات آيات هداية الخلق، وعلامات ليهتدي بها الكفار في مكة وفي جزيرة العرب وفي العالم كله، ويدخلوا في الإسلام.
(تقرير المعاد) أي: البعث والدار الآخرة، وبيان ما سيقع ويحدث في تلك الدار، وما سمعناه هو الذي سيقع.
[ثانياً: تأكيد عداوة الشيطان للإنسان].
(تأكيد عداوة الشيطان للإنسان)، والله! إنه لعدو للإنسان؛ لأنه هو الذي وسوس لآدم وحواء فأكلا من الشجرة، فأخرجهما الله سبحانه وتعالى من الجنة وأهبطهما إلى الأرض، وإبليس عندما طلب الله سبحانه وتعالى منه أن يسجد تكبر، وقال: كيف أسجد لمن خُلق من طين وأنا مخلوق من النار؟
فأبلسه الله وأيئسه وطرده، فمن ثم يريد أن بني آدم يدخلون النار معه كلهم، وهذا همه في حياته إلى الموت إلى يوم القيامة يريد أن يفسد بني آدم ليصبحوا مشركين كافرين فسقة فجرة؛ ليدخلوا النار معه، فهي عداوة أصلية قديمة باقية إلى يوم الدين.
[ ثالثاً: عجز الإنسان يوم القيامة عن كتمان شيء من سيء أعماله وفاسدها].
(عجز الإنسان يوم القيامة على أن يكتم شيئاً من سيء أعماله)، لا كذب ولا سرقة ولا فجور ولا شرك، فلا يقوى على أن يجحد شيئاً؛ لأنه إذا أراد أن يجحد يقول تعالى: اسكت، فتنطق أعضاءه فتقول كل ما كان فعله.
أي: عجز الإنسان يوم القيامة على أن يبين شيئاً من أفعاله أبداً، فيأمر الله تعالى فمه فيطمس ثم تنطق أعضاءه كلها وتشهد عليه.
[رابعاً: التحذير من عقوبة الله في الدنيا بالمسخ ونحوه].
التحذير من عقوبة الله عز وجل في الدنيا قبل يوم القيامة، بأن يمسخ الإنسان ويصوره حيواناً أو كلباً أو كذا، أو حجارة أو طيناً، أما قال: وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ [يس:67] وهم في أماكنهم، وَمَنْ نُعَمِّرْهُ [يس:68] أي: نطيل عمره، فإن بلغ سناً يصبح فيها أقل من الطفل قدرة وفهماً وعلماً، وهذا تدبير الله عز وجل وتحذير عباده من الشرك والكفر والفسوق والفجور.
[وأخيراً: مظاهر قدرة الله تعالى في رد الإنسان بعد القوة إلى حالة الضعف الأولى].
مظاهر قدرة الله عز وجل في الإنسان أن يبدأ طفلاً، ثم يكون شاباً، ثم يكون كهلاً.. ثم يكون شيخاً، وبعد ذلك ينتكس فيصبح كالطفل، وهذه من أعظم مظاهر قدرة الله تعالى التي تتجلى في الإنسان، فكيف نقول: كيف يحيينا بعد موتنا، وكيف نؤمن بالبعث والدار الآخرة؟
فلنفكر فقط: أين كنا وكيف كنا؟ وإلى أين سنصل ونذهب؟
فالفاعل لهذا كله لا يعجز عن إعادتنا مرة ثانية؛ ليحاسبنا على كسبنا في الدنيا ويجزينا بذلك، وهكذا السور المكية كلها تقرر عقيدة البعث والجزاء.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر