قال تعالى عن المجرمين:
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ 
[يس:59] (امتازوا) أي: تميزوا وابتعدوا؛ لأنهم كانوا في ساحة واحدة، فأهل الجنة دخلوا أولاً، وامتازوا أيها المجرمون، وورد أن النصارى مع النصارى، واليهود مع اليهود، والصابئة مع الصابئة، والمجوس مع المجوس، والمشركين مع المشركين.. يتميز بعضهم بعضاً.
فقوله تعالى:
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ
[يس:59] أي: الذين أجرموا على أنفسهم فخبثوها ونتنوها، وعفنوها بمواد التعفين والتخبيث والتلويث، ألا وهي الشرك بالله بعد الكفر به، ألا وهو اقتراف الذنوب والآثام، وارتكاب الجرائم، وغشيان الذنوب، والموت على ذلك والعياذ بالله تعالى.
المجرم: الذي أفسد نفسه، وأجرم عليها أي أفسدها بما صب عليها يومياً من أطنان الذنوب والآثام.
ومعنى هذا معشر المستمعين والمستمعات! ألا نقارف ذنباً وإن زلت القدم وقارفت هذا الذنب يجب أن نتوب على الفور، فالندم والاستغفار والعزم الأكيد على ألا نعود لهذا الذنب ما حيينا، فالذنوب في ترك الواجبات وترك فرائض الله، أو ترك واجب من الواجبات التي أوجبها الله، فمن أذنب وأجرم ولطخ نفسه بالظلم والإجرام، والمنهيات أي: ما نهى الله عنه من اعتقاد أو قول أو عمل، وكل ما نهى الله عنه وحرمه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من قول أو عمل أو اعتقاد إلا وهو -والعياذ بالله تعالى- إجرام على النفس وإفساد لها، فيجب ترك ذلك والبعد عنه، ومن زلت قدمه ووقع في معصية من هذه المعاصي فباب الله مفتوح ليلاً ونهاراً، فقل: أستغفر الله. وأنت تبكي، واعزم ألا تعود واندم على ما فعلت؛ حتى تموت ونفسك زكية طاهرة نقية، ولا ننسى حكم الله في هذه القضية، فقد قال:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا
[الشمس:9-10]، وهذا حكم الله الذي حلف عليه بأيمان ما حلف على غيره، فقال:
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا
[الشمس:1-8]، وهذه ثمانية أيمان يحلف بها على هذا الحكم، وهو بمعنى: قد أفلح من زكى نفسه، وقد خاب وخسر من دسا نفسه، والنفس تزكو بالإيمان الصحيح، والعمل الصالح، وتخبث النفس بمادتين: الشرك، والذنوب والمعاصي.
والله تعالى نسأل أن يبعدنا من ساحة الفاسقين والمجرمين والكاذبين، وأن يثبتنا على عبادته صالحين حتى نلقاه طاهرين طيبين.
هداية الآيات
من هداية هذه الآيات: [أولاً: تقرير المعاد].
أولاً: تقرير المعاد، فقد علمتم -زادكم الله علماً- أن الاعتقاد بالبعث الآخر والموت والحياة الآخرة اعتقاد حق، والذي يفقده فقد كل خير، ولا يستطيع أن يتباعد عن الفساد والشر أبداً، فلا بد من أن تعتقد أنك ميت ومبعوث في يوم بين يدي الله وتحضر، ويقول لك: ادخل الجنة أو ادخل النار، وهذه السور المكية كلها تعمل على تحقيق هذا المعتقد وهو: الإيمان بيوم القيامة، والإيمان بالساعة، والإيمان بنهاية هذه الحياة.
[ثانياً: بيان نعيم الجنة].
الجنة كلها نعيم ففيها: الفواكه، الأطعمة، اللحوم، الشراب.. وقل ما شئت، فكل الموجود في الدنيا اسم فقط، أما ما في الآخرة فهو شيء لا يقادر قدره ولا يعرفه إلا الله.. من أنواع الطعام والشراب واللباس، نعيم عام.
[وأخيراً: سلام الله تعالى على أهل الجنة ونظرهم إلى وجهه الكريم].
نعمة النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى أكبر نعمة في الجنة، بل وأعظمها أن يكشف الحجاب عن نفسه ويري عباده وجهه ويسلم عليهم، فعندما ينظرون إلى وجهه ويسلم عليهم يستغنون عن كل تلك النعم ولا يبالون بها، قال تعالى:
سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ
[يس:58]، اللهم! اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم.