ثم يقول تعالى:
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً 
[الأحقاف:12] ومن قبل القرآن الكريم كتاب موسى التوراة، إمام للناس يمشون وراءه يقودهم إلى سعادة الدارين، ورحمة يغمرهم برحمته، فلا ظلم واعتداء ولا فسق ولا فجور، وهذا قبل القرآن، فإذا كنتم تؤمنون بأن التوراة نزلت فلم تكفرون بالقرآن؟ اسألوا اليهود، هذا القرآن جاء بعد التوراة فكيف ينكر؟ كيف يكذب به؟ مسبوق بكتاب أعظم كتاب، وفي ذلك الكتاب نعوت وصفات لهذا الكتاب ومن نزل عليه.
وَمِنْ قَبْلِهِ
[الأحقاف:12] أي: ومن قبل القرآن
كِتَابُ مُوسَى
[الأحقاف:12] الذي هو التوراة
إِمَامًا وَرَحْمَةً
[الأحقاف:12]، الكتاب إمام يقود الناس إلى الجنة، يمشون وراءه ويقودهم إلى السعادة في الدنيا والآخرة، فهو إمامهم، ورحمة تغمرهم.
ولو طبق القرآن في قرية فهل سيبقى ظالم، فاسق، فاجر، حاسد، مبغض، متكبر؟ والله! لن يبقى، لو يطبق كتاب الله -وهو رحمة الله- في أي مكان فسيسود أهل ذلك المكان الطهر والصفاء والإخاء والمودة والحب والولاء، لكن الذي يشاهد من الفسق والظلم والاعتداء نتيجة الكفر، والإلحاد، والفسق والفجور.
معنى قوله تعالى: (وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين)
حقيقة الظلم وأنواعه
والظلم هنا أولاً: الشرك، وظلم النفس بصب الآثام والذنوب عليها، وظلم الآخرين بالكذب عليهم، بسبهم، بأخذ أموالهم، بالاعتداء على أعراضهم، بسفك دمائهم، بالتكبر عليهم، بحسدهم، هذه مظاهر الظلم الثلاثة ما ننساها أبداً: ظلم الإنسان لربه، بأن يعبد غيره، فهو تعالى خلقك يا عبد الله لتعبده، ورزقك وخلق الكون كله من أجلك، ثم تعبد حجراً أو صنماً أو شهوة أو رجلاً أو امرأة؟ أي ظلم أفظع من هذا الظلم؟
فالظلم: وضع الشيء في غير موضعه، فالعبادة من يستحقها؟ والله! لا يستحقها إلا الله، لماذا؟ لأنه هو خالق الإنسان ورازقه ومحييه ومميته، وأعد له الجنة أو النار، هذا الذي يستحق العبادة، فكيف يعبد غيره؟
ولهذا قال تعالى:
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
[لقمان:13]؛ لأن الظلم بيننا هو سلب حقوق الآخرين، فلو تسلب مني هذه الغترة لظلمتني، أليس كذلك؟ لو تأخذ نعلي لظلمتني، إذاً: والذي يأخذ عبادة الله كاملة ويعطيها لصنم أو حجر أو إنسان أي ظلم أفظع من هذا الظلم؟
ثم ظلم الإنسان لنفسه، وهل الإنسان يظلم نفسه؟
الجواب: إي والله إنه ليظلمها، وذلك بصب الذنوب والآثام عليها حتى تتدسى وتخبث وتنتن وتصبح -والعياذ بالله- من أهل جهنم بعدما كانت طيبة طاهرة نقية كأرواح الملائكة، فالذنوب والآثام تصب عليها وتراق عليها بالأطنان كما نشاهد فتصبح منتنة عفنة لا تقبل الهدى ولا تستجيب لداع الهدى ولا تعبد الله عز وجل، وتعيش على الفسق والفجور، فلا يحل لأحدنا أن يظلم نفسه أبداً.
ثالثاً: ظلمك لغيرك من الناس، فلا يحل ظلم أحد كافراً كان أو مؤمناً، ولا قريباً ولا بعيداً، ولا عزيزاً ولا ذليلاً أبداً، فالظلم حرام.
فالذي يسلب مال أخيه أما ظلمه؟ والذي يسفك دمه أما ظلمه؟ الذي ينتهك عرضه فيطأ زوجته أو بنته أما ظلمه؟ الذي يسب المؤمن ويشتمه أما ظلمه؟ الذي يخونه ويغشه في بيع أو عمل ويخدعه أما ظلمه؟ والله! لقد ظلمه.
إذاً: الظلم حرام، حرم الله الظلم على نفسه فضلاً عن غيره، فلا يحل الظلم أبداً، وأعظمه ظلم الشرك والعياذ بالله تعالى، أي: سلب حق الله وإعطاؤه لحجر أو صنم.
حقيقة الإحسان وأثره في العبادات
هكذا يقول تعالى وقوله الحق:
وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ 
[الأحقاف:12] أيها المحسنون، أيتها المحسنات! بشراكم، القرآن يبشركم برضا الله والبعد من عذابه، والدخول في رحمته، والحمد لله، ولكن من هم المحسنون؟
المحسنون: جمع محسن، والمحسنات: جمع محسنة، لكن القرآن ما يذكر النساء، يبقيهن بعيداً هكذا حتى لا يختلطن بالرجال، وإلا فالمقصود الرجال والنساء.
فالمحسن: ضد المسيء، وهو المحسن لعبادة الله يؤديها على الوجه الذي تنتج له الطاقة وتولد له الحسنات، وذلك أولاً بأن تحسن عبادة ربك، من الوضوء، بل من الاستنجاء، العبادة كما هي، والإحسان فيها هو الذي يجعلها أداة لتزكية النفس وتطهيرها؛ إذ النفوس البشرية وهي بين صدورنا -والله- لا تزكو ولا تطيب إلا بالعبادات، فمن هنا يجب أن تكون العبادات مؤداة على الوجه الذي بين رسول الله ونقله عباد الله وبينه للمؤمنين، فلو أن أحداً يصوم ويفسد صومه ما ينتفع به، أو يصلي ويفسد صلاته ما ينتفع بها، لا بد من أداء العبادة على الوجه الذي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ لأن هذه العبادات تزكي النفس، أي: تطيبها وتطهرها، فإذا طابت النفس وزكت وطهرت قبلها الله، ورضي الله عنها وأنزلها بعد الموت في جواره، واقرءوا:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا
[الشمس:9] قد أفلح من زكى نفسه، بم تزكى النفوس؟ هل بالأغاني؟ بالطبول والمزامير؟ بالأضاحيك، بالقمار؟ باللهو وبالباطل؟ والله! ما تزكو على ذلك، ما تزكو إلا بعبادة تعبد الله بها على أن تؤدى كما نزل بها جبريل وبينها رسول رب العالمين، فأيما عبادة لم تؤد على الوجه المطلوب صاحبها ما أحسنها، فبطل مفعولها، فوالله! ما تزكي النفس.
ونضرب المثل دائماً فنقول: قم صل العصر بين يدي فقيه خمس ركعات، فسيقول: لم زدت الخامسة؟ تقول: زدتها لله، فهل يقول الفقيه: صلاتك صحيحة؟ والله! لا تصح، صلاتك باطلة، أعد، فماذا فعل؟ زاد فيها ركعة.
أو صلى العشاء ثلاث ركعات وقال: هي كالمغرب، أو أنا مشغول! فهل هناك فقيه يقول: صلاتك صحيحة؟ والله! لا يوجد.
ولو أنه دخل في الصلاة وقال: الله أكبر، وقرأ السورة وركع وسجد، وترك الفاتحة، فهل هناك فقيه يقول لك: صلاتك صحيحة؟ والله! ما يقول، لماذا؟ ما أداها على الوجه المطلوب، وهكذا كل العبادات يجب أن نحسن أداءها، والله يحب المحسنين في العبادات، والمحسنين إلى عباد الله من كافرين ومؤمنين.
فالإحسان إلى الناس ضد الإساءة إليهم، والإساءة محرمة، فلا حسد، لا كبر، لا عناد، لا مكابرة، لا فسق ولا فجور، لا ظلم، ولا اعتداء، ونحسن إلى من يستحق الإحسان بإطعامه، بكسوته، هذا هو الإحسان العام.
فالله يحب المحسنين، وأما المسيئون فلا، فهل قال تعالى: (والله يحب المسيئين)؟ إنما يحب المسيئين إبليس عليه لعائن الله، والله العظيم! إنه ليحب المسيء حباً عجباً، لماذا؟ لأنه أخوه وأصبح مثله مصيرهما واحد هو الخلود في النار والعياذ بالله تعالى، فهو يفرحه ويضحكه.
هكذا يقول تعالى:
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
[الأحقاف:12] أولاً،
وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ
[الأحقاف:12].
هداية الآيات
والآن مع هداية الآيات.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: اعتبار الشهادة وأنها أداة يتوصل بها إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل، فلذا يشترط عدالة صاحبها، والعدالة هي اجتناب الكبائر واتقاء الصغائر غالباً ].
الشهادة ذات أثر بين العباد، ولها قيمة، ولهذا فالذي يكذب في الشهادة يهلك، هذه الشهادة لها أثر كبير في حياة العبد، فلهذا يشترط عدالة صاحبها، الشاهد يجب أن يكون عدلاً لا يظلم ولا يجور، والعدالة هي: اجتناب الكبائر واتقاء الصغائر غالباً، وفعل الواجبات كما بينا في الطريق إلى الجنة.
[ ثانياً: تقرير قاعدة: من جهل شيئاً عاداه؛ إذ المشركون لما لم يهتدوا بالقرآن قالوا: هذا إفك قديم ].
هذه قاعدة عند الناس، وهي: من جهل شيئاً عاداه، من جهل شيئاً ما يقبله ولا يطلبه، والدليل أن المشركين في مكة لما جهلوا القرآن والإسلام كذبوا بالقرآن وما صدقوا به، عادوه لجهلهم به، لو علموا أنه كلام الله ووحي الله لاهتدوا به.
[ ثالثاً: بيان تآخي وتلاقي الكتابين: التوراة والقرآن، فشهادة أحدهما للآخر أثبتت صحته ]، فالقرآن والتوراة من كتب الله عز وجل المتآخية مع بعضها.
[ رابعاً: وجوب تعلم العربية لمن أراد أن يحمل رسالة الدعوة المحمدية فينذر ويبشر ].
فهذه الدعوة عامة، والذي يريد أن يعبد الله العبادة الصحيحة يجب عليه أن يتعلم اللغة العربية، وخاصة إذا أراد أن يكون داعياً؛ لأن الله قال:
لِسَانًا عَرَبِيًّا
[الأحقاف:12]، فإذا لم يكن لسانه عربياً فلن يحسن العبادة ولا الطاعة، فلهذا يجب أن نتعلم اللغة العربية، ولهذا تعلمها الأفغان والهند والعالم أيام كان الإسلام، ويكفيكم البخاري مؤلف صحيح البخاري.
[ خامساً: فضل الاستقامة حتى قيل: إنها خير من ألف كرامة ].
الاستقامة خير من ألف كرامة، ما معنى هذه الكلمة؟ تقول: أنا مستقيم ولكن ما شاهدت كرامة أبداً، فنقول لك: استقامتك خير من ألف كرامة، إذا كنت مستقيماً تفعل الواجبات وتتخلى عن المحرمات سليم العقيدة، ولو ما شاهدت كرامة لا في المنام ولا في اليقظة فما يضرك ذلك، الاستقامة خير من ألف كرامة، غيرك سقطوا وهبطوا وفجروا وأنت مستقيم، إذاً: هذه خير من ألف كرامة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.